محاكمة روجيه جارودي!
الموقف الذي يواجهه المفكر الفرنسي الكبير الذي أعلن إسلامه أخيرًا وسَمَّى نفسه «رجاء جارودي» — موقف تقديمه للمحاكمة بتُهمة «العداء للسامية» — ذلك الموقف، لا أعتقد أنه يخص فرنسا أو المفكِّر الفرنسي المسلم وحدهما بقدر ما يخصُّ الأمة العربية مجتمعة ومنفردة؛ فهو موقف لم ينشأ من فراغ، وليس منفصلًا أبدًا عن كفاح الشعوب العربية والشعب الفلسطيني، ومن أجل استعادة الوطن الذي الْتهمتْه الصهيونية اليهودية، واقتطعته من جسد أمة بأكملها، وتربَّعت عليه فيما يُصبح اسمه الآن «دولة إسرائيل».
إننا نعادي الصهيونية ونحارب — أو نزعم أننا نحارب — «إسرائيل»، ولكني أعتقد أن قليلين جِدًّا في وطننا العربي، وهم الذين يُقدِّرون بالضبط حجم وفاعلية العدو الذي نحاربه. ذات مرة، وأنا أتأمل كنه هذا الأخطبوط الذي نحاربه كتبتُ: كنتُ أتمنى لو كُنَّا نحارب إحدى القوتين العُظميَين، أو حتى كليهما — رغم أن هذا مستحيل — بدلًا من ذلك الشعب المتعصب المجنون الذي نحاربه؛ فقد كُنَّا — لو حاربنا إحدى القوتين العظميين — سنُحارب حكومةً أو جيشًا، لكننا لن نكون أبدًا بهذه الحرب نحارب شعبًا، وقد كان الفيتناميون يُحاربون الولايات المتحدة في فيتنام، ولكنهم كانوا يحاربون الجيش الأمريكي، أو بالأصح البنتاغون، وعلى أكثر تقدير أصحاب المصالح الحاكمة في الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يكن الفيتناميون يُحاربون الشعب الأمريكي؛ إذ إن هذا الشعب كان ومنذ بداية التدخل الأمريكي ضد هذه الحرب، بل وانتهت تلك الحرب حين وقف الشعب الأمريكي بأجمعه ضدَّها، بل المُضحك أن اللوبي اليهودي الإعلامي الأمريكي وقف ضد هذه الحرب، ولسبب لو تعلمون خطير؛ فإني أعتقد أن هدف اليهود الأمريكيين الذين يُمسكون بزمام الأمور في أمريكا كان: إخراج الجيش الأمريكي الموجود في آسيا بسببٍ غير حيوي، ألا وهو المحافظة على هيبة أمريكا ضد الشعب الشيوعي في آسيا، وتلك مهمَّة ليست حيوية بالضرورة للمصالح الأمريكية، أو بالأصح للمصالح اليهودية، إخراج الجيش الأمريكي من جنوب غرب آسيا ليتفرَّغ تمامًا للشرق الأوسط، التدخل المباشر فيه ساعة اللزوم بواسطة قوات الانتشار السريع، وتعضيد وحماية الغزو «الإسرائيلي-الأمريكي» لاكتساح المناطق المتاخمة ﻟ «إسرائيل»، وأيضًا لتخويف بقية الدول العربية البعيدة مثل الجماهيرية الليبية والجزائر وحتى مصر والعراق، بحيث تتهيأ لجيش «الدفاع الإسرائيلي» الفرصة الكاملة ليبتلع ما يشاء من لبنان والضفة الغربية والجولان وغزة والقدس، وتدخل المنطقة في عصر السيادة الإسرائيلية المدعومة بالسلاح والنفوذ والمحاربين الأمريكان، وتحت حماية مظلة أمريكية مؤلَّفة من حاملات الطائرات ومشاة البحرية والطيران الأمريكي وقوات الانتشار السريع … إلى آخره … إلى آخره.
تمنيت لو كُنَّا نحارب أمريكا نفسها، إذًا لكانت مواجهتها بل وحتى الانتصار عليها مسألة ممكنة، أمَّا أن نحارب ذلك العدو الغريب المُسَمَّى ﺑ «إسرائيل»، والذي ليس في حقيقة أمره سوى كل يهود العالم مُتنكِّرين ومُنتشرين في كافة الدول، وبالذات الكبرى منها، والذي يحكم ويتحكَّم في مصير أكبر وأقوى دولة غربية ظهرت للآن، وكذلك في باقي دول الغرب، وحلف الأطلنطي وبعض دول العالم الثالث، فتلك هي المسألة الصعبة كما يقولون.
ولنأخذ محاكمة جارودي مثلًا.
لقد استطاع اللوبي اليهودي المُتحكِّم في العقل الفرنسي، رغم رُقيِّ ذلك العقل، ورغم ما يحمله من تقاليد الحرية والإخاء والمساواة، استطاع اللوبي التسلُّل إلى ذلك العقل الفرنسي من خلال أرقى أشكال الدعاية فيه — المسرح والسينما والغناء والموسيقى، ثُمَّ الصحف وكتاب الرأي، والمواد الموجَّهة إلى المواطنين الفرنسيين العاديين. لوبي يهودي مُتكاتِف في غاية الذكاء والترابط، استطاع أن يغسل مخَّ الشعب الفرنسي من كبار مثقَّفيه إلى رجل الشارع، وكما فعل في أمريكا استطاع أن يُجنِّد الكاثوليك الفرنسيين إلى الدين الجديد «الجودو-كريسيانتي»، ويُحمِّلهم أوزار تاريخ اليهود كله، ويجعلهم يتبنون تلك الكذبة المزعومة عن ضَخامة الضحايا اليهود أثناء الحكم النازي في ألمانيا، رغم أن أيدي شارون وإيتان بيجين لا تزال تقطر بالدم العربي. يَنجح هذا اللوبي في أن يخلق قضية تشغل كل صفحات الجرائد وساعات بث برامج التليفزيون والراديو عن ذلك النازي الهارب إلى إحدى دول أمريكا اللاتينية، والذي سلَّمته في النهاية إلى «إسرائيل» كدقٍّ مُستمِر على وتر ما حدث لليهود، ولليهود فقط، في معسكرات الاعتقال، وتحميل الأوروبيِّين جميعًا وزر ما اقتَرَفه هتلر ليس ضد الإنسانية كلها، وإنما ضد اليهود على وجه التحديد … استَطاع اللوبي في فرنسا، وأنا شخصيًّا كنتُ قد يَئِستُ تمامًا أن ينجح قطاع من المثقَّفين الأوروبيِّين أو حتى بعض كبار مثقفيه في الإفلات من الحصار الثقافي الفني الإعلامي «الإسرائيلي»، في اكتشاف الحقيقة وراء هذا الضجيج العادي الهائل، والخروج من الدائرة الجهنمية ومواجهة الرأي العام في بلده بحقيقة ما يُدبَّر له ولشعبه، ودور اللوبي في العبث بعقله وبالتاريخ.
كنتُ قد فقدت الأمل في هذا، إلى أن جاءت حكاية جارودي، وقرأت ترجمةً لكتابه الخطير عن الصهيونية، قرأتُ الكتاب وأنا في حالة من النشوة الغامرة، فها هي ذي الأفكار التي طالما راودتني، وطالَما فكرتُ فيها بيني وبين نفسي، واستبعدتُ أن تكون حقيقية عن دور اليهود في عالم اليوم، ودورهم في عالم الأمس، وعن العصابة التي أخذت شكل شعبٍ يَجعل من العهد القديم وطنه الروحي، يُوقف به عجلات التاريخ ويَدفعها كثيرًا إلى الوراء، ويَغتصب بواسطة تعاليمه المزعومة أغلى قطعة في الوطن العربي، عيانًا بيانًا جهارًا، ويقتل ويسفح دم العرب علنًا أمام الملأ، ويُعربد على ساحة الدنيا دون أن يجرؤ أوروبي أو أمريكي أو أية حكومة غربية أن تقول له: «قف.»
هذه الأفكار وجدتها كلها في كتاب جارودي، ليس هذا فقط، بل بصبر العالم والمفكِّر وبحسِّه الدءوب، استطاع جارودي ليس أن يُورد تلك الأفكار المَجنونة فقط، بل وأن يردَّ عليها ويكشف زيفها ويهدم الأُسس التي اتَّخذوها لبُنيان نظريتهم الكاملة عن أنهم «شعب الله المختار» أو «الأسمى» الذي من المحتَّم — في رأيهم — أن يسود العالم كله ويَحكمه، من خلال حكمهم لأقوى دولة فيه، من ناحية أخرى استغلال قوة وإمكانيات تلك الدولة واختلاق وطن قومي لليهود في فلسطين تخضع له المنطقة العربية والشرق أوسطية كلها، وتدين له بالطاعة، ومنه تقوم إمبراطورية يهودية لا تحكم المنطقة فقط، وإنما تحكم وتتحكَّم بالعالم بأسره، بشرقه وغربه، وشماله وجنوبه.
هالني أن الأفكار التي كانت تُراودني عن أحلام اليهودية العالمية وطموحاتها، والتي كنت أعتقد أنها كوابيس شخصية تُراودني، هالني أن أجدها حقائق عند جارودي … والذي هالني أكثر أن تلك الأحلام اليهودية لا يُمكن أن تصمد أمام أي منطق ولو بسيط، يناقشها، بل لا تصمد حتى أمام مناقشة طفل وبمنطق الأطفال محتوى تلك الأحلام والتشنُّجات العصبية المجنونة، ومع هذا استطاع اللوبي اليهودي في فرنسا وفي كل مكان من أوروبا وأمريكا، وحتى في بعض دول العالم الثالث غير المُنحاز، استطاع أن يجعلها حقائق مُسَلَّمًا بها ولا تقبَل جدلًا ولا مناقشة، إلى الحد الذي لا يكتفي فيه اللوبي اليهودي في فرنسا بإشاعتها حتى يؤمن بها الفرنسيون إيمانهم بالأديان أو بالعالم، وإنما حمايتها أيضًا من التصدي لها أو مناقشتها، بحيث يَنجح اللوبي اليهودي العنصري في خلق رأي عام ينجح في جعل ما يُسَمَّى ﺑ «العداء للسامية» جريمة يستحق المواطن عليها المحاكمة، وتَصدُر ضده الأحكام، في حين أن الإلحاد نفسه في تلك الدول المسيحية الكاثوليكية لا يُعتبر جريمة، والكفر والإيمان بالعلم لا يُعتبَر جريمة، ومعاداة الدولة الفرنسية وسب رئيس الجمهورية الفرنسية لا يُعتبَر جريمة، لا شيء خاص بالرأي أو إبداء الرأي في فرنسا يُعتبَر جريمة، الرأي الوحيد الذي يُعتبر جريمة بشعة هو أن يقول أحد رأيه في اليهود أو في معتقداتهم، أو يتصدى لأحلام الصهيونية العالمية، أو أحيانًا ينقد إجرام الدولة الإسرائيلية إذا قرن هذا الإجرام بكونها دولة يهودية.
إلى هذا الحد وصل نفوذ اللوبي اليهودي في فرنسا، وفي العالم الغربي كله.
وصَل وسيطر وهيمَن إلى درجة مخيفة وشاملة، إلى درجة أن أحدًا لم يجرؤ على التصدِّي لهذا التفكير، وقد كنت أسعد حتمًا لو أن مفكرًا ماركسيًّا أو مسيحيًّا أو حتى ملحدًا لا يثمن إلا بقوانين العلم قد تصدَّى لمناقشة تلك الأفكار. كنتُ حتمًا سأسعد لو كان جارودي قد تصدى لهذا الجنون اليهودي المتعصِّب الأعمى، وهو بعد لا يزال قائدًا من قادة الحزب الشيوعي الفرنسي، أو حتى بعدما أُقيل؛ أي كنت أتمنى لو أن مفكِّرًا من داخل حضارة الأوروبية المسيحية — ودون خروج عليها — قد تصدى لمناقشة هذا العبث الصبياني الذي للأسف قد تسلَّح بأقوى وأحدث ما وصل إليه العقل البشري من وسائل الإعلام، ويَحظى بأبوَّة ورعاية المعسكر الغربي كله وعلى رأسه أمريكا. كنتُ أتمنى هذا، باعتبار أن مناقشة تنشأ من داخل تلك الحضارة المسيحية سيكون لها صدى أعمق داخل الرأي العام الأوروبي.
أمَّا وقد شاء جارودي أن يَخرج عن تلك الحضارة كلية، وأن يعتنق الإسلام عن إيمان بأنه الوسيلة المثلى لحياة الإنسان أيًّا كان على سطح الأرض، ثُمَّ يتصدَّى لمناقشة الأفكار اليهودية المغروزة في قلب مجتمعه من خارج هذا المجتمع، إذا كان قد فعل هذا، فأهلًا به داخل حضارتنا السَّمحة، بل وأهلًا به قائدًا فكريًّا من قوادها الفكريين لو شاء. لقد زار جارودي الجماهيرية الليبية، وزار المملكة العربية السعودية، وها هو الآن في القاهرة يحتفل مع مُسلميها بالعيد الألفي للجامعة الإسلامية الكبرى، الأزهر، أهلًا به وسهلًا ومرحبًا …
ولكن جارودي أمامه مهمة كبرى، هي مهمة مواجهة الرأي العام في بلده فرنسا، وفي أوروبا بالتالي، وأيضًا مواجهة ذلك القانون الإرهابي الذي نجح اللوبي اليهودي في إصداره.
فماذا نحن فاعلون لدعم موقف جارودي وهو يواجه «الكودية» الكبرى بأكملها؟
لقد طلب صديقي وزميلي الأستاذ كامل زهيري من قرائه أن يكتبوا لجارودي رسائل تصله وتدعم موقفه وتشيد به.
وهذا أضعف الإيمان.
أمَّا أنا فأطلب من مثقَّفي ومفكري الوطن العربي، وهم كثيرون والحمد لله، أن يتصدُّوا هم للقضية، يتصدون لها على اختلاف مشاربهم، سواء كانوا قادة فكر إسلامي أو مسيحي أو غيرهما. أطالبهم ليس فقط بكتابة رسائل تُرسَل لجارودي وتؤيِّد موقفه، ولكني أطلب منهم ما هو أكثر من ذلك، فإذا كان جارودي قد اختار موقف مواجهة مجتمعه بما يَحفل به اللوبي اليهودي المخيف، فإني أطلب من المثقفين العرب، بدعم من حكوماتهم لو كانت عربية ووطنية وإسلامية فعلًا، أن يشكلوا «لوبي عربي حر» في قلب باريس أثناء النظر بقضية جارودي، يُشكلون تجمُّعًا أو مؤتمرًا يعسكر في قلب باريس أثناء النظر بالقضية، ولا يتعرَّضوا لها؛ فالمفكر الكبير يستطيع بسهولة أن يدافع عن نفسه في المحكمة، إنما تجمُّع يَنتهز فرصة نظر القضية ويُرسل مدفعيته الفكرية العربية الإسلامية الثقيلة، موضحًا بما نَمتلكه من صور ووثائق الغزو الإسرائيلي المتوحِّش للبنان، ومذابح معسكرات صابرا وشاتيلا، الوجه الآخر لعُملة معاداة السامية؛ فنحن في نظر الأوروبيِّين نحن العرب ساميِّين، وهل يُعتبر العداء للسامية بالقول جريمة؟ فما بالك إذا كان العداء للسامية — أي العربية، ولو حتى كانت اليهودية معها — ليس بالقول وإنما بالفعل، بالتوحُّش الحيواني المتعصِّب المَجنون، وقد ارتدى أحدث الأزياء العسكرية والتكنولوجية وأحدث الشعارات التحرُّرية، وأحدث عطور «بيار كاردان» ليُغطِّي على رائحة الدم والقبح المتصاعدة من «هولاكات» أقامها اليهود الإسرائيليون الساميُّون ضد العرب الساميِّين؟ أم إن العداء للسامية لا بُدَّ أن يكون من الأوروبيِّين، فإذا جاء من الساميين أنفسهم لا يُعتبَر عداءً ولا اعتداءً ولا جريمة؟!
وفي مؤتمر كهذا لن نقابل التعصُّب لليهودية بتعصُّب إسلامي أو عربي، حسبُنا أن نعرض قضيتَنا من مُنطلَق بسيط جِدًّا، أبسط منطق، مُنطلَق المنطق العادي للرجل أو المرأة أو حتى الطفل، فما فعله «الإسرائيليون» في لبنان، أحدث مَذابحهم، لا يُمكن إلا أن يمجَّهم ويدينهم أي منطق مسيحي أو لا ديني بسيط بساطة منطق الأطفال.
إنَّ معركتنا ليست فقط بسلاح الكلاشينكوف، إنَّ اللسان أيضًا والفكر الثاقب أحيانًا يفعل ما لا يستطيعه أي كلاشينكوف، وأي دبابة أو طائرة، وهذه فرصتنا للمواجهة الفكرية مع اليهودية والصهيونية، تلك المواجهة التي خسرناها طويلًا، وكثيرًا، وأحيانًا تجنَّبنا خوضها في عقر دارها، واكتفينا بخوضها في عُقرِ دارنا فقط، هذه فرصة السماء لنُواجهها هناك حيث تُعشِّش وتُخيِّم وتَستولي على العقول، والمعركة مضمونة، فقط لو خُضناها، فهل نخوضها؟! ذلك هو السؤال.
إنَّ حرب ٧٣ الفكرية تنتظرنا، وإذا كانت ٧٣ العسكرية قد ضيعها علينا الخونة، فهل نستطيع نحن كمثقَّفين وكمُفكِّرين أن نكسب لأمتنا ٧٣ الفكرية، وفرص الانتصار قاب قوسين أو أدنى مِنَّا؟
إلى باريس، حيث المعركة ستدور، فلنتَّجه ولنجعلها فعلًا معركة، هذا إذا كُنَّا ما زلنا أحياء.
فهل نحن لا نزال أحياء؟!
أقصد المثقفين، والحكومات؟!
فالمثقفون وحدهم وبدون دعم ليسوا سوى أشباح وجود.
هل لا نزال أحياء؟
حكوماتٍ ومثقفين؟!