«صبرا وشاتيلا» البترولية!
تَحضرني بهذه المناسبة قصة طريفة حدثت لي أثناء زيارتي للكويت عام ١٩٧٧، ففي مؤتمر صحفي عُقد لي هناك قُلت: إنَّ البلاد المُستورِدة للبترول وهي البلاد الغربية على وجه التحديد، لا تُعطي العرب ثمنًا لبترولهم، وإنما تعطيهم الثمن وتحدده بناءً على قوة العرب، بدليل أن أسعار البترول لم تبدأ تَرتفِع إلى بعد أن أظهر العرب للغرب العين الحمراء، وبدا أنهم يَقْوُون ويتوحَّدون، ولهذا بدأ سعر برميل البترول لا يَرتفع ولكن يَقفِز من دولار واحد وبضعة سينتات للبرميل إلى السِّعر الحالي؛ أي يقفز ٣٥ ضعفًا، وأن من الممكن أن يؤدي انهيار مصر أو خروجها وتشرذم العرب إلى انخفاض متسارع لأسعار البترول بحيث يصبح ثمن البرميل لو ضَعُف العرب كثيرًا ملاليم أو فلسات معدودة.
ولم تُعجب تصريحاتي الأستاذ عبد الرحمن العتيقي وزير المالية والبترول الكويتي في ذلك الوقت، فسعى لأن يتمَّ بينَنا لقاء «يشرح» لي فيه ما استغلق عليَّ فهمه، وفي اللقاء شجب فكرة أن الغرب يدفع في البترول مقابلًا للقوة العربية، وأن السبب في ارتفاع أسعار البترول عمَّا كانت عليه قبل ١٩٧٣ ليس حرب ٧٣ وليس المقاطعة، ولكن تكتيكات وزراء البترول العرب في «الأوابيك» و«الأوبك»، وتكتُّل الدول المصدِّرة للبترول تحت القيادة السعودية الخليجية البترولية.
ولقد حاولتُ بكل ما أملك من منطق وحقائق أن أُثنيه عن رأيه، ولكن العتيقي عنيد ولم تُثنِه عن رأيه أي محاولات قُمت بها.
الآن أعتقد، أو أرجو أن يُعيد العتيقي واليماني والعتيبة التفكير؛ فالمسألة البترولية أخطر من أن تُترك في يد البتروليِّين وحدهم كما يقول الداهية كيسنجر عن الاقتصاد أنه أخطر من أن يُترَك في يدِ الاقتصاديين وحدهم، فلا شطارة الوزراء ولا التكتيكات ولا التكتُّلات هي التي ستُنقذ «الأوابيك» أو «الأوبك» من الانخفاض المتوقَّع في أسعار البترول.
فلقد اكتشفَ العرب متأخِّرين كثيرًا سلاح البترول في معركة ١٩٧٣، وارتعَدَت فرائص الغرب لهذا الاكتشاف؛ فالعرب يقعدون فوق أعظم كنز اكتشفَتْه البشرية، كنز الطاقة؛ بحيث إن الغرب وعلى رأسه أمريكا في سبيل سيطرته على العالم لا يلجأ فقط لتسليح نفسه ذريًّا وعسكريًّا وتطوير أسلحة دماره الشامل باستمرار، ولكنه في سبيل أن يُحكم قبضتَه على العالم بشرقه وغربه، قرر أن يحتفظ لنفسه بثلاثة أسلحة ربما كانت أخطر من الأسلحة العسكرية؛ ألا وهي: سلاح القمح، وسلاح الطاقة، وسلاح المعرفة التكنولوجية المتقدمة.
بهذه الأسلحة الثلاثة ترى أمريكا أنَّ الدنيا كلها تركع تحت أقدامها، بما فيها الاتحاد السوفيتِّي نفسه الذي يستورد منها القمح ويُحاول أن يستورد التكنولوجيا المتقدِّمة من أوروبا.
لقد أدرك الغرب، ولا داعي لاستعمال كلمة الغرب المضلِّلة، فلنقل الولايات المتحدة باعتبارها قائدة المعسكر الغربي … أدركت أمريكا وأدرك معها اللوبي اليهودي الذي يَحكم أمريكا، وكفانا تخريفًا في محاوَلتِنا للتفريق بين «إسرائيل» واليهود وبين «إسرائيل» واليهوديِّين في أمريكا؛ فاستراتيجية اليهود الثابتة منذ القرن الثامن عشر هي محاولة حكم العالم عن طريق التسلُّل لحكم أقوى دولة فيه، بحيث يَحكم اليهود تلك الدولة وتحكم تلك الدولة العالم، وبهذا يتمُّ ما جاء في خطة حكماء الصهاينة السرية من فرض سيطرتهم على العالم كله، ولقد حاوَل اليهود هذا مع إنجلترا حين كانت إنجلترا تُسيطر على العالم، ووصلوا في محاولاتهم إلى حدِّ تنصيب إزرائيلي اليهودي رئيسًا لوزراء بريطانيا — وهو الشيء الذي لم يحصل من قبل — وحين تخلخَلَت القوة البريطانية وهدَّدت ألمانيا بأن تحتلَّ مكانها، تسلَّل اليهود إلى ألمانيا، وشنت ألمانيا حربها العالمية الأولى، لكنها فشلَت وقام هتلر وحزبه النازي ليكشف أن الرأسمالية اليهودية كانت وراء هزيمة ألمانيا القيصرية في الحرب، وتشتَّت اليهود الألمان، ذهب معظمهم إلى الولايات المتحدة باعتبارها مرشَّحة لتكون أقوى دولة في العالم، ولم يَخلُ الأمر من تسلُّل كثيرين منهم إلى الاتحاد السوفيتي مخافة أن يُصبِح هو الدولة الأعظم، ولهذا ليس عجيبًا أن تؤيد أمريكا قيام «إسرائيل» بعد دقيقة واحدة فقط من إعلان قيامِها، وأن يعقبها الاتحاد السوفيتي الذي تنكَّر كثير من يهوده بأثواب شيوعية فاقعة الحُمرة حتى وصلوا إلى أعلى المراكز في اللجنة المركزية والمكتب السياسي وحتى في حاشية ستالين نفسها.
ولأن الاستراتيجية اليهودية التي ذكرناها ثابتة لا تتغير، فقد وصل اليهود في الولايات المتحدة إلى الاستيلاء على عقل الأمريكان عن طريق الاستيلاء الكامل على دور النشر ودور الإذاعة والتليفزيون والمسارح وهوليوود وصناعة السينما والصحف، وأيضًا وصلوا إلى الاستيلاء على جيوب الأميركان بقبضتهم الحديدية على البنوك الأمريكية وصناعة المال.
ولم يكن غريبًا أن يصلوا بنفوذهم إلى تنصيب هذا الأستاذ الجامعي كيسنجر — بعد تلميعه وإضفاء آيات العبقرية الفذَّة عليه — وزيرًا للخارجية الأمريكية والمسئول الأول عن الأمن القومي الأمريكي؛ أي منصب أعلى بكثير من منصب إزرائيلي أو رئيس وزراء في البلاد الأخرى.
•••
قلت في مستهلِّ الكلمة أن فرائص أمريكا قد ارتعدَت مخافة أن تَسلبهم القوة العربية الصاعدة السلاح الاستراتيجي البترولي وتتحكَّم هي فيه، وهكذا كان لا بُدَّ من رسم خطة جهنمية لإسقاط هذا السلاح من يد العرب، لتعود للولايات المتحدة الفرصة الكاملة للتحكُّم فيه وتوجيهه.
وكانت خطة شيطانية حقًّا؛ فرفعوا أسعار البترول إلى درجات خرافية، وماذا يُهمُّهم من رفع سعره، إن هي إلا بضعة أصفار جديدة تُضاف إلى أرصدة العرب وودائعهم في أمريكا، بمعنى أن الرفع سيكون لمصلحة أمريكا أوَّلًا وأخيرًا، وسيؤدِّي إلى أن تستجيب الدول العربية إلى حِمى البلايين التي أخذَت تَكتسحها وتزيد من كمية البترول المضَخِّ والمُباع نظريًّا كما قلت؛ إذ بربكم، ما حاجة السعودية مثلًا إلى ١٦٠ مليار دولار سنويًّا كدخل من البترول لا يُنفَق منه — رغم التبذير والإسراف الجنونيَّين — إلا بضعة مليارات كل عام، والباقي هو أصفار في البنوك الأمريكية لا تستطيع السعودية لو شاءت أن تَسحَب منها إلا بإذن، وبقدر ضئيل جِدًّا، وبشرط تقديم مسوِّغات سحب ودراسة المشاريع من قِبَل الحكومة الأمريكية والموافقة على الصرف عليها.
اندفعت الدول الخليجية تَرفع إنتاجها الذي أتصور أن أمريكا كانت تَسحبه وتُعيد ضخه في آبارها في تكساس وغيرها حتى تختزن احتياطيًّا يقولون إنه يكفيها ويكفي الغرب لخمس سنوات في حالة المقاطعة العربية الشاملة الكاملة، ولأنَّ كثرة النقود تُغري بكثرة الإنفاق، بل إلى الجنون في الإنفاق، فقد كانت النتيجة أن كثيرًا من الدول والدويلات العربية سحبت على المكشوف، بل واستدانت وغرقَت في الديون، كما فعلت المكسيك جريًا وراء الحلم الدائم أن الأسعار ستظل ترتفع وأن كمية المضخوخ من البترول ستظل في تصاعد.
الخطة الشيطانية إذن كانت بسيطة جِدًّا، إنها الخطة الرأسمالية في جوهرها؛ إغراق الزبون بالمال النظري لتنشأ له مطالب وتطلُّعات كثيرة تستهلك حسابه وتدفعه للاستدانة، وفي الوقت الذي يتمُّ فيه وبخطة أخرى دقيقة مدروسة توفير الطاقة واستهلاك البترول، وبهذا يُصبح المعروض من البضاعة أكثر من المطلوب شراؤه بكثير، فينخفض السعر، وتنقضُّ دول «الأوابيك» و«الأوبك» على بعضها البعض تتطاحَن وتتطاعَن وتتنافس في تخفيض أسعار بترولها من ناحية، ومن ناحية أخرى في كسر الحكر المفروض على إنتاجها أو مخصَّصاتها في الإنتاج، وتكون النتيجة زيادة في المعروض وقلة في الثمن.
هذا عن اقتصاديات الخطة.
أمَّا عن موضوعنا الرئيسي، وهو أن الغرب لم يكن يدفع ثمنًا لبترول العرب بقدر ما كان يدفع مقابلًا لقوة العرب، فتلك مسألة واضحة تمامًا؛ فلو العرب هم الأقوى الآن لكان باستطاعتهم الاتفاق والتنسيق فيما بينهم، بل ولكان باستطاعتهم إدراك الهدف الخبيث الذي كان يبيت لهم من زمن وتحديد كمية المنتج وسعره بحيث لا يتحوَّل أعظم كنز اكتشفته البشرية، لا تتحوَّل ثروتنا القومية البترولية، إلى أصفار زائدة في البنوك الأمريكية، لا يستفيد منها سوى اللوبي اليهودي-الأمريكي من ناحية، ومن ناحية أخرى كان مُمكنًا للعرب — لو كانوا سياسيًّا وعسكريًّا أقوياء — أن يَفرضوا على أرضهم وثرواتهم قوة وجود تكفل للسلعة البترولية ثمنها.
ولكن ما حدث في «كامب ديفيد» وبعد «كامب ديفيد» وما حدث في لبنان أثبَت أن القوة العربية قد تفتَّت نتيجةً لواقع عربي قَبَلي مُتخلِّف، وخطة ذكية بالغة الذكاء من أعداءٍ أكثر تطورًا بكثير، وأن تقوم إسرائيل وحلفاؤها بمذبحة صبرا وشاتيلا وبيروت على مرأى واستكانة معظم البلاد العربية وحكوماتها، لم يكن استعراضًا لقوة العدو فقط، ولكنه كان أيضًا تسجيلًا دقيقًا لمدى الضعف الذي أصاب حكومات العرب.
ولهذا لم يكن غريبًا أن تحدث أيضًا في اجتماعات «الأوبك» مذبحة بترولية لا تذبح فيها الكيسنجرية «الرمز المجسد للتحالف الصهيوني الإمبريالي ضد العرب وضد العالم»، وكما حدث في صبرا وشاتيلا أيضًا، تنوب مخالب القطط المعادية عن العدو في القيام بالمذبحة البترولية، كما قامت بالمذبحة في صبرا وشاتيلا.
وإذا راجعتَ الصحف الأمريكية والأوروبية سوف تُدرك مدى الشماتة التي يُحسُّها الغرب تجاه العرب وبلادهم البترولية، ومدى التلذُّذ الذي تُحسُّه صحافة الغرب، بينما يتولى العرب بأنفسهم تصفية سلاحِهم البترولي بعد أن دخلوا شرك الخطة.
إن الصورة العربية الكاريكاتورية للرجل العربي الفظ الذي يَحمل حقائب المال ويَرتدي العقال ويكشف عن فم مزوَّد بأنياب وكأنه الوحش أو الشيطان القادم ليهتك أعراض نساء الغرب وحضارة الغرب بجشعه وتخلُّفه، قد أزالت تمامًا صورة «شايلوك» اليهودي الذي يقتطع رطلًا من الجسد البشري سدادًا لدينه؛ بمعنى أن الصهيونية في مرحلتها الكيسنجرية قد نجحت في إزاحة صورة يهودية مقيتة وإحلال صورة عربية شديدة البشاعة، ولم يكن ذلك كله إلا تمهيدًا بحيث حين يَهزم الغربُ العربَ عسكريًّا وسياسيًّا في «كامب ديفيد»، وعسكريًّا مرة أخرى في لبنان، وبتروليًّا في اجتماع «الأوبك»، لا يُحسُّ الرأي العام الأوروبي أو الأمريكي إزاء العرب المهزومين إلا بالشماتة والتشفِّي.
وأيضًا — وهذا هو المهم حقًّا — يمهِّد الغرب لعدوان غاشم كادت تَرتكِبه الولايات المتحدة ضد الجماهيرية الليبية الشقيقة، والمحاولة السافلة للإيقاع بينها وبين مصر في الأحداث الأخيرة من «نيميتز» و«الأواكس» ومحاولة الانقلاب المزعومة.
ولكن هذا حديث آخر.