مسرحية الموسم
شيئًا فشيئًا بدأت أقدامي تتعثر في طوب ثُمَّ رمل وبقايا بياض، ووجدت على بسطة السلم ذات يوم «بوتاجازًا» ضخمًا بفرن كبير من الطراز القديم، بعد شهر لاحظتُ نفس الشيء في الدور الثالث، حين وصل الأمر الشقة المقابلة، ووجدت هذه المرة «بوتاجاز-فرن» كهربائيًّا هائلًا يكاد يَحتلُّ بسطة السلم كلها ولا يَترك لي ولغيري إلا فرجة بسيطة نمرُّ منها. حينذاك بدأت أفكاري تتوقَّف عند هذه الظاهرة وتتأمَّلها، ليس في المنزل الذي نقطنه فقط، وإنما في منازل أصدقاء آخرين أزورهم، فلا بُدَّ أن أجد شقة أو شقتَين قد نكتَتا مطبخهما على بسطة السلَّم أو قارعة الطريق، وثمَّة دقٌّ وحَفر وعُمال وكل الدلائل التي تدلُّ على أن مطبخًا جديدًا في طريقه لأن تُزيَّن الشقة به.
وما هكذا تصورتُ خطورة الأمر وأنا أرى إعلان التليفزيون؛ ذلك الذي يُصوِّرون لك فيه مطبخًا «مش بطال» ولكنه قديم، تَدخله سيدة المنزل وتنظر إلى أدواته بامتعاض، ثُمَّ فجأة «بم» انفجار ينسف كل محتويات المطبخ ودواليبه وطلاء جدرانه، ثُمَّ فجأة وكأنما بعصًا سحرية يتجسَّد لنا في الصورة مطبخ جديد أنيق، كل ما فيه جديد وأنيق، والصورة مصحوبة بكلام محرِّض مُغرٍ تذوب له أذن ربة المنزل، وهو يقول ما معناه: تخلَّصي يا سيدتي من مطبخك القديم وفورًا، يكون لك وفي ٧٢ ساعة مطبخ جديد رائع من محلات كذا. هذا هو ما نراه في صورة التليفزيون، والفيلم الإعلاني مصنوع فعلًا صناعة جيدة جِدًّا، بحيث يسهل تمامًا عملية «النسف» ويسهل جِدًّا عملية «التركيب»، يختصر الزمن والمواعيد وحلول آيات الأناقة والجمال في ٧٢ ساعة فقط … يا بلاش …
وتكون النتيجة أن تصبح ذات صباح فتجدَ مطبخ جارِك الذي كنت تلمحه خلسةً وأنت صاعد السلم وتجد أنه — بالقياس إلى مطبخكم — أنيق وظريف، ويُمكن أن يخدم عشر أو عشرين عامًا أخرى، تجده قد نُسف فعلًا نَسفًا، وامتلأت بسطة سلَّمكم بالحجارة والمونة والأسمنت والجير، وثمة مطبخ جديد قد بدأت تَتوالى قِطَعه التي بالطبع لن تراها أنت وحدك، وإنما — وهذا هو أخطر ما في الموضوع — ستراها السيدة زوجتَك، وحتمًا لا بُدَّ أن يدور في أول فرصة تختليان فيها ذلك الحوار الذي تَستطيع من الآن أن تتنبَّأ به، إن آجلًا أم عاجلًا، وحرام أو حلال، وبالنَّقد أو بالتقسيط، ستَجِد عملية النسف قد تمت أيضًا في بيتكم، وعملية الإحلال قد بدأت، وفعلًا بأبسط طريقة، وبالضبط ٧٢ ساعة. ولكن الذي لا يقوله إعلان التليفزيون، ولا يقوله الصوت المحرِّض المدسوس الذي صُنع خصيصًا ليدغدغ آذان كل زوجة وربة بيت، الذي لا يقوله أن اﻟ ٧٢ ساعة هذه ستكلفك على الأقل ٧٢٠ جنيهًا؛ فالمسألة حقيقة تبدأ بقول الإعلان إن المطبخ سيتكلف مائة وخمسين أو مائتي جنيه، ولكنك حين تأتي لحظة التنفيذ ستجد أو بالضبط ستجد زوجتك أن البوتاجاز القديم لم يعد يليق بالمطبخ الأنيق الجديد، وأن الثلاجة الإيديال التي احتملتكم عشر سنوات آن لها الإحالة إلى المعاش، وإذا كنتَ من إياهم فسوف تجد أن المسالة دخلت في سخانٍ لمياه المطبخ لغسل الأطباق، ولأن خادمتكم العجوز استقالت لتعمل في الشُّقَق المفروشة تدخل العملية في ماكينة لغسل أطباق، ومروَحة، وتجد أن اﻟ ٧٢٠ جنيهًا — التي لا بُدَّ شهقت عزيزي القارئ وأنت تقرؤها — ستَصِل إلى أربعة أو خمسة آلاف جنيه.
كُنَّا إذن نحيا في ظلِّ مطبخ لا نقول قديمًا ولكنَّنا للإنصاف نقول «شغَّالًا»، ويؤدِّي وظيفته على الوجه الأكمل، وكان مُمكنًا أن يظلَّ يُؤدِّي تلك الوظيفة خمسة أو عشرة أو ربما عشرين عامًا أخرى، ولكن كلمة سحرية نطقَتْها أعظم آلة لتعذيب رب البيت — التليفزيون — فجَّرت في بيتكم وبيتنا رنين كلمة «الجديد … الجديد»، لها وقعٌ لا يُقاوَم كلمة الجديد هذه، وسعرها دائمًا أكبر من طاقتك. وهكذا بدلًا من أن كنتَ ناعم البال بعمل تؤدِّيه في الصباح ويُترَك لك المساء فارغًا تصنع به ما تشاء، تبحث كالمَجنون عن عمل في المساء، ولا يكفيك المساء فتبحث عن عمل في ساعات الظهر، أو قد تلجأ للطريقة السهلة الوعرة، وأنتم جميعًا تعرفون ماذا أعني بالسهل الوعر، ولأنَّ كل جديد يصبح بعد عام أو عامين قديمًا، وتبدأ كلمة جديد أخرى ترن وتغري وتسحر، فلا بُدَّ أن نلهث أكثر وأكثر، وتتحوَّل إلى حصان لا بُدَّ أن تجري بأسرع ما يستطيع لكي يجلب نقودًا تشتري الجديد ولوازم الجديد، وإذا تكلمتَ قالوا لك: أصلك خايب، ألم ترَ فلانًا الذي بنى عمارة، وفلانًا الذي يربح في الشهر من عمل واحد ألف جنيه، وفلانة التي فتحت «بوتيكًا» تكسب منه ثلاثين ألف جنيه؟! هذه هي الناس الشاطرة، هذه هي الناس التي فعلًا تعيش، أمَّا أنت، أنت فاقد الهمة، لا تُفلح إلا في التثاؤب ونومة بعد الظهر، وصوتك المجعجع إذا صحوتَ من النوم: ما تعملوا لنا شاي.
هذا النوع من الحياة، النوع اللاهث الذي لا وقتَ فيه لالتقاط الأنفاس، في حاجة إلى ضابط إيقاع يُلهب السائر كي يُسرِع، والمسرع كي يَلهث، واللاهث حتى يَموت. ضابط الإيقاع هذا فن عظيم خطير اسمه: فنُّ الإعلان، وبالذات فن الإعلان التليفزيوني. في تجوالي ببلاد أوروبا وأمريكا أجد نفسي — وأنا الغريب العابر — قد بدأت حُمَّى الشراء تنتابني؛ ذلك أن فن الإعلان التليفزيوني لم يَعُدْ مجرَّد براعة في الإعلان عن بضاعة، وإنما أصبح هو نفسه طريقة إنتاج وطريقة حياة بأكملها، بندٌ كلُعب الأطفال مثلًا، في كل أسبوع تقريبًا يُنتجون لطفلك لعبة جديدة، وأنت باعتبارك أبًا مدلهًا بحبِّ ابنه أو ابنته لا يمكن أن يَحتمل مشهد طفله أو طفلته وهو يُطالبه بأن يقتني تلك اللعبة التي رآها في التليفزيون، إنك حينذاك مُستعِد أن تسرق حتى لتجلب له اللعبة؛ فمطلب الطفل شيء يَشرَخ الصدر ومُحالٌ مقاوَمته، وبعد أسبوع تظهر لعبة جديدة. فكرة المودة مثلًا، يَغيظني تمامًا أن أفتح دولاب الملابس فأجد لي بدلة جديدة تمامًا، لم ألبَسْها إلا لعام أو عامين، مركونة، وأخجَل أن أرتديَها، لأنها تُمثِّل مودة قديمة، فما بالك بالسيدات، ولهنَّ كل عام ولكل فصل من الفصول مودة؟! إنَّ أي فتاة أو سيدة تقطن المدينة في عالَمنا الثالث من المحتَّم أن تجد في دولابها نصف ملابسها على الأقل مُعلَّق لا ترتديه لأنه أصبح «مودة قديمة».
هذا النوع من الحياة يُسمُّونه المجتمع الاستهلاكي، والتسمية في رأيي خاطئة؛ لأن هذا المجتمع لا «يستهلك» ما ينتجه أو يستورده، إنه فقط «يستعمله» لبعض الوقت، ثُمَّ يُرغَم على التخلُّص منه وشراء ما يُسمُّونه الجديد، في حين أن لا جديد فيه إلا بضع تغييرات سطحية تمامًا. خذ السيارات مثلًا؛ إنَّ موتور العربة لم يتغيَّر تغييرًا جذريًّا منذ أن صنَعها فورد الأول، ومع هذا فللسيارة — التي يُمكنها أن تعمل على الأقل لعشر سنوات — في كل عام موديل يميزه عن الموديل الذي سبقه شيء تافه، أحيانًا كل الفَرْق تغيير «الدريكسيون» وموضع آلة التنبيه، ولكن، لأن استعمالك للشيء الذي أُنتج في نفس العام أو اتِّباعك للمودة يعني تميُّزك الطبقي؛ فالناس جميعًا يهفون لهذا التميُّز الطبَقي، وهكذا يُحاولون باستماتة أن يتَّبعوا المودة، ولأن شراء الجديد يتطلَّب نقودًا، وصاحب الدخل هو هو لم يتغير، فلا بُدَّ أن تتغير عدد ساعات عمله، أو بالأصح يَقتل نفسه عملًا ليلاحق هو وأفراد عائلته المودة ويستمتعون بهذا التمايُز الطبقي.
والنتيجة: مليارات الجنيهات، إذا قُسمت على مستوى العالم، تضيع لتغيير الأشياء الكمالية في حياة الناس، مليارات الجنيهات التي لا بُدَّ للحصول عليها من تغيير ملايين الذمم وسقوط ملايين المثُل العليا وإهدار ملايين القيم …
… ماذا لو استُخدمَت هذه المليارات، ليس في تغيير فستان أو حقيبة يد أو ولاعة، وإنما في إنتاج أشياء عظيمة؛ أعمالٍ فنية باهرة، اكتشافات تجلب المتعة والراحة للإنسان، علاج أمراض تحصد ملايين الأرواح كل عام.
واسرح ما شئت من الأحلام، فعاجلًا أو آجلًا ستصحو على ذلك الصوت الساحر المحرض يقول لزوجتك: ماذا تنتظرين يا سيدتي، فجِّري مطبخك القديم، وفي ٧٢ ساعة تحصلين على مطبخ كامل مجهز بأحدث ما وصل إليه العقل البشري من اختراعات وأذواق. وتنظر إلى زوجتك تتمنَّى أن لا تكون قد فطنت إلى الإعلان، ولكنك لو دقَّقت النظر فستجد ملامحها تكشف عن بداية استعدادها للفصل الأول من مسرحية المطبخ الجديد.
(١) وابور السبع وما يجيء
انا واحد من القلائل — خارج سكان وأصحاب عشَش الترجمان — الذين سعدوا أيما سعادة بمشروعهم الجليل، مشروع تحويل قلب القاهرة العشَش إلى قلب هائل خفاق، ونقل السكان إلى مكان أصلح للسكن وللمأوى وللحياة في شكلها الإنساني البسيط، وليس أبدًا في شَكلها السرديني المعلب كما كان الحادث، أنا من القلائل الذين سعدوا لأن لي علاقة خاصة بالحي، وقصة غريبة طويلة، لا بحكم أن مبنى الأهرام يُجاور عشش الترجمان، ولكن بحكم أنني عِشتُ في الحي وعرفتُ أناسه وعن قرب شديد لمست إنسانه النقيَّ نقاءً لا علاقة له بقذارة المحيط أو اصطخاب الشوارع والحواري والأزقَّة، أو الحياة في الحجرات الصفيح الشديدة البرودة في الشتاء الجهنَّمية الحرارة في الصيف، في الحقيقة مدافن أكثر منها مساكن، كان ذلك في منتصف الخمسينيات، وقد كِدنا نَنتهي من فترة الأحلام، وقد عاد «يسري» من منفاه الاختياري في «واو» جنوب السودان، وخرجتُ أنا من المعتقل بعد أن أدَّيتُ ضريبة الحالم الذي يُفيق على أمر واقع، وواقع الأمر أن ثورة تَنشُد حياةً أرقى قد قامت في مصر، وأن علينا نحن الآخرين أن نصع شيئًا، وما دامت الثورة قد منعَتْنا من الاشتغال بالسياسة، فليس أقل من أن نُزامل الطب ونؤدِّي رسالة السياسة في دائرة، وأن تكون محدودة مثل دائرة معالجة المريض والفرد والعائلة، إلا أنها عمل وإرضاء للضمير المؤرق الذي يُريد أن يصنع شيئًا لبلده وأهم ما في بلده، الناس.
ورأينا أن نفتح عيادة مشتركة في حيٍّ شعبي، وبكشف لا يتعدى القروش العشرة، واخترنا عشش الترجمان مكانًا لفتح العيادة.
ولم أكن أعرف عن الحي أو أناسه شيئًا كثيرًا، وما أعرفه أمر لا يُشجِّع كثيرًا على فتح عيادة فيه أو حتى إقامة مستوصَف مجاني، ولكن صديقي وزميلي الدكتور محمد يسري أحمد الذي خُضت وإياه، أنا وصلاح حافظ، ذلك الثالوث المعروف لكلية الطب ثُمَّ للحركات الأدبية الجديدة التي كانت تنمو براعمَ في ذلك الوقت، خُضتُ وإياه مرحلة التجريب في كتابة القصة القصيرة، وانفتح لنا معًا عالم غريب غامض يَجذبنا بعنف ودفء اسمه عالم الفن، خُضت وإياه تلك المرحلة ومضيتُ أنا أكتب بينما كفَّ هو عن الكتابة والتفَتَ للطب الذي بدأتُ أنا — بعد حماسي الشديد له — أزهد فيه.
فكرة العيادة استقَيناها من المرحوم الدكتور إبراهيم ناجي، أستاذنا، والذي لم تمنعه عيادته في وسط البلد من فتح مستوصَف في أفقر أحياء شبرا، مستوصف كان يعامله أهل المنطقة والمرضى فيها معاملتهم لقدِّيس في يده بمجرد اللمس جلبُ الشفاء.
أمَّا الهدف منها فقد انقسمنا، كان هدفي من مُزامَلة يسري في فتح العيادة أن أجرَّه معي مرة أخرى إلى عالم كتابة القصة، وكان هدفه هو أن يَجرَّني أنا إلى عالم الطب الذي تركتُه. وصحيح أن كلينا قد فشل في تحقيق هدفه، وظلَّ هو سادرًا في طبِّه وظللت سادرًا في كتابتي، إلا أن هذه الأيام التي زاملنا بعضنا البعض فيها في عيادة الترجمان لا يُمكن أن تُنسَى. الحي صحيح اسمه عشش الترجمان، ولكنه في الحقيقة مجرد شارع طويل صاخب الازدحام اسمه شارع وابور السبع (أيُّ وابور وأيُّ سبع؟! لستُ أدري) تصبُّ فيه وتأخذ منه مجموعة من الحواري المختلفة العرض والطول الدائرية مرة البيضاوية مرَّة المسدودة في أغلب الأحيان، حَوارٍ وأزقة مكدَّسة هي الأخرى ومُلتوية وكأنها أمعاء غليظة ودقيقة ومُتداخِلة في بطن ذبيحة، وربما لهذا كان للحواري نفس رائحة بطن الذبيحة، وكانت فكرة الحي على الأقل بالنسبة لي مُرعبة، فقبلها لم أكن قد عرفتُه أو مررت به، والمرة الوحيدة التي فقَدتُ فيها طريقي وأنا أُحاول أن آخذ طريقًا بين شارع رمسيس وبولاق، ووجدت نفسي في قلب الترجمان محطَّ نظرات مُستنكِرة متسائلة وإحساس واضح وملموس بالرغبة في العدوان، أحسستُ يومها أني من علُ من شارع رمسيس، وعلى بُعد خطوة سقطت في بئر خُيِّلَ إليَّ أنها مليئة بتجارة المخدرات وقُطَّاع الطرق والهاربين من العدالة الذين يُكنُّون عداءً لا بُدَّ شديدًا للمدينة التي احتلُّوا قلبها بالقوة، وعمَّن تزاحموا في جبِّهم ليَتُوهوا في الزحمة وتصبح هي الغوث والملجأ والأمان، ازدحام وإن بلغ ذروته في الليل إلا أنه في النهار أيضًا قائم ومستمر وموجود، ازدحام يَستنكِر وجودك وسطه، ولا بُدَّ أن تلفظ نفسَكَ منه قبل أن يلفظك هو، وويلٌ لك إذا لفظك.
أكان لا بُدَّ يا يسري أن تختار عشش الترجمان؟
ولكنَّا بسرعة مضَينا في المشروع حتى أصبح بعد ثلاثة أيام حقيقة، وحتى احتوَتْنا شقة محترمة، أجل حتى بمقاييس المدينة مُحترَمة، ولكن المهم هو الطمأنينة، غُرَباء هؤلاء الناس، لا تَلقى منهم إذا أسقطتك الصدفة بينهم إلا نظرات نارية مُعادية، ثُمَّ إذا أثبتَّ حسن نيتك أو عثرت على إنسان مثل محمد أفندي يُعرِّفُك بهم ويُعرِّفهُم بك زال الكابوس في الحال، واستحالوا إلى أناس ودودِين مُبالِغين — دون هدف أو قصد — في ودِّهم وكرمهم وإحاطتهم بك، يُلبُّون لك الطلب قبل أن تنطق به، ومرحِّبين بنا، هم الذين تولوا طلاء الشقة وبياضَها ونقل الأثاث ورفعَه إلى الدور الثاني، ورجَوا صاحب البيت ليَتغاضى عن الأيام الباقية في الشهر، وفي أسبوع أصبحنا جزءًا من الحي، بمجرد أن تضع قدمك في أول وابور السبع تلمَح لافتَتَنا من بعيد؛ الدكتور يسري والدكتور يوسف، وفروع الطب قسَّمناها بالعدل بيننا، ومحمد أفندي جالس يُنظِّم حركة المرور ويرشد طالبي الكشف الذين اكتشفنا أن معظمهم — في الأيام الثلاثة الأولى — كانوا «هدايا» من أهل الحي جاملونا بها وأرسلوا أولادهم وزوجاتهم وأقرباءهم بلا مرض ظاهر لتَمتلئ العيادة بالزباين، وتفتح أنفسنا «للشغل». أجل الشغل، أليس كله، حتى الطب شغل، وما داموا يُجاملون بعضهم بعضًا في شغلهم، لماذا لا يجاملوننا ونحن ضيوفهم في شغلنا؟!
أيام وأشهر وسنون قضيناها في وابور السبع وحواريه، رأينا فيها درجات من الفقر لا يُمكن أن يتصوَّرها البشر، ولكنَّا أيضًا رأينا النفوس حين تعرَّت لنا نقيةً نقاءً لا يُمكن أن يخطر على قلب بشر، هؤلاء الناس الذين أرعبَتْني نظراتهم ذات يوم، ما أروَعَ ما تَحفل به قلوبهم من حسن النوايا ورقيق العواطف، ويَفعلون هذا ليس بسبب فقرهم وحاجتهم إلى التسانُد معًا، وإنما يفعلونه رغم أنف الفقر، يفعلونه لأنه طبيعتهم التي خُلقوا بها. كل ما كان ينغص عليَّ حياتي هو مشهد أكواب الشاي، أكواب شاي بأكملها وقد ذُوِّبت فيها كميات ضخمة من الأفيون يجرعونها، في أغلب الأحوال على الريق، وعلى بطن خاوية يَجرعونها، ما الذي يدفع أناسًا رأسمالهم هو صحتهم أن يصبُّوا هذه الكميات من المخدِّرات في أجوافهم، ألكي ينسوا؟ وما الذي يريدون نسيانه؟ أهو المدينة الكبيرة الدائرة كالطاحونة الهائلة فَوقهم وحولهم، أم حياتهم داخل وخارج وابور السبع؟ الحياة على هيئة أجساد متلاصِقة متدافعة الأكتاف ضيقة الخلق، سريعة الغضب، قاسية الحكم، حياة لا ترحم. حياة كهذه لا يُمكن أن يتحمَّلَها المرء إلا مُكرَهًا إلا وهو إمَّا واعٍ لا بُدَّ أن يَدفعه وعيُه لارتكاب الجرائم وإمَّا وهو فاقد الوعي يشلُّ المخدِّر مراكز حنقِه وسخطه وغضبِه.
ومن هنا يَجيء جانبٌ يُضيء وجه الحياة لغالبية الشعب المسحوقة ويَنتزع من أيدي أصحاب الدخول الطُّفيلية جُنَيهات يُنفِقها على من يَستحقُّونها، إنه حقًّا لمشروع عظيم.
لا يَملك الإنسان أمامه إلا أن يشكر كلَّ من ساهم فيه، فهذا هو انفتاح مصري فائدته ستعود على مصريين، سواء أولئك الذين سيُقيمون العمارات الاستغلالية، أو هؤلاء الذين كان نصيبهم حيًّا جديدًا وشوارعَ جديدةً وشققًا منيرةً واسعةً يدخُلُها الهواء وتَشيع الصحة.
كل ما أرجوه أن يُخلِّف سكان الترجمان في حبهم القديم الذي ستجتاحه البولدوزرات، يخلفوا وراءهم ما كان يَعلق بحياتهم من طفيليات وقاذورات ومخدِّرات وسموم ليَسحقها المَكَن والآلات.
فقط عليهم أن يَحملوا معهم، إلى حيِّهم الجديد، روح عشش الترجمان، تلك الروح التي كانت تؤلِّف بين القلوب وتَجعلُهم في الشدة رجلًا واحدًا وفي لحظات الحاجة أشجع الشُّهَماء، هذه روحٌ أخاف عليها أن تضيع في الشوارع الجديدة الفسيحة، أو أن يقتلها ليل لا تُضيئه أنوار الكلوبات والكهرباء المُلعلعة يسهر حولها الناس ويأتنسون، هذه رُوح أودُّ لها البقاء.
وهكذا لا يكون سكان عشش الترجمان قد استبدلوا مسكنًا خانقًا ضيِّقًا بمسكن نظيف أرحب، وأن يكون «حي» عشش الترجمان قد انتقل إلى «حيٍّ» أو أكثر إنسانية، والحي من الأحياء، ولقد كان سكان الترجمان أحياء عشش الترجمان، ونُريد لهم أن يُنشئوا في الحي الجديد حياة جديدة أيضًا، حياة فيها كل ما كان في حياتهم من مُتعة وحياتهم فعلًا لم تكن تخلُو من المتعة، وفيها أيضًا ما سوف يجبه الشارع الواسع ومدرسة الأطفال والخير القادم العميم، حي وحياة فيهما طب أيضًا وعيادات، لكن القائمين بها لن يَكونوا ضيوفًا قادمين من المدينة، ولكنهم أبناء الحي، وقد أصبحوا أطباء، وبأنفسِهم يُعالجون أهلهم وجيرانهم، أطباء ومُهندسين وعمال وصنايعية.
والمؤكد أنك إذا زُرت الحي الجديد لن تُطالعك أبدًا نظرات الشك الملتهبة والتوجس المخيف.
وأيضًا لن يُطالعك كوب الشاي بأكمله وقد ذوب فيه السم على هيئة مُستحلب الأفيون.
(٢) شكرًا عائلتي الثانية
أنا ابن عائلة.
وهي والحمد لله ليست عائلة إقطاعية أو أرستقراطية أو رأسمالية أو حتى متوسطة؛
إذ هي أكبر من كل هذه العائلات التي مهما بدَت «كبيرة» فهي دائمًا «صغيرة»،
عائلة أفخر بالانتماء إليها، مع أن التفاخُر بالعائلات شيء مرذول حتى في أيام كُنَّا نحيا في نظام العائلات ونُباهي بها.
أنا ابن عائلة كريمة المحتد كما يقولون،
ابن العائلة الطبية.
صحيح أنني اخترت بإرادتي بعد هذا أن أنضوي تحت لواء عائلة الأدب …
ولكن هذا الشرف الذي أُحسُّه كابن للعائلة الأدبية
لا يُضاهيه إلا شرف انتمائي للعائلة الطبية،
ولهذا، فصاعدًا سُلَّم التفاخُر أقول: إني حقًّا كريم المحتدين.
فعلًا، أنا إنسان محظوظ، ويكفيني حظًّا أن طريقي إلى الأدب كان الطب، وحمدًا لله أن الأمر لم يكن العكس.
في رقبتي أيها الأعزاء القراء لعائلتي الطبية هذه دَينٌ كبير، كبير جِدًّا، دين عمري، فالعائلة الطبية بعد أن رعَتْني طالبًا وإنسانًا، وأدَّبتني وهذَّبتني، ثُمَّ أسلمَتْني للعائلة الأدبية ناجحًا جاهزًا، لم تكفَّ أبدًا عن رعايتي من أيامها، إلى يومنا هذا.
ولولا هذه الرعاية ما كنتُ أنا الآن.
وما كانت هذه الكلمات.
والمسألة لا بُدَّ لها من إيضاح.
لا بُدَّ أنه كان مكتوبًا منذ الأزل وفي لوحي المحفوظ أن أخوض صراعًا رهيبًا مريرًا مع المرض، مع أني أبدًا لستُ مريضًا وأبدًا لم أمرض.
ولقد ظلَّت هذه المشكلة تُحيِّرني منذ أمد طويل، وتُحيِّر معي أهلي وأصدقائي، وأنَّهم من أجلها أني أنا الذي أُهمل في صحَّتي وأني أنا السبب، ويصل الأمر حدَّ أن تسألني ذات مرة إحدى المستشرقات: كيف يكون لك هذا الجسد القوي وتَمرض كل تلك الأمراض؟ لا بُدَّ من خطأٍ ما هناك.
وحقيقة، كيف يكون هذا؟ ذلك هو السؤال الذي ظلَّ يُلحُّ عليَّ بلا إجابة تشفي الغليل وأنا حائر مؤمن بَيني وبين نفسي أنه من المستحيل فعلًا أن أكون قد مررتُ بكل هذه الحالات والأمراض التي لا رابط بينها ولا ضابط وخرجتُ منها سليمًا مُعافًى، وفي نفس الوقت أنا حقًّا مررت بها، وبالتأكيد لم أَمُت.
إلى أن قابلتُ فعلًا ذلك الطبيب أو بالأحرى العالم العبقري الذي حلَّ لي اللغز الرهيب، فأنا فعلًا لم أكن مريضًا؛ فالمرض موجود من حولنا وفينا ونحن نعيش لأن في أجسامنا وإرادتنا طاقة مقاومة هائلة لكل أنواع الأمراض، حتى إذا أُصيبت هذه الطاقة بوهَنٍ أو بضَعف، انقضَّ علينا هذا المرض أو ذاك، نختاره من بين الأمراض أو يختارنا حسب الظروف القدرية المحيطة بنا وحسب كم الانهيار الذي حدث لطاقتنا القادمة ونوعها، وهكذا حين أعود وأقاوم وأريد حقيقةً أشفى وأعيش، وليس هذا مجال شرح هذا الموضوع الخطير، بل ولا حتى مجال الحديث عن التوليفة الغريبة من الأمراض التي أصابَتْني أو المفروض أن تكون قد أصابتني، ولكنني أُلخِّص الأمر فأقول، ويقول معي معظم الأطباء الذين عالَجوني، أنَّ إنسانًا حتى في مثل بنياني الجسماني القوي لو كان قد أُصيب حقيقةً بعُشر الأمراض التي أُصبتُ بها لمات وتوكل من زمن.
وهكذا من أجل أن أحيا وأُوجَد، كان عليَّ أن أخوض معركةً رهيبةً مع نفسي ومع إرادتي الداخلية ومع الظروف الخارجية لأظل حيًّا، بلهَ أن أَستمتِع كما يقولون بتلك الحياة بأن أعيش سليمًا ليس فيَّ من خدش.
معركة مرعبة كم كلَّفتني من شعر أسود ابيضَّ، ومن رعب أقرؤه في عيون أهلي وأصدقائي، وأذكر لهم في صمت وبيني وبين نفسي أني أبدًا، هذه المرة أيضًا، لن أموت.
وكان شركائي في معركة الحياة والموت تلك، كوكبة من أنبل وأعظم من عرفت من جنس البشر، كوكبة مُنتقاة من عائلتي الطيبة التي كم افتروا عليها.
إنَّ الدرس الكبير الذي تعلَّمتُه من وقائع حالتي أن الطبيب المصري لا يُضارَع، وأنه بالضرورة طبيب نابغ ما لم تتدخَّل الظروف لتَفرِض عليه الفشل فرضًا. في رقبتي لهذه الكوكبة دَين ثقيل لا أدري كيف أُوفِّيه، باسمكم وباسمي، أرجو أن يتقبلوا عميق الامتنان، شيء لا يُمكن أن يُقارَن بضخامة ما قاموا به، ولكنه يكاد يكون الشيء الوحيد الذي أملكه الآن.
ليسمحوا لي أن أوجه إليهم شكري على الملأ وأنا أعرف أن هذا سيُخجِلُهم وأنهم ليسوا بحاجة إليه، ولكنه حتمًا، والأطباء خير من يَعرفون سيُخفِّف عنِّي بعض القلق.
والحمد لله، مع أن الذي حدث لم يكن مكروهًا، وإن كان معركة أخيرة وفاصلة مع المرض؛ إذ كنتُ قد قررت أن لا أمرض بعد هذا أبدًا، ولهذا فأنا أشكر الآن فقط أطبائي؛ فقد كنتُ وأنا دائمًا أؤجل الشكر لهم لأني كنت على يقين أن علاقتي بهم لن تكون الأخيرة، هذه المرة أنا مصمِّم، بإرادة الله طبعًا، ألا أمرض، وقد يَسخر البعض من تصميمي هذا ويعتبره نوعًا من التفكير الصبياني؛ إذ إني أتحدث وكأنما المرض هو الآخر بالإرادة، فبإرادتك أيضًا ألا تمرض إذا صمَّمت، ولكن هذا حقيقي فعلًا؛ فالمرض أيضًا إرادة، مهما كان نوع المرض، حتى السلُّ والسرطان، فإنه لا يُصيب الجسم أوَّلًا، إنه أوَّلًا يُصيب الإرادة، إرادة البقاء والحياة، وهكذا حين تمرض الإرادة تضعف المقاومة وينقضُّ الميكروب أو المرض على هذا الجزء أو ذاك من الجسد، فيَقضمه، وفي النهاية يقتل الإنسان.
والعلاج ليس أن تقف في ميدان التحرير وتقول: ها أنا ذا أريد الحياة وأريد ألا أمرض.
العلاج أن تجلس مع نفسك في انعزال كامل وتسألها: لماذا أُصيب مركز إرادة الحياة فيك بعطب، وبمجرد إدراك للسبب ستَرفع الغشاوة عن عينيك وتَكتشِف أمامك كل طرق البقاء.
فليَسخَر من يشاء بمن يشاء.
فإني مُوقِن تمامًا أنك لو أردت الصحة بكل ما تملك من قوة، واستجمعت كل ذرة رغبة في البقاء في جسدك، وأردتَ إرادة عظمى، تلك الإرادة الأقوى والأعنف من الموت ومن المرض ومن الحديد، أقوى إرادة مُمكن أن يمتلكها بشر، إذا استطعت هذا، فهو أبدًا ليس بالأمر المُستطاع أو السهل، فستُصبح الصحة بل والسعادة نفسها عند أطراف أصابعك.
والموضوع واسع خطير، وعشمي أن أعود إليه.