ماذا فعلنا برمضان؟
ماذا فعلنا برمضان؟ فأنا لا أستطيع أن أقول: ماذا فعل رمضان بنا؟ فرمضان شهر عبادة وصيام، ومراجعة للنفس وتبتُّل، شهر السهارى، لا لكي يأكُلُوا إلى آخر ثانية إمساك، ولكن ليعيدوا توازنهم النفسي ويراجعوا ما كان من حياتهم وعامهم وحتى يومهم، ويتبينوا الخط الأبيض من الخط الأسود في علاقاتهم بالمولى سبحانه. وفكرة الصيام نفسها هي فكرة الامتناع عن الاستجابة للحاجات الجسدية العاجلة من مأكل ومشرب ومُتَع، حتى لا ينشغل الجسد بالجري وراء تلك المتع، ويتفرَّغ الجسد والعقل جميعًا لما هو أليَق بالإنسان. الإحساس الشامل بالطهر والرغبة الخالصة في السمو بالذات عن متطلبات الحياة اليومية والتواصُل مع الحق ومع العدل ومع الحقيقة الإسلامية الكبرى وجوهرها.
ذلك هو رمضان.
وذلك هو الصيام كما لا بُدَّ أن يَصومه أهل كل كتاب.
ولكن يبدو أننا نحن المصريِّين دائمًا ما نلوي أعناق الأشياء لتلاءم مزاجنا وأهواءنا، ولذلك ما كاد الفاطميون يَجيئون إلى مصر، وهم فرقة من فِرَق الشيعة التي دفعها القهر في الجزيرة والشرق العربي إلى الهجرة غربًا وإنشاء مذاهب شيعية كالإباضية والفاطمية وغيرها، ثُمَّ ما لبث الفاطميون في المغرب العربي أن قويَت شوكتهم وغزوا مصر في النهاية، كما هي عادة مصر أن يكون مقياس القوة لدى أي دولة صاعدة أن تجرِّب عضلاتها في غزو مصر. جاء الفاطميون وأنشئوا القاهرة والأزهر الشريف، وجاءوا معهم بالمذهب الشيعي، وجاءوا أيضًا — وهذا هو الأهم في حديثنا هذا — بكثيرٍ من الطقوس والمهرجانات التي تُصاحب المواسم والأعياد الإسلامية؛ مثل مواكب الفوانيس في رمضان، والتواشيح، وصنع الكعك، واستيراد الياميش، والأكل إلى حدِّ التُّخمة. وحين انتهى الحكم الفاطمي انسحَبَ معه المذهب الشيعي تمامًا من مصر، ولم يُخلِّف أثرًا يُذكَر إلا في المساجد الكبرى التي أُقيمت لآل البيت، وكذلك انسحبت مع الحكم والمذهب كل المظاهر الحضارية التي جاءت مع الغزو الفاطمي، ما عدا الأزهر الذي تحوَّل إلى جامعة كبرى أصبحت منارةً للمسلمين في عهود التمزُّق والتخلف التي حاقت بالأمة الإسلامية والعربية.
ولكن الشيء الوحيد الذي ترسَّخ في الحياة المصرية، وبقي ولا يزال باقيًا إلى الآن، هو مظاهر «الفنطزية» الفاطمية التي كانت تصاحب حلول رمضان والمواسم والأعياد … وهي مظاهر فنطزية؛ لأنها كلها تتعلق بالطعام والشراب والأُنس والسمر، ولا علاقة لها بالمناسبة التي تُقام من أجلها؛ فالمصريون في الريف، وفي كثيرٍ من المدن، يحتفلون بليلة الإسراء والمعراج مثلًا بعشاء فاخر من البط والإوز والدجاج، ومعجزة الإسراء والمعراج لا علاقة لها البتَّة بطعام أو شراب، ولكن هكذا أراد المصريون.
وشهر رمضان هو شهر الامتناع إلا عن الحد الأدنى من الطعام؛ فقد كان المسلم البدوي في صدر الإسلام وفجره وضُحاه يصوم اليوم كله ولا يفطر إلا على قليل من التمر وبعض اللبن المَخضوض إن وُجد، وفي أحيان نادرة يُصيب قطعة لحم حين يتهوَّر أحدهم ويَذبح شاةً ويُوزِّع لحمها على الأهل والجيران والأسباط.
ولكن شهر رمضان في مصر هو شهر الطعام لا شهر الصيام، وقد كنتُ أدهش وأذهل حين أقرأ في الجرائد — قبل حلول رمضان من كل عام — عنوانًا رئيسيًّا ضخمًا يقول: استيراد مائة ألف طن من اللحوم بمُناسبة شهر رمضان … أو توفير كذا ألف طن من السمن والأرز بمناسبة شهر رمضان. كنتُ أدهش، لأن المفروض أن تكون العناوين هي: توفير كذا ألف طنِّ لحم بمناسبة شهر الصيام، أو شهر رمضان يُوفِّر كذا مليون جنيه عملة صعبة قيمة ما كان مفروضًا استيراده من المأكولات والأطعمة.
ولكني لم أعد أدهش لهذه العناوين الفرعية، بل لم أعد أدهش، فأنا أقرأ تصريحات المسئولين عن التموين وهم يذكرون أن الاستهلاك زاد في رمضان بأكثر من ثلاثين في المائة عن متوسط الاستهلاك في شهور الإفطار.
حوَّلنا رمضان إذن من شهر صيام وتبتُّل إلى شهر جشع والتهام للطعام، وادخل أي بيت مصري مهما تواضَعَ دخله وانظر كم ونوع الاحتفال الغريب بوجبة الإفطار، والتفنُّن في عمل السلاطات والحلويات والمُحبشات، واصعد قليلًا في الدرجة ستجد المشويات والمقليات والأرز بالخلطة وبالزبيب وبالبندق والأسماك والمحشيات، ويكون أفراد الأسرة خمسة أو سبعة، فيُحضَّر طعام يكفي عشرة أو أحيانًا عشرين، ويُفطر الصائمون والفاطِرون الذين يَكتفون احترامًا للشهر العظيم بالامتناع عن وجبة الغذاء، حتى «يُفطروا» مع الصائمين، يُفطِرون وتَمتلئ الكروش، ويُصبُّ فوق الطعام السوائل بالأكوام، التمر الهندي والليمون والشاي والقهوة، وعشرات الأكواب من الماء، ويبدأ بخار هذا كله يَفعل فعله، ويتكرَّع الواحد أو الواحدة تكريعة نكراء ويقول: أمَّا كان حتة يوم!
ولو اقتصر الأمر على حدود الطعام لهانت الكارثة؛ فالكارثة الحقيقية أننا حوَّلنا شهر «العبادة» إلى شهر إضراب عن العمل، أو بالأصحِّ إضراب عن الإنتاج؛ فكل شيء مؤجل إلى ما بعد رمضان «كل سنة وأنت طيب»، والعمل مفروض أن يبدأ في العاشرة، وغالبًا ما يبدأ في الحادية عشرة.
وبعد قليل استئذان لأداء فريضة الظهر، وقد تؤدَّى الفريضة أو لا تؤدى، ولكن «الدنيا صيام»، وصاحبنا قد نام بعد «صلاة الفجر» في الثالثة والنصف ورأسه لا يزال يَحفل بالوخم، وأقصاها نصف ساعة أو ساعة، وجريًا إلى المنزل حيث قيلولة يومٍ رمضانيٍّ حارٍّ تمتد إلى ما قبيل الإفطار، بينما الزوجة في المطبخ منذ الصباح تقلي وتُحمِّر، وشعرها منكوش وكأنها تخوض معركة الموت والحياة، ومزاجها عصبي تَصرخ في الأولاد وتُهدِّد بأنها ستترك المنزل وتمشي بلادَ الله لخلق الله، وتلعن الطبيخ والطعام وتنابلة السلطان (بقية الأسرة) النائمين نومة أهل الكهف في انتظار المدفع.
وحتى قبل أن يَضرب مدفع الإفطار تكون فنطزية رمضان الإذاعية والتليفزيونية قد بدأت؛ ففي الإذاعات المختلفة هناك ثماني مُسلسلات (وربما أكثر لا أعرف)، وتُمسك المسلسلة منها فتجد موضوعات سخيفة سخفًا لا بُدَّ أن مؤلِّفه عبقري في قدرته على السخافة. موضوعات مفتعلة ومُصطَنعة وكوميديا لا ضحكَ فيها، وحتى لا وجودَ له حتى على سطح القمر، وأناس يُمثِّلون كلامًا لا أدري من أين يجيئون به، وكله «تسالي صيام»، وكأنها ساعة جوع أو بضع ساعات تذهب بعقل أيٍّ مِنَّا تمامًا وتُحتِّم على الإذاعة والتليفزيون أن يملأ الفراغ العقلي الذي أحدثه الجوع بمزيد من الفراغ العقلي الذي تُحدثه المسلسلات والفوازير.
وما أروع تلك المُعضِلات الفذَّة التي اسمها الفوازير، أنا أفهم أن تقدم الإذاعة أو التليفزيون فوازير تنشِّط العقل وتستدعي إلى الذاكرة معلومات ثقافية، أو تعرِّف المستمع بمعلومات، ولكن أن تصل العبقرية بالفوازير إلى حدِّ أنها لا تضيف معلومة وإنما تنتقص من معلوماتك، فهذا هو الشيء المدهش حقًّا.
وأن أصل إلى درجة أنني قررت ذات مرة أن أستمع لكل برامج رمضان في الإذاعات المختلفة وعلى عدة أجهزة مرة واحدة، استمعتُ إلى الضيوف، ناس من نجوم مصر وساساتها وعلمائها، تُحضرُهم الإذاعة ليقولوا أفرغ كلام مُمكن أن يُقال. ست ساعات إرسال من مختلف المحطات، يُستقدم فيها ناس كبار ليلعبوا معهم لعبة الكراسي الموسيقية و«يهزروا» معهم هزارًا سمجًا، لا يُضحك إلا مقدمي البرامج الذين «نسمع» ضحكهم، وكأن عقل المستمع المصري غير قادر أن يَستوعب.
أُراهنك أن تجلس إلى التلفزيون فعلًا من الساعة الخامسة مساءً وإلى انتهاء البرامج في الثانية والنصف (تسع ساعات ونصف إرسال) في كل قناة، أراهنك أن تخرج بشيء يهزُّك حقًّا، أو على الأقل يجعل عقلك يعمل أو يفكر في التحرُّك، كل شيء يدعوك أن تسطِّح مخك، وأن تستلقي كالمغمى عليه لا يحتاج إلا لعُشر وعي كي يتابع البرامج؛ فكلها برامج «تسلية»، وفي كل تليفزيونات العالم برامج تسلية، ولكنهم دائمًا يضعون أمام أعينهم فائدة المُتسلِّي، فيُغلِّفون الثقافة والمعلومات بغلاف مسلٍّ حقًّا. لقد ذهبتُ منذ شهر أو أقل إلى لندن، وكانت لديَّ أعمال هامة، ومع هذا فلم أستطع أن أغادر الفندق لأنَّ التليفزيون شدَّني إلى مقعدي بطريقة لا أملك معها حراكًا، معلومات ومعلومات، وآفاقًا واسعة تفتحها لك كاميرا التليفزيون تُريك العالم كله وأنت جالس، تُعلِّمك التاريخ، تُريك الجغرافيا، ليست علمًا جافًّا كما كُنَّا ندرسه، وإنما حقائق مذهلة مصوَّرة، العالم حقيقة بين يديك، والمناقشات خطيرة تتناول أدق تفاصيل الحياة هناك، وبالذات مشاكل التعليم والتربية، يشترك فيها آباء وأمهات وطلبة وأساتذة وعلماء؛ بحيث إنني بعد يومين من مشاهدة التليفزيون البريطاني أحسستُ وكأني قرأت أكثر من كتاب عن الحياة في إنجلترا والحياة في العالم أجمع. وليس معنى هذا أن اللوم كله يقع على الإذاعة والتليفزيون، إن صحافتنا أيضًا تشترك في عملية تبطيط عقل الصائم والمواطن؛ فالصفحات الدينية تتحدث عن رمضان وكأنه أول رمضان يصومه المسلمون، وليس كما هو الواقع رمضان رقم ١٤٠٥، تتحدَّث عن رمضان وكأن القراء مجموعة من الجهلة أو كأنهم كانوا بالأمس فقط يعبدون الأصنام. إن الصفحات الدينية في جرائدنا ومجلاتنا تنسى أننا شعب مسلم له تاريخ عريق في الإسلام وفي التعبد وفي معرفة ما يضره وما ينفعه. والفلاح المصري الأمي يعبد الله ببساطةِ الذي أصبح الدين جزءًا لا يتجزأ من تكوينه وكيانه، وهو بالتأكيد أكثر تقوى — إذا كانت التقوى تُقاس بالتلقائية والنوايا الحسنة — من بعض من ينصبون أنفسهم أوصياء على الدين وعلى المتديِّنين بحيث لا يصح في العبادة إلا ما يقولون وما به يشيرون.
كان مفروضًا أن تتحدَّث تلك الصفحات عن القيم العليا الكامنة وراء الامتناع عن المتع الجسدية، كان مفروضًا أن تَنتهِز شهر العبادة وتشرح لنا الحكمة في تشريع طقوس العبادة، كان مفروضًا لا أن تتحدَّث عن «كيف» تُصلي و«كيف» تصوم، ولكن أن تتحدث عن «لماذا» تصوم و«لماذا» تصلي، ولكن ما بين الفنطزية في الإذاعة والتليفزيون والهلوَسة في الصحافة الدينية، يضيع المعنى الكلي لرمضان الكريم، ويبقى الشهر يَنظر إلينا بَرِمًا من عليائه. جموع من الرجال والنساء المسلمين القادِرين على شق الصخر ولوي الحديد تقضي يومها في كسل مروِّع، وليلها في طعام وشراب و«تسلية»، ويضيع من عمر الإنسان شهر لم يكسب فيه عبادة، وإنما «أدى» فريضة، وبشق الأنفس، ويضيع على المصريين كم وافر من الطعام استهلكوه، وكم وافر في الحقيقة من ملايين الملايين من مساعدات الإنتاج لشعب محتاج فقير أُهملت وأُضيعت بحجة الصيام، مع أن الصيام حجة المجتهد، والعمل عبادة في حد ذاته، وأن يهمل المواطن عمله بحجة أنه صائم جريمة دينية وخُلقية ودنيوية أيضًا.
والمملكة السعودية قد وجدت حلًّا عمليًّا لتكاسل الناس في رمضان، فهي في الشهور التي يأتي فيها رمضان في الصيف، تُحول العمل إلى ساعات الليل؛ بحيث تُقضى مصالح المسلمين ولا تتعطل، وبحيث لا يكون الشهر الكريم شهر «إضراب مُقنَّع» عن العمل، وأن يكون شهر عبادة وإنتاج أيضًا.
إن ما نُحدثه في أنفسنا وفي حياتنا من تحويل رمضان إلى شهر جشع طعامي وفنطزية وتسلية وكل شيء ما عدا العبادة والعمل أمر جد خطير، والفوازير التي بدأت خجولة زكيَّة أصبحت عشرات الفوازير المُقتحمة المَحشورة الغبية، والمسلسلات التي بدأت بواحدة في البرنامج العام أصبحت وباءً في كل قناة ومحطة. وتحوَّل المصريون إلى التخمة، فبالقروش التي تأتي من العاملين في الخارج، وبالدين وفوائده الباهظة، تُملأ كروشنا وتنتفخ أجسادنا ونترهل ونتكاسَل ونتثاءب ويكاد يُغمى علينا من الإفراط في النوم والهزل وكل ما لا يمتُّ بصلة إلى الشهر الكريم، ثُمَّ نتمطى ونقول: أمَّا الصيام صعب بشكل.
أي صيام أيها الناس، وأي رمضان؟!