غيِّروا قبل أن تتغيَّروا
ففي مواجهة عالم أصبح يعتقد غزو الجيوش لشعوب مستقلة جريمة شنعاء، يُدان من أجلها المعتدي، بل وتؤلَّف أحيانًا قوات دولية لمساعدة جيش البلاد التي تعرضت للهجوم، ودحر المُعتدي، كما حدث في حرب كوريا مثلًا، وفيما زعمته الولايات المتحدة من هجوم على فيتنام، والمساعدات التي تقدمها أمريكا لحرب العصابات في أفغانستان.
في مواجهة عالم كهذا، تمكَّنت «إسرائيل» من الضرب عرض الحائط بأي رأي عام عالَمي، وبأي سلطة دولية، سواء كانت هيئة الأمم المتحدة أو مجلس الأمن، ضربت إسرائيل عرض الحائط بكل هذا، وفي وضح النهار غزَت ودمَّرت وذبَحت وقتَلَت، ليس القوات الفلسطينية المُعسكِرة في جنوب لبنان فحسب، وإنما الأهالي الفلسطينية والجنوبيين اللبنانيين العزَّل، بمعنى انتهاك سيادة دولة على أراضيها وانتهاك إنسانية مواطنيها وسكانها، وفي وضح النهار الوصول إلى عاصمة عربية هي بيروت ومحاصرتها وتقطيع مواصَلات الدولة وكل مؤسَّساتها، وعمل هذا كله دون أن تفلح قوة دولية أو عربية في التحرك لصدِّ هذا الاجتياح الذي يعتبر الأول من نوعه في تاريخ العالم الحديث.
وجعلت «إسرائيل» من حصار بيروت وتمزيقها بالقنابل من البر والبحر والجو رهينة تضمن بها جلاء القوات العسكرية لمنظمة التحرير، ذلك الجلاء الذي أصبح كثير من قادة المنظمة ومسئوليها يندمون عليه الآن أشد الندم؛ فهو قد تمَّ بتعهد من أمريكا للمحافظة على المهاجرين الفلسطينيين حال جلاء قوات المنظمة، وكان ارتكان المنظمة إلى هذا التعهُّد خطأً تاريخيًّا بشعًا؛ ففي ظله تمت أبشع مذبحة في القرن العشرين ضد سكَّان مخيَّمي صبرا وشاتيلا.
الخطة الإسرائيلية كانت واضحة وصريحة ولا تقبل أي تأويل آخر. منذ البداية كان واضحًا للعالم كله أننا أمام عصابة مجنونة بالجريمة والتعصب، وأن لا الرأي العام العالَمي ولا المؤسسات الدولية ولا العرب حكوماتٍ وشعبًا ومنظماتٍ … لا شيء من هذا كله مُمكن أن يوقف تلك العصابات عن مخطَّطها ولا عن تحقيق الهدف الجهنَّمي الذي تسعى إليه.
وكان واضحًا أيضًا أنَّ المُجرمين الثلاثة الذين وضعوا الخطة ونفَّذوها لا يَحسبون أي حساب لأي تدخل عربي من أي نوع، وأعتقد أنهم كانوا يَضحكون في أكمامهم كلما نشرت الصُّحف خبر استغاثة رئيس دولة عربية أو ملك من ملوكها، وهو يلهث في طلب التدخل من الرئيس الأمريكي رونالد ريجان، وكأن رونالد ريجان بعيد عن «اللوبي» اليهودي-الأمريكي الذي أضاء النور الأخضر أمام «إسرائيل» ومنحها موافقته ومباركته، وهو نفسه «اللوبي» الذي أرسل ألف عسكري أمريكي، مع بعض الجنود الفرنسيين والآخرين، ذرًّا للرماد في العيون، بل أَستطيع الآن أن أقول: إن إرسال هذه القوات تمَّ سحبها قبل إتمام الجلاء الإسرائيلي، وبعد إعطاء التعهُّد لياسر عرفات، كان جزءًا من الخطة الجهنمية الشاملة، كي تبدو أمريكا أمام حلفائها العرب أنها مهتمَّة باستغاثتهم، وأنها قد فعلت «شيئًا من أجل خاطرهم.» وفي نفس الوقت تكون قد قدمت المؤازرة الحقيقية ﻟ «إسرائيل»؛ فالألف عسكري لا يَستطيعون الوقوف أمام الجحافل الإسرائيلية من ناحية، ومن ناحية أخرى هم يَحولون دون تدخل أي جيش عربي لو حاول أن يتدخل، لأنه سيجد نفسه في هذه الحالة وجهًا لوجه أمام الولايات المتحدة الأمريكية وقوَّتها الضاربة وأسطولها السادس، ومَن يدري ربما حاملة قنابلها الذرية.
وهكذا أستطيع أن أقول إنه، للآن على الأقل، قد نجَحَت الخطة الإسرائيلية تمام النجاح، وبخروج المقاوَمة من بيروت بدأ الفلسطينيون عهد الشتات موزعين حول الدول العربية من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، ومِن مُرتفَعات حلب إلى مضيق البحر الأحمر في عدن والسودان.
نجحت الخطة، ولم يَعُد الفلسطينيون قوة يُحسَب لها ألف حساب في مفاوضات الحكم الذاتي أو غيره، بل إنَّ العرب جميعًا لم يعودوا قوة يُحسَب لها أي حساب في مستقبَل الضفة وغزة والجولان والقدس.
فمصر متمسِّكة بمعاهَدة «كامب ديفيد» أكثر من تمسك «إسرائيل» بها، فللحظة واحدة لم تتمسَّك «إسرائيل» ﺑ «كامب ديفيد»، لقد استولَتْ على طابا رغم أنف المعاهدة، وشنت حربًا ضروسًا طاحنةً على لبنان رغم القول الشهير: «إنَّ حرب ٧٣ ستكون آخر الحروب.» وفي الوقت الذي اكتفت فيه مصر بهذه المعاهدة وتحت التهديد ﺑ ١٧ فرقة مُعسكِرة في النقب تصبح معاهدة «كامب ديفيد» مثل معاهدة ٣٦ مع الإنجليز، ليست معاهدة «شرف واستقلال» وإنما معاهدة «تكتيف وإذلال».
وسوريا أيضًا وحلفاؤها السوفييت أصبحوا في موقف الدفاع عن الأراضي السورية نفسها وعن الجيش السوري الموجود في البقاع.
وكذلك المملكة الأردنية بعد أن رفض الفلسطينيون إعطاءها صكَّ دخول المفاوضات، أعلنت أنها تَنفض يدها من العملية كلها، وغير ملزَمة بدخول مفاوضات الحكم الذاتي.
أمَّا السعودية، فأعتقد أنها لا تستطيع أن تتحرَّك حركة واحدة بعيدًا عن الخط الأمريكي وموقف الولايات المتحدة، الذي هو بالتالي ليس سوى الموقف الإسرائيلي رافعًا الراية الأمريكية.
وحدِّث أيضًا عن بلاد المغرب العربي والسودان واليمنيين.
فأي قوة عربية إذن ممكن أن تُرغم أميركا على أن تُرغم «إسرائيل» على الدخول في مفاوضات الحكم الذاتي بهدف الوصول إلى حكم ذاتي فلسطيني، وليس الوصول إلى حكم ذاتي على الطريقة الإسرائيلية-الأمريكية؟
أي قوة عربية تملك الضغط أو الفرض؟ إنها لا تملك سوى الرجاء تلو الرجاء، وأمور العالم اليوم لا يحلها الرجاء أبدًا، وإنما القوة في مقابل القوة، والفرض في مقابل الفرض.
والموقف الآن واضح كل الوضوح؛ لقد نجحت الخطة الإسرائيلية وتم طرد المقاومة من لبنان، من آخر معقل في مواجهة «إسرائيل»، وتوقفت مفاوضات الحكم الذاتي، ولا أمل باستئنافها إلا على أساس قبول فلسطيني عربي بالشروط الإسرائيلية المدعومة بالمباركة الأمريكية.
فلنكن صريحين مع أنفسنا ونعترف بأن «إسرائيل»، ومِن ورائها أمريكا، قد كسبتا جولة لبنان، وبأتفه ثمن، ثمن زحزحة شارون من وزارة الدفاع إلى وزارة أخرى، ورئاسة لجنة الأمن القومي في الكنيست، ويا له من ثمن نجس قفَزت فيه «إسرائيل» من موقف التأزُّم إلى موقف السيادة شبه التامة على الشرق العربي كله.
والبركة في «كامب ديفيد» أوَّلًا.
والبركة في المواقف العربية الأشد خِزيًا من «كامب ديفيد».
والبركة في واقع عربي لا يُمكن معه إلا التمزُّق والتشتُّت في مواجهة موقف إسرائيلي-أمريكي موحد مُتكاتف متآزِر مسلَّح إلى أقصى مدى بمقوِّمات البطش والقوة.
•••
فماذا نحن فاعلون؟
واضح تمامًا أن كل الطرق التي نَستعمِلها لرأب الصدع العربي المُخيف لم تنجح، بل ولن تنجح أبدًا؛ فالطريق المرسوم طريق فشل مُستمِر وطرق تمزِّق أكثر وأكثر، وهو في نفس الوقت طريق ازدياد القوة والتآلف والتكاتُف بين إسرائيل والولايات المتحدة.
وها هو الملك الحسن يُرسِل رسله تمهيدًا لعقد مؤتمر قمة عربي.
الورقة الأخيرة الباقية لدى العرب، يَلعبون كلما تأزَّم الموقف واحتد، لعبة زهدنا فيها، فهي دائمًا بلا نتيجة، ودائمًا لا تفعل أكثر من تهدئة ثائرة غلاة المُستنكِرين للأوضاع العربية ولسياسة الحكام العرب.
أعطونا الأسبرين إذن تلو الأسبرين، والمخدِّر تلو المخدر، ومؤتمرًا للقمة تلوَ مؤتمر للقمة … والنتيجة ها أنتم ترَونها واضحةً وضوح الشمس، نراها وترَونها ويراها العالم كله …
فهل في جرابكم لعبة أخرى غير المؤتَمرات؟
أمَا آن الأوان لليأس الكامل من أوضاع الحكم العربي الراهن أن تنجَح في مقاومة عدم مجرم رهيب؟
ويكون الموقف التالي المحتَّم على الشعوب العربية هو موقف ضرورة أن تُغيِّر أنظمتها إذا لم تغير أنظمتها من سياساتها الخانعة المتهافتة.
غيِّروا سياستكم، وقِفوا وواجهوا وافعلوا شيئًا قبل أن تُغيِّركم شعوبكم، وفي مدى لا تَستطيعون تبينه.