الأثرياء … زعلانون
الأثرياء المصريون ساخطون على الصحافة المصرية باعتبار أنها «انتهزت» فرصة سرقة ١٨ مليون جنيه وتسميم الشعب المصري بلحمٍ فاسد، والاعتداء على أرض الدولة وحيازتها، وأخذ سُلَف من البنوك المصرية بالملايين على حسابها لزوم الأثرياء بمعدَّل مائة مليون جنيه في العام. ساخطون على الصحافة المصرية لأنها بهذه «الحملة» قد خوَّفت رأس المال وجعلتْه يَقبِض يده عن الصرف والعملة السائلة، وجعلت المغتربين المصريين يكفُّون عن تحويل النقود من الخارج، ورفعت أسعار الدولار وزعزعت الثقة في البنوك المصرية الاستثمارية وجعلتْهم يبدون أمام الناس وكأن كُلًّا منهم — لا مؤاخذة — لص وحرامي وسفاح، وكأنه رشاد أو توفيق آخر، في حين أن الأمر ليس كذلك.
والأثرياء جِدًّا المصريون لهم حق في سخطهم.
ولكنهم يَسخطون على الجهة الخطأ.
فلم تكن الصحافة المصرية سوى ناقلة لاتهام ثُمَّ لأخبار تحقيق ثُمَّ لإدانة من النيابة أوَّلًا ثُمَّ من القضاء، وهكذا فعَلت في قضية من ثبتَت براءتهم مثل الكفراوي ومحسن التونسي.
الصحافة هنا إذن لم تؤدِّ سوى واجبها تجاه قرائها باعتبار أن واجبها الأول هو أن تقوم بتزويد القارئ بالأخبار، ومنها أخبار الجرائم وعلى رأسها أخبار جرائم الذمة والمال العام.
هم على حق في سخطهم، ولكنهم يجب أن يسخطوا أوَّلًا على القانون؛ فالقانون هو عدو توفيق ورشاد وغيرهما، وليس الصحافة والقضاء العادل هما عدوَّهم اللدود، فمن يجرؤ على ارتكاب ما فعلوا لا بُدَّ أنه يُناصب القانون والقضاء العداء باعتبارهم خارجين عن مجال نفوذهم وسطوتهم وسيفًا مُسلَّطًا على رقاب أمثالهم.
وسخطهم يجب أن ينصب ثانيةً على أنفسهم؛ فقد كان واجبًا أن تبادر المؤسسات التي يتبعها هؤلاء الناس، ومنها الغُرَف التجارية واتحاداتها واتحاد المستوردين، أن يستنكروا وبشدة هذا الذي حدَث، وأن يقفوا مع القانون ضد الخارجين على القانون، وأن يُؤكِّدوا أن هذا الحادث الفردي أو ذاك لا يَعني أن كل مُستورِد أو مصدِّر غشاش أو نصاب أو مُتطفِّل، وإنما معظم القائمين على أمر الاستيراد والتصدير والتجارة أُناسٌ يُراعون الله وضمائرهم ومصلحة الشعب ككلٍّ في عملهم وربحهم، وأن كل الفئات فيها السيئ وفيها الحسن، وأن ليس معنى أن طبيبًا أخطأ أو كاتبًا زلَّ أن كل الأطباء مخطئون وأن كل الكُتَّاب يزلُّون بطريقة لا بُدَّ أن تتضامن معها نقابة الأطباء أو اتحاد الكتاب للوقوف بجوار المخطئ. إنَّ هذه الطريقة القبلية في «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا» تضرُّ أول ما تضر برأسمالية مصرية وطنية وشريفة تقوم بقدر كبير من مشاريع الإسكان والتصنيع والتجارة والتصنيع الزراعي، هناك آلاف الرأسماليين الشرفاء الذين يُراعون حق الوطن والمواطنين، ووراءَهم مئات الآلاف من أصحاب المئات والآلاف من الجنيهات الذين لم تُزعِجهم حكاية رشاد عثمان ولم يَسحبوا شهادات استثمارهم من البنك الأهلي ولا ودائعهم في بنك مصر ولا هرَّبوا نقودهم إلى الخارج؛ لأنهم يُحسُّون أن مصر هي بلدهم ونقودها نقودهم وحلُّ مشاكلها هو حل لمشاكلهم، أمَّا أولئك الذين يَعتبرون أن حقهم من الربح الفاحش الباطل هو الأصل، وأن مصر ما هي إلا أفواه يملئونها باللحم الفاسد والجبن الفاسد، وإذا تكلم الناس وحقق القضاء ونشرت الصحافة، فهذه هي الجريمة الكبرى، فهؤلاء ليسوا مِنَّا، وبالتالي ليسوا من أغنيائنا الوطنيين، بل هم سُبَّة في جبينهم. ولقد انتظرت بيانًا واحدًا من أيَّة هيئة تضمُّ هؤلاء الأغنياء تستنكر هذه الجرائم، ولا أزال إلى الآن أنتظر، وأخوَفُ ما أخافه أن أظل أنتظر إلى الأبد.
يا أيها الأثرياء الوطنيون، لا يُصيبكم الذعر إذا أُمسك بحرامي أو بمهرِّب أو بغشاش؛ فأنتم في معظمكم شرفاء تُسْدُون أعظم الإنجازات لبلدكم، ومن يخف منكم لا بُدَّ أن على رأسه «بطحة»، فليتفحَّصْها جَيِّدًا، وليُراجع نفسه، وليمضِ بالحَلال ويبني معنا بلادنا، ونحن على استعداد أن يَربح مِنَّا وبنا ما يشاء، فقط لا يغشُّنا، فقط لا يَسرقنا …
أمَّا المذعورون الذين هربوا وهرَّبوا، الذين أوقفوا المشروعات، الذين خافوا ونكصوا، فلا يُهمكم أيها الأثرياء ولا يهمكم أيها الفقراء منهم؛ فهم كانوا سيخافون وينكصون في أي محطة قادمة أو حتى يَقفِزُون من القطار، مثل نشَّالي القطارات والأوتوبيسات، فهدفهم ليس أن تسير القافلة، ولكن أن ينشلوا أكبر قدر من قروش جيوب القافلة.
والله إنها حقًّا لمهزلة، إمَّا أن تُصفِّق الصحافة للغش والسرقة والجريمة، وإمَّا أن تصبح عامل إفساد للحياة الاقتصادية وسببًا لهزة نقدية، وكأن الطبيعي تمامًا أن يَسرقنا البعض ويُسمِّمنا، ونبتلع السرقة ونزدرد السم وعلى وجوهِنا ابتسامة السعادة والرضاء.
(١) وأنا ساخط
أمَّا أنا شخصيًّا فساخِط على صحافتنا المصرية، ولكن لسبب آخر تمامًا، أننا دائمًا نضرب المثل بأمريكا، فلماذا لا نَضرب بها المثل في تلك الواقعة الغريبة التي لا يكاد يُصدِّقها عقل.
شعب يظلُّ لأكثر من عام يأكُل لحومًا فاسدةً، وتُصنع داخل بلده لحومٌ فاسدةٌ، وتُستورد له جُبنٌ فاسدةٌ، وأشياء غريبة جِدًّا لا يكاد العقل يتصورها، بكل همة ونشاط تَنشُر صحفنا الوقائع والتحقيقات. ولكني بالأمس جلستُ أتأمَّل هذا الذي يحدث؛ من أين كانت تأتي هذه اللحوم والأطعمة الفاسدة؟ إنَّ قوانين هيئة الصحة العالمية، وقوانين كل دولة في العالم تسلك تجاه الأطعمة بالذات مسلكًا صحيًّا شديد الصرامة والقسوة، وتُعاقب أي بائع أو تاجر جملة يُعرف عنه أو تُضبَط لديه أطعمة انتهت مدَّتها المُقدَّرة بعقاب قد يصل في حالات مثل التي حدثت عندنا إلى السجن المؤبد.
وهذه الأطعمة لم تَفسد في مصر أيضًا، بل ثبت بالدليل التحليلي القاطع أنها كانت تصل إلى ميناء الإسكندرية وهي فاسِدة ولا تصلح طعامًا للبشر أو حتى للحيوان (فالحيوان أيضًا يمرض من اللحم الفاسد أو الجبن الفاسد)، إذن السؤال هو: من أين كانت تأتي هذه اللحوم؟
قرأت مرة أن بعض السفن كانت تأتي مِن اليونان، ولكن أعرف تمامًا أن الحكومة اليونانية شديدة الدقة في هذا، وأنها لا يُمكن أن تسمح بتجارة أطعمة فاسدة حتى لو كانت للتصدير.
قرأت مرةً أنها من البرازيل، ولكني أعلم أن البرازيل حريصة على سمعة لحومها، حتى المعلب منها، إلى درجة قصوى؛ بحيث إني قرأت مرة أنها أعدَمَت من علب البولوبيف ما قيمته ملايين من الجنيهات لمجرد شك سلطاتها الصحية في طعمِه وليس أبدًا لاحتوائه على «السالمونيلا». من أين وكيف ومن هم التجار أو الوسطاء أو «الأعداء» الذين كانوا يتولون تسويق لحوم فاسدة إلى الشعب المصري عن طريق مصري مارق أعماه الجشع إلى درجة أن يُحلَّ لنفسه أن يكسب مالًا حرامًا ثمنًا لتسميمه لشعبه وبني جلدته؟
هذا هو السؤال.
وهذا ما كنتُ أتصور أن صحافتنا ستُجيب عليه.
ففي أمريكا — التي يحلو لنا دائمًا أن نضرب بها المثل — لم يكن الأمر طعامًا فاسدًا، ولكنه كان مجرد تسجيل لحديث لا يصحُّ من أحاديث نيكسون في بيته الأبيض، ولكن الصحافة هناك — والصحفيُّون هناك — لم يتركوا هذه القشة تمر، ظلوا يَحفرون وراءها حتى خرجوا بالرئيس نفسه وأخرجوه من الحكم.
وموضوع كهذا — سمٌّ بمئات الملايين من الجنيهات — لا يُحرِّك في صحافتنا ليس غريزة البحث عن المتاعب وإنما غريزة البحث عن الحقيقة وكشف الخطط الجهنمية التي استعملتها جهات أجنبية ومصرية لجلب هذه السموم لبلادنا.
كيف لم تتحرَّك الحاسة الصحفية لتتبُّع خيوط هذه الجريمة النكراء، واكتفَينا بأذون الاستيراد التي ربما تكون مزوَّرة، ثُمَّ أين وكيف كان يُعاد تغليف الدجاج والجبن بحيث يُمحى من الغلاف تاريخ انتهاء الصلاحية.
أليسَت هذه مواضيع كان من الممكن أن تلعب فيها الصحافة، ولا أقول وزارة الداخلية بمباحث أمن الدولة (التي يجب أن تكون أيضًا مباحث لأمن الشعب)، وأين صحافة البحث عن «المتاعب» للحصول على خبر؟!
وأمامها الخبر بعرض البحر الأبيض المتوسط وطوله، تَعيث فيه السفن ناقلة وشاحنة وحاملة السم الزعاف للشعب المصري.
(٢) ماذا أفعل بخمسة وعشرين دولارًا؟
أوقعني صديق قارئ من بلد عربي في حيرة عظمى؛ فقد أرسل لي شيكًا باسمي بمبلغ خمسة وعشرين دولارًا، وأرسل رفق الشيك خطابًا يفيض بالإخلاص لشعبنا ووطننا وبلادنا؛ فقد ترامت إلى مسامعه أنباء الأزمة الاقتصادية، ولأن الشهامة لا تنقصنا سواء كُنَّا في الداخل أو في الخارج، عائدين أم مقيمين، فقد حسبَها بينه وبين نفسه ووجد أن عدد العاملين المصريين بالخارج لا يقلُّ عن ٢ مليون مصري، لو تبرَّع كل منهم بخمسة وعشرين دولارًا في السنة لكان الناتج خمسين مليون دولار ممكن أن تُرصد لحل جزئي لمشكلة الإسكان أو التصنيع أو العمالة، وببراءة وبساطة شديدين راح يشرح لي كيف أن الخمسة والعشرين دولارًا لا تُشكِّل أي عبء على أي عامل في الخارج، فهي حتى لأقل العمال أجرًا تشكِّل أجر نصف يوم، نصف يوم كل ٣٦٥ يومًا يتبرع بها العامل في الخارج لبلده الأم، وليس من أجل بلده الأم وحدها، وإنما من أجله هو نفسه بحيث حين يعود بعربته الفارهة أو بنقوده المدَّخرة يجد طريقًا معقولًا يقود فيه عربته، ومسكنًا معقولًا يدفع ثمنه أو إيجاره، وشوارع معقولة يسير على أرصفتها دون أن تدهمه العربات.
إن الذين يعملون بالخارج لا يَدفعون ضرائب لمصر، ومع ذلك فهم مصريون، وهم الذين يُسبِّبون لنا الغلاء وارتفاع الأسعار وتكدُّس العربات، ألا يضعون في عينهم حصوة ملح أو خجل ويَدفعون لبلدهم، ومن أجلهم وليس من أجل القابعين فيه، خمسة وعشرين أو خمسين أو حتى مائة دولار، أجر يوم من ثلاثمائة وخمسة وستين يومًا.
ذلك كان الدافع للصديق القارئ أن يُرسل شيكه، والشيك قد وصَلني أيها الصديق، وللآن لا أعرف ماذا أفعل به ولمَن أُرسله، ولستُ أملك أن أشن حملة قومية في جرائدنا القومية كلها بما فيها من صحف معارضة لأشن حملة من أجل أن يُساهم أبناء مصر المغتربون في بناء مصر المغتربة.
هل أجد عند أحد جوابًا؟!