أحداث بيروت وفقر الفكر
إلى أن ينجليَ الموقف في بيروت عن أغرب خروج حدث في التاريخ، دولة كالفتوَّة قد أخذت عاصمةً عربية رهينة على مرأى ومسمع من العالم مُستندةً إلى فتوَّة أعظم، تقتل النساء والأطفال لتُرهِب المقاتلين الرجال وتُرهب العالم، وهكذا بالقوة المُجرمة الغاشمة والعرب أجمعون لا حول لهم ولا قوة. ها هو الخروج الإجباري يحدث، بل وأكثر من هذا تتدخَّل دولة أجنبية وبقوة الغزو والاكتساح تُغيِّر من التركيب الديني لدولة أخرى ولتَفك حكومة ودولة علمانية … لتصنع منها دويلات عنصرية عرقية، وأيضًا على مرأى ومسمع من العالم، وبالذات من العالم الإسلامي المَهيض الجناح في اللعبة الإجرامية كلها.
إلى أن ينجلي الموقف إذن نكمل مناقشة موضوعنا — كما وعَدتُ القراء — عن فقر الفكر وفكر الفقر، وكأنَّما هما موضوعان مُنفصلان، وكأن الحادث في لبنان ليس أيضًا فقر فكر وفكر فقر، وكأن موقفنا من لبنان ليس بعينِه فكر الفقر وفقر الفكر.
الواقع أبدًا لا انفصال بين الحادث في لبنان والحادث لنا، وإذا كان الأطفال يُقتَلون في لبنان وكذلك النساء؛ فإن الأطفال في العالم العربي يَرضعون أفكارًا سقيمةً أشد فتكًا من القنابل العنقودية، والنساء في عالمنا العربي مقتولات روحًا وجسدًا وكرامةً. وكما أن الواقع واحد، فالمعركة أيضًا واحدةً. وإذا كانت الأقلام كلها في كل أنحاء العالم قد أجمَعَت على استنكار الموقف العربي، فهذا المَوقِف لم يأت من فراغ؛ إنه نتيجة محتمة «لفراغ» العقل العربي، وبالتالي انعدام الإرادة العربية؛ فالإرادة والفعل والموقف أشياء لا بُدَّ أن تنبع عن فكرة وتفكير وإعمال هائل للذهن، فإذا لم يكن هناك ذهنٌ يعمل وإذا كان العقل قد خوى إلا من التفكير في سدِّ الغرائز وضمان المستقبل الفردي، إذا كانت دائرة الأفكار قد ضاقَت حتى لم يعد المواطن في مصر أو في غيرها من البلاد العربية يرى إلا ما حولَ وأمام أقدامه مباشرةً، فكيف نطلب منه أن يرى عدوَّه، بل أن يُقاتل أو يُقاوم عدوه.
وأنا هنا لن أبدأ بلوم المُواطن الحالي أو الشاب العربي الحالي، فسوف أكون صريحًا جِدًّا، وليَغضب مَن يَغضب، وأُناقش جذور المشكلة، تلك الجذور التي خلقت وأنبتَت مواطن اليوم، وأثَّرت في العقل ودائرة التفكير المصرية والعربية إلى آخر مدى.
الجذور للأسف تمتدُّ إلى بداية عصر الاستقلال بالنسبة لمصر والعالم العربي.
وكما قلت في مقال سابق عن الهند إن من حسن حظها أن فترة ما بعد الاستقلال كانت امتدادًا طبيعيًّا وديمقراطيًّا لفترة ما قبل الاستقلال؛ بحيث إن حزب المؤتمر الذي قاد معركة الاستقلال بكل القواعد الديمقراطية المعمول بها في أرقى دول العالم، فبعد الاستقلال لم تنشأ دكتاتورية عسكرية أو غير عسكرية في الهند، تَقضي على الديمقراطية وتأخذ الحكم عنوةً وتُقاوم التفكير وليس فقط أي مبادئ يَعتنقِها الفرد، وإنما أي تفكير يَخطر على باله ما عدا التفكير في الإشادة بالحكم الغاشم الذي يَستولي على السلطة في بلده.
وقد يتساءل بعضهم وما علاقة الفكر بالديمقراطية؟ إنَّ الفكر خاصية من خواص البشر يُزاولونها في كل الظروف، وهذا صحيح، ولكنَّ هناك فارقًا كبيرًا بين مزاوَلة التفكير على المستوى الفردي، ومزاولة التفكير على المستوى الجماعي، نفس الفارق بين الذكاء على المستوى الفردي والذكاء على المستوى الجماعي. وأنا حين أتحدث عن فقر الفكر وفكر الفقر، أعني بهما بالذات ذلك الذي على مستوى الجماعة. إن الجماعة — حتى المارة في الشارع — يسودُهم في العادة سلوك وتفكير أقل بكثير من مستوى تفكير الفرد في عزلته؛ ذلك أن عقل الجماعة يأخذ وقتًا طويلًا لينضج، ومهما نضج لا يُمكن أن يصل إلى مستوى نضج عقل الفرد.
والديمقراطية هي الوسيلة الوحيدة، وأقول بملء الصوت ومرة أخرى الوسيلة الوحيدة لتدريب العقل الجماعي على التفكير، وبالتالي على السلوك والتصرف.
ونظرة واحدة لفوضى المرور في شوارع القاهرة تُعطيك فكرة واضحة أن جماعة «السائقين» سواء أكانوا محترفين أم هُواة، جماعة غوغائية محضة، كلها أفعال وردود أفعال صِبيانية، وأنانية لا تجدها إلا عند الأطفال، إنه أيضًا نوع من سلوك الجماعة الناتج عن فكر جماعي متخلِّف لا يرتد إلى النظام — تمامًا كالأطفال — إلا برادع قذًى عيني وغرامة أو حبس، في حين أن الإنسان الحر الناضج ليس في حاجة إلى أن يَخاف ليَتبع القانون، إنه يتبع القانون إيمانًا منه بحق الآخرين عليه، وهذا هو السلوك الناضج الناتج عن فكر ناضج.
ونعود إلى موضوعنا: انبثق استقلال معظم البلاد العربية إمَّا عن أيدي حكومات أو قيادات أو انقلابات عسكرية، أو تلجأ إلى الانضباط العسكري كوسيلة للحكم. والانضباط العسكري ينص على أنك لا بُدَّ أن تنفِّذ أوَّلًا ثُمَّ تناقش، في حين أن الحكم الديمقراطي ينصُّ على أن الإنسان لا بُدَّ أن يناقش أوَّلًا ويُبدي رأيه قبل أن يتمَّ التنفيذ، والتنفيذ لا يتمُّ اعتباطًا، وإنما يتم بأخذ الأصوات، وعلى الأقلية أن تخضع لرأي الأغلبية وأن تُنفذ شرط أن تَحتفظ بحقها في إبداء رأيها المرفوض في أي وقتٍ، باعتبار أنه يمكن أن يكون الرأي الصواب، فليس كل رأي تُجمع عليه الأغلبية صوابًا. وحَقُّ صاحب الرأي في الدفاع عن رأيه والتبشير به مسألة حتمية؛ فكل الرسالات السماوية رفضها الأغلبية حين نزلت ولم تتغيَّر إليها إلا بعد نضالٍ شاقٍّ من أصحاب الرأي والرسالات.
إذن جاءت فترة الاستقلال في بلادنا العربية لنشهد أنواعًا من الحكم والحكومات غريبة، فهي تُحلُّ لك أن تَنقد أي بلد عربي آخر ما شئتَ من نقدٍ على رأي ذلك الإسرائيلي الذي قال يتيه على مواطن عربي: أنا أستطيع أن أقف في أوسع ميدان من تلِّ أبيب وأقول: يسقط بيجين. فقال له العربي: وأنا أيضًا أستطيع أن أقف في أوسع ميدان من ميادين بلدي وأقول: يَسقُط بيجين.
ومهما قيل من أسباب لتبرير الحكومات الشمولية التي صاحبت عصر الاستقلال في البلاد العربية، ومنها أن نَحتاط لمقاومة الاستعمار والصهيونية، وأن أيَّ حرية للرأي تُمنَح سيستغلها الأعداء ﻟ «تضليل» الشعب، وكل ذلك المنطق المُضحِك في سلب الحقوق الديمقراطية لأفراد الشعب مهما قيل مِن أسباب فهي لا يُمكن أن تَغفِر لتلك الحكومات ما فعلت؛ فصحيح أنها حكمتنا بعد الاستقلال، بل وقادَتنا في معارك ضدَّ الاستعمار والصهيونية، ولكن، كما أصبح واضحًا لنا الآن، ليست المشكلة أن نَخوض معركة، وليست المشكلة حتى أن نَكسبها؛ فأهم من خوض المعارك، بل وأهم من كسب المعارك، هو أن يدخل الشعب المعركة قويًّا ويَخرج منها، منهزمًا أو منتصرًا، قويًّا أيضًا، واليابان التي خرجَت من الحرب مهزومة، لأنَّ إنسانها كان قويًّا، ها هو في معركة الصناعة والتطوير التكنولوجي يَنتصِر على أعدائه الذين هزَموه عسكريًّا. لم يكن مهمًّا أن نَنتصِر أو نَنهزم، كان مهمًّا دائمًا وأبدًا أن نُحافظ ونُنمي قوة مواطننا وسلامة تفكيره ونُضج سلوكه؛ فالنتيجة ها هي أمامنا، عالَمنا العربي كله في حالة «هزيمة» منكَرة، رغم أن كل دولة مستقلة، وكلها لها كيان واقتصاد «وفائض من المال، ولكن إنسانها ضعيف».
وإرادتها الجماعية مهزومة. لقد كانت هذه الأمة، وهي في حالة احتلال من فرنسا وإنجلترا أقوى بكثيرٍ مما هي في عهد الاستقلال.
جاءت إذن حكومات ما بعد الاستقلال وأخذت زمام التفكير كله في يدَيها، ويا ويل العالم العربي وحتى العالم كله إذا احتكَرت حكوماتُه التفكير؛ فالحكومات لا تفكر ولا تستطيع أن تُفكِّر، وهي تفكِّر بقوات أمنها ومخبريها فقط، تفكر بأدواتها التي تقهر بها المواطن أو مجموعة المواطنين؛ فالحكومة، أي حكومة، ليست سوى جهاز، ولم تَفعل بلادنا العربية بذلك الجهاز إلا استعماله وسيلة للمحافظة على أمنها، أو بالضبط أمن مَن بيده السلطة، ولأنه كان في الغالب جاهلًا، فإنه كان يُعادي التفكير لله في لله، باعتبار أن أي تفكير لا بُدَّ أن يكون موجهًا ضده أو هو تفكير للتآمُر عليه، بل حتى التفكير الذي معه، حرَّمه على أنصاره. ولا يوجد في أي بلد عربي حزب حقيقي نستطيع أن نُطلِق عليه حزبًا، هناك تابعون كثيرون، ولكن الأحزاب، كوسيلة تدبير وتخطيط وتفكير، كمدرسة يَدخُلها المواطن الشاب يتعلَّم فيها حقوقه وحقوق غيره، يتعلم فيها الممارسة الديمقراطية الحقَّة، يتعلم فيها كيف يكون له رأي وكيف يُبدي رأيه ذلك، وكيف يستمع إلى آراء غيره، وكيف يُقنع وكيف يقتنع؛ هذا كله غير وارد وغير حادث وغير موجود في بلادنا العربية قاطبة.
وإذا كانت بعض بلادنا العربية لا تزال توجد فيها بقيَّة من أناس كهؤلاء يَملكون القدرة على مزاولة التفكير، فهم للأسف ليسوا نتاجًا لمرحلة الاستقلال، إنما هم للأسف مرة أخرى، نتاج للفترة التي كان يَحكُمنا فيها الاستعمار ويسمح لنا بمزاولة نوع من الديمقراطية وحرية التفكير.
وقد كان مفروضًا في الثورات الوطنية التي تقوم في أنحاء الوطن العربي، بادئة بمصر، أن تقوم الثورة لتُوسِّع من رقعة الديمقراطية إلى آخر مدى وأن يَقوم بقيامها عيد كبير للتفكير والأفكار، يَطرح فيه كلُّ مواطن مصري رأيه في مصر اليوم والغد وكيف يجب أن تكون، وتتشكَّل من خلال الطرح مدارس واتجاهات وأحزاب جديدة، وتَزدهِر الحركة الديمقراطية باعتبار أن الثورة قامت ردًّا على إجراءات دكتاتورية اتخذها الملك وأحزاب الأقلية، وكان مفروضًا أن تكون ثورةً لرد الحقوق الديمقراطية للشعب، وليس كما حدث وكان ثورةً لسلبِ كل حقوق الشعب الديمقراطية.
ونحن هنا لا نَتباكى على ما فات، ولا نقع في فخ «لو»؛ فهكذا كان حظنا وهكذا كانت ثورتنا، وحتى حين حدَثَت حركة التصحيح في مايو انتظرنا منها ثورة ديمقراطية بعد الثورة الاجتماعية التي من المؤكد أن ثورة ٢٣ يوليو أحدثتها، ولكن ظلَّ مقدار طاقتها الديمقراطية يتناقَص حتى كانت قرارات سبتمبر وأحداث أكتوبر التي جعلَت بعض شباب مصر يَغتال لأول مرة في تاريخ مصر رئيس الدولة.
إنها مأساة فقر الفكر وفكر الفقر، لدى الناس، وبادئةً لدى حكومات ما بعد الاستقلال بالذات، ولنا عودة.