الجحيم الأرضي
لم أكن أتصور أن العلاقة بين الكاتب والقارئ شيء عميق حقيقي مغور في النفس بكل تشعُّباتها، علاقة مثلها مثل العلاقات الكبرى في حياة الإنسان، الأخوَّة أو البُنوَّة أو الصداقة، لا أريد أن أكتب هذه الكلمات التقليدية وأقول إن لقاءَ القراء أوحشني وأني لا بُدَّ قد أوحشتهم، ولكني أريد أن أتساءل: إذا لم يكن الأمر كذلك، فماذا أفسِّر هذا السيل المنهمر عليَّ طول العام الماضي يَستفسِر: أين أنا؟ ولماذا لا أكتب؟ هل هو منع أو امتناع أو مرض أو تكاسل، أو لعل المانع خير. أسئلة تُقال بصدق حقيقي وبراءة، وليس من ورائها هدف إلا الاطمئنان فعلًا، أنا الآخر كانت تزدحم الأسئلة في رأسي، تُرى ماذا حدث لهذا الخيط الذي كان يَربِطني بالكثيرين؟ ماذا جرى لهذا الصديق الذي أرسَل يَستغيث؟ وللآخر الذي حمَّلني المسئولية كاملة؟ وذلك الذي هدَّد بالانتحار؟ ماذا جرى لأصحاب الكلمات الوَدودة التي كانت تُشجِّعني بما لا طاقة لي به والأقلام الناقدة التي لا تَترُك صغيرة أو كبيرة إلا أحصَتْها وعلَّقت عليها؟
عام أو بعض عام، ولكن يُخيَّل إليَّ أنها — بحقٍّ — عشرات الأعوام قضيتُها منفيًّا في سيبيريا، خاصةً من صنع وسخرية القدر، عام وبعض عام كم تألَّمتُ، وكم صحوتُ مفزوعًا في ليالٍ كثيرة أتساءل: أين أنا من مسئوليتي وأين مسئوليتي مني؟! إنَّ الكتابة عندي، كما أنا وأني أقول: عملٌ في غاية الخطورة، لا يُمكن أبدًا أن آخذها تسليةً أو تلهيةً أو بديلًا عن حياة، إنها هي الحياة في أكثر صورها جديةً ومتعةً وصرامةً، ولا بُدَّ أن شديدًا قويًّا، وقويًّا جِدًّا، هو الذي يَحول بين الإنسان وبين أن يكتب إذا كان كاتبًا، وبينه وبين أن يقرأ إذا كان قارئًا. إن الكتابة عندي حتى ليسَت معانيَ وأحرفًا وسطورًا على ورق، معاني تَنتقِل من عقلٍ إلى عقل عبر شفرة منغمشة على هيئة حروف، الكتابة تعبير كيماوي كهربي بيولوجي حقيقي يحدث في مخ، وماديًّا ينتقل عبر حركة الأصابع إلى الورق ليضع «برنامجًا» كالبرامج التي تُوضَع للعقل الإلكتروني؛ بحيث إذا أُدير البرنامج مرةً أخرى على هيئة قراءة واستقبَلَه المخُّ الآخر أو أمخاخ الآخرين أحدث فيها تفاعُلًا كيماويًّا مؤثرًا، ومُغيِّرًا في تفكير القارئ المُستقبِل وعواطفه وحتى حركة جسده، مؤثرًا، قد يكون أثره للحظة، وقد يكون ليومٍ، وقد يستمر طوال العمر، وحتى تَنقله «جينيات» الوراثة في أحيان إلى الأبناء والأحفاد.
حسنٌ إذن، قد يكون هناك ألف سبب لأني فعلًا كدتُ أتوقَّف حتى عن التفكير طوال هذه المدة، ولكن المؤكَّد أنها كلها أسباب «رغم أنفية»، ولو كان مبعثها المرض، وقد يَستنكِر البعض أن أُعطي كل هذه المساحة لأتحدَّث عن شيءٍ قد يبدو لأول وهلة وكأنه لا يخصُّ القارئ بقدر ما يخصُّني أنا، ولكن الحياة علَّمتني أنه في تلك العلاقة الغريبة المتشابكة، علاقة القارئين بالكاتِبين والكاتبين بالقارئين، لا يُوجد ما يُمكن أن يُسَمَّى بشيءٍ يخصُّ هذا أو ذاك، بل حتى ليسَت الكتابة والقراءة وحدهما، ولكن ما يحدث لأي مواطن ويكون فعلًا أمرًا خاصًّا هو بالضرورة أمر يُهمُّ جميع المواطنين بالضبط مثلما يهم المواطن الفرد الواحد أي شيء يحدث للوطن كله أو للمواطنين.
نحن في قارب هائل واحد، والبحر مُصطخِب هائج، والأمواج عاتية، والرباط المُشترك والمصير الواحد والعلاقة الحميمة بيننا أمرٌ يهمُّنا جميعًا ولا محيص لنا عنه.
ولقد قرأتُ مقالًا للناقد الشاب عبد الرحمن أبو عوف يَتساءل فيه عن «دلالة» صمتي، وهل أقول بهذا الصمت شيئًا من الصعب التعبير عنه بالكلام، والحقيقة هزَّني التساؤل، ليس فقط لأن مشكلة انقطاعي أصبحت مادة للنقاش العلني دائمًا لأني وقفت عند القضية المطروحة: حقيقة … هل يتكلم الإنسان بصمتِه أحيانًا، وهل صحيح أن الصمت في أحيان أبلغ من أي كلام؟
وأيضًا وجدتُ ما أؤمن به يطفو في التو ليتجسد أمامي جوابًا، أبدًا، لا يوجد في رأيي صمت بليغ وصمت غير بَليغ؛ فالصمت هو الصمت، وأبدًا لا يقول شيئًا، وإنما هو دائمًا وأبدًا يُعبِّر عن العجز، وإذا كان التعبير عن العجز بالصمت يُغتفر لعضو في مجلس إدارة ساعة عرض موضوع أو الامتناع عن التصويت في جمعية عمومية أو مجلس أمن، فهو لا يُمكن أن يُغتفَر لمواطن اعترف به المواطنون كاتبًا أو نائبًا عنهم أو متحدِّثًا باسمهم، من واجب الإنسان — أي إنسان — أن يعبر عن رأيه في كل لحظة وفي أيِّ قضية؛ فالرأي ليس مجرد كلام، الرأي هو أنا وأنت، بغيره لا وجود لي أو لك، الموت هو إنسان بلا رأي، والقتل أن تمنع إنسانًا من إبداء رأي، والمرض أن يعجز الإنسان بسبب أو بلا سبب عن الإدلاء برأيه.
وهكذا لأن الصمت عمره ما كان بليغًا، فالكلام دائمًا أبلغ، سواء كانت براءته في قول الحقيقة أو ما يعتقد الإنسان أنه الحقيقة أو في كشف الحجاب عن إنسان يحتمي بالصمت خوفًا أو إيثارًا للسلامة أو زُهدًا عن خوض معركة يدافع فيها عن نفسه أو يوضح ويؤكد وجهة نظره. صحيح أن الكُتاب والفنانين والسياسيِّين وكل من يتصدَّى لمواجهة الحياة العامة ومشاكلها في عالَمنا الثالث كثيرًا ما يُصادر رأيهم ويُمنعون عن إبدائه منعًا، باعتبار أن وسائل قول الرأي هي ٩٩٪ من عالمنا الثالث ملكًا للحكومة أو لحزب حاكم. ولكن هنا أيضًا لا يمكن لإنسان أن يركن إلى السكوت تعبيرًا عن استنكاره واستيائه؛ فنحن نحيا في عالم غليظ الجلد لا يُلقي بالًا ولا يُهمُّه أبدًا أن يحتجَّ فلان بصمتِه أو أن يسكت ليستنكر الناس سكوته وينحون باللائحة على من هم السبب معه في هذا السكوت. نحن نحيا — سواء في عالم أول أو في عالم ثالث — في حقبة من التاريخ لا بُدَّ أن يُمسك الإنسان فيها بمقرعة من حديد أو خشب أو حتى الأرض نفسها ليرغم الآذان على سماعه، بل أحيانًا لا بُدَّ من قرع بعض الرءوس لتُنصِتَ وتتلفَّت وتُدرك أن ثمة إنسانًا يختنق برأيه، وثمة حقيقة تزأر مطالبةً بحقها في الوجود وفي الخروج.
لنقلب الصفحة إذن وقد قلبها الزمن، أو لنتأمل الصفحة مليًّا؛ فالزمن لا يقلب صفحاته، ونحن في الحقيقة لا نعيش بعدد ما يمرُّ علينا من سنين، إنما نحن نعيش بمقدار استيعابنا الأعمق والأدق والأكثر قُربًا من الحقيقة لصفحة حياتنا التي هي في الواقع صفحة واحدة، نكبر ونَنضُج وتتوالى علينا الأحقاب بمقدار ما نغوصُ فيها عمقًا، نحن نغرق في الزمن سنتي بسنتي، ونُسَمِّي كل سنتي عامًا مضى، في حين أنه ليس عامًا وليس أبدًا زمنًا ولكنه «مسافة»، مسافة تفصل بيننا وبين القانون الأزلي للأشياء، ونحن نقطعها اقترابًا من هذا القانون …
… ولنسمِّه زمنًا، ولنسمِّها مسافة، وليكن الأمر مجرَّد تغيير؛ إذ الحقيقة أننا إذا تأملنا صفحة حياتنا الواحدة من قُرب وبعمق، لوجدنا أن عالَمنا اليوم ليس هو أبدًا العالم الذي قامت فيه مثلًا الحرب العالمية الثانية أو حتى العالم الذي دخل أعماق الذرة واندفع ينهب ملايين المسافات إلى قلب الكون عبر الصواريخ ومركبات الفضاء.
إني أشفق كثيرًا على هؤلاء الذين لا يزالون يتحدثون عن فلسفة ديكارت مثلًا، أو يستشهدون بمحاورات أفلاطون، أو يُحلِّلون السائل، وكأن الصراع الطبقي لا يزال كما اكتشفه ماركس. إنه عالم مختلف مختلف، مختلف نوعًا وكمًّا وطبيعةً كليةً حتى نختلف وسيختلف، وسوف تَتسارع علامات الاختلاف فيه بشكل تَذهل له تمامًا وفي القريب. قرأت من أيام حقيقة تقول إن «كم» المعلومات الذي حصلت عليه البشرية منذ أن وعى الإنسان إلى عام ١٩٥٢ (زمن لا يقلُّ عن عشرة آلاف عام) يُساوي «كم» المعلومات التي حصل عليها الإنسان من عام ١٩٠٠ إلى عام ١٩٥٠، وأن كم المعلومات الذي حصل عليه الإنسان عن نفسه وعن الكون من عام ١٩٥٠ إلى عام ١٩٧٥ يُساوي كم المعلومات الذي حصل عليه الإنسان من فجر التاريخ حتى عام ١٩٥٠، وإني مُقدِّر أن المعلومات التي سيَحصل عليها الإنسان من عام ١٩٨٠ إلى عام ١٩٩٠ تُساوي عشرة أضعاف الكم الذي حصل عليه من فجر التاريخ إلى عام ١٩٩٠.
والمعلومات يَحصل عليها الإنسان لتُغيِّر من نظرة الإنسان وأيضًا لتُغيِّر من حياته ومن مكوِّناته ومن إرادته وقدراته؛ ولهذا، فإذا كان العالم قد اقتَضاه الأمر أن يمرَّ عليه مئات الأعوام لينتقل من عصر القوة العضلية إلى عصر البخار إلى عصر الكهرباء، وعشرات لينتقل إلى عصر الذرة. وإذا كانت الثورة الفرنسية قد جاءت بعد آلاف الأعوام من ثورة سبارتاكوس، والثورة الاشتراكية قد أخذت زمنًا أقل بكثير … باختصار أريد أن أقول إن الكون من حولنا يتَسارع في كافة خصاله، والبشرية أيضًا يَتسارع ما يحدث فيها من تغيير، ولهذا فعام ١٩٨٠ يجيء ليؤكد للمُتمعِّن في دراسة الظواهر أننا نخوض ثورة بشرية غريبة، لم نَستَطِع بعد أن نَستَوعِبها أو ندركها أو نُعطيَها اسمًا، ثورة ليست موجهة ضد إمبراطورية أو طبقة أو استعمار، ليست موجهة ضد أحد بعينه، وإنما يُعبِّر بها إنسان ١٩٨٠ عن نفسه ويَنفجِر بها ليفرض على الوجود والأوضاع ذاته، ولكي نُدرك هذا ما علينا إلا أن نُلقي نظرة خاطفة على ما يَحدث في قلب آسيا وفي بلدَين متجاورَين، إيران وأفغانستان، هذا البركان الرهيب الذي يتفجَّر في إيران وكأنما ليعود بالإيرانيين إلى شريعة الغاب، لا يُشبهه إلا هذا الانقضاض الوحشي من الاتحاد السوفيتي على شعب أفغانستان، أيضًا وكأنما عادت شريعة الغاب لتحكم.
ولماذا نذهب بعيدًا إلى آسيا أو قريبًا إلى لبنان، تلفت إلى ما حولك ومَن حولك، تلفَّت إلى نفسك أنت وقيمك وتفكيرك وعلاقاتك، انظر إلى أقرب الناس إليك، ألا يُمصمِص الجميع شفاههم ويقولون أعوذ بالله … الناس تغيَّرت، الناس فعلًا جُنُّوا أو جُنِّنوا، أو أصابهم مسٌّ شيطاني قلَبَ الحياة والقيم والمعايير رأسًا على عقب.
والناس لم يُجنُّوا أو يُجنَّنوا، والمعايير لم تنقلب، كل ما في الأمر أن قوانين التغيير البشري قد تسارَعَت وتواتَرَت فجعلت التغيُّر البطيء الذي كان يستغرق عشرات الأعوام ليَلمسه الناس ويُحسوه، ضغطَتْه القوانين المتسارعة حتى أصبح التغيُّر واضحًا وملموسًا. زمان كان التغير يحدث للآباء، ولا يدركه إلا الأبناء، وربما لا يستطيع لمسه وإدراكه سوى الأحفاد، الآن التغيير يَحدث لك أو لجارك وتُدركه في التوِّ وتضطر للتَّسليم به والتعامل معه بلا إبطاء.
وهكذا، حائرًا مذهولًا، تَرفع بصرك للسماء وتتساءل بذعر: ماذا حدث للناس؟ وهل أصابهم مس؟
إن مئات آلاف الطلبة المتمرِّدين يُطلقون العواء المخيف في إيران هم أنفسهم، فإذا الكرملين رغم عربات الفولجا السوداء مُسدلة الستار والاجتماعات «العاقلة جِدًّا» للمكاتب السياسية أو السكرتيريات المركزية، وإطلاق الرصاص الوحشي في لبنان، هو بذاته تَكتيف لابن في الحمام والاستعانة بالعَشيق لقتل أعزِّ الضنى، الجريمة التي طالعتنا وتُطالعنا بها الصحف، والتساهل الذي أُبديه وتبديه حين نسمع أن وزيرًا أو مسئولا اختلس أو سرق، هو نفسه التساؤل تواجه به تصرف حكومة، بالضبط إحدى الحكومتين المسئولتين عن سلام العالم وأمنه حين تنقضُّ بجيوشها التي من المفروض أن تُحافظ على التعايُش السِّلمي وتَحرُسه وتُدافع عنه ليُصبِح حاميها حراميها وحُرَّاس العدالة هم مختالوها.
من عشر سنوات فقط كان الأمر جريمة بشعة كبرى، وحين انقضَّت الدول الثلاث على مصر في فخ السويس، وحين زحفت الدبابات الروسية على شعب المجر، وقفت الدنيا كلها تُزمجر وترفض وتدين، ليس فقط ببيانات، وإنما بالحرب نفسها، تزمجر وتظلُّ تزمجر حتى ترغم إسرائيل وإنجلترا وفرنسا على الانسحاب، وأمريكا تُرغم أقرب الحلفاء إليها، ومئات وآلاف من مُعتنِقي الشيوعية يُطلقونها ويُدينون بغضب لافح ما قامت به الدولة الشيوعية الأم، أيامها اهتزَّ العالم استهجانًا واستنكارًا، وظلَّ يفعل حتى أوقف العدوان والمهزلة. اليوم يتكرَّر العدوان، ولكن ما أبعد الفرق بين انفعال الدنيا لأحداث السويس والمجر وانفعال دنيا الثمانين بما يحدث في أفغانستان وإيران؛ وذلك أن الحابل قد اختلط بالنابل، والشرطي تحوَّل إلى لص، واللص أمسك بصفارة يحرس بها اللصوص الأكبر من اللصوص الأصغر، والمظلوم كاد ينقلب ظالمًا، والظالم يَستعطِف مظلومًا تمامًا أو كالمظلوم …
ثورة …
فلم تَعُد قوانين الوجود تتلاءَم مع الموجودين.
ومثلما تضيق الدنيا بالموجودين وتَنتحِر البشرية تناسُلًا، تضيق أنت بحياتك ومعتقداتك ورضوخاتك وتسليماتك وتنقلب على نفسك وتهدم في أحيان ذاتك.
وكأنما الجميع يقولون علينا وعلى أعدائنا، وبما أن العدو في النهاية أنا أو كلانا، فالنتيجة عليَّ وعليَّ مرةً أخرى، فليتهدم المعبد.
البشرية تتقدم، الطلب على الطاقة يزداد، سعر البترول يرتفع، ومع ارتفاعه ترتفع أسعار بقية الخدمات والسلع، ولكي تَمضي البشرية في تقدمها — إذ لا محيص لها عن هذا الخطو المستمر إلى الأمام — يزداد الطلب على الطاقة، ويَرتفِع سعر أي شيء وكل شيء، وآخر الأسعار ارتفاعًا هو سعر الإنسان، هو الوحيد الذي كلَّما غلا الذهب في سوق الذهب تهبط قيمة الدولار الإنساني، وكلما هبطت قيمة الإنسان الدولار ارتفع الدولار الذهب ليعود الإنسان منخفضًا، وردًّا على هذا كله إليكم ثورة لا تُبقي ولا تذر، ولكي تكون الثورة أكثر عدلًا وتحقيقًا للمساواة، فلا بُدَّ من ثورة على الثورة، ثُمَّ ثورة على ثورة الثورة، وليُصلب الإنسان مرةً أخرى، ليُصلَب ممزقًا بين أسعار وجوده التي في جنون ترتفع وحقيقة هذا الوجود التي في هوس تنخفض، ليُصلَب كفرد، ليتمرد كفرد، إلى أن يتكامل العدد ويصبح التمرد تمرد ملايين، تنشأ الثورة ليعود ينصلب، صَلبًا اجتماعيًّا هذه المرة.
وهكذا، بالمقاييس القديمة، أقصد مقاييس ٧٧ و٧٨ و٧٩ الأمر باعث على التشاؤم المروع؛ إذ المسألة تبدو وكأن لا أمل البتة، وأن محيطًا من فرط عمقه أسود الظلمات، ومن فرط غضبه باسق الموجات، نحن ننزلق إليه ونغرق.
فهل معقول أن يكون الأمر هكذا؟
وهل هي النهاية تحدث بأيدينا وأمام أعيننا ولا نملك منها فكاكًا؟
•••
بالتأكيد لا …
الحياة ها هي ذي تمضي أمامنا، وستمضي بنا، ها نحن أولاء أحيانًا وبالتأكيد سنظل أحياء ما بقينا أحياء، من أين إذن نستقي هذا الشعور المؤكَّد … إنها أبدًا ليست النهاية حتى لو كانت الصورة الظاهرية للأشياء والتحليل النظري لما يدور، تقضي علينا بالفناء، لماذا نُدرِك إدراكًا سليقيًّا يقينيًّا بصريًّا أن الأمر لا يُمكِن أن يكون كذلك أبدًا، وأننا رغم تسارع الأحداث وتكاثُف المُتراكِمات والانفجارات، فالمُحتَّم المؤكَّد وإن كانت كل العلامات تدلُّ على اقتراب الساعة، فيقينًا أنها تُمثِّل ما تَقترب أمام أعيننا نظريًّا؛ فإنها في صميمنا وأعماقنا تتباعد وتتباعَد حتى لتبدو تمامًا غير مُمكِنة الحدوث؛ ذلك أننا بقُرون استشعارنا العميقة الدفينة، لاستشعار لأبعد مدًى بكثير من السمع والبصر وإمكانيات الحساب، نُحسُّ أننا خالدون أو كالخالِدين المُخلَّدين.
أيكون السبب أن الصورة تُظلِم إذا قسنا أحداث الثمانين بمقاييس السبعين، وتزهو وتنفرج إذا قِسنا أحداث الثمانين بمقاييس الثمانين؟ أجل، من المهم تمامًا أن يدرك الناس ما يحدث اليوم بموازين اليوم، والكارثة تحدث حين ندرك ما يحدث اليوم بقوانين وقواعد الأمس.
ومقاييس الثمانين تؤكِّد لي ولك ولغالب الناس أن ما نراه ليس النهاية أو ما قبل النهاية، حقيقة هو نهاية، ولكنه نهاية تفاعل أو مرحلة أو تجربة من تجارب الوجود.
لقد حاولت البشرية أن توجد، منذ أن وُجدت بأشكال مختلفة وأشكال، حاولت الوجود بقانون الغاب أو البقاء للأصلح وفعلًا كانت رحلة لازمة وأساسية، وأثبت الإنسان أنه الأصلح للبقاء من الديناصور، واستمرَّ الإنسان موجودًا وهلك الديناصور.
ثُمَّ أصبح قانون البقاء للأصلح معوِّقًا للبقاء؛ فقد كان يقتضي شريعة الغاب، وشريعة الغاب تحتِّم أن يَعيش الآدمي متوجس الخيفة، دائم الحذر، سريع الانقضاض، خنوع الطبع، وهذه صفات كانت لازَمَت لإثبات الوجود، أمَّا لاستمرار الوجود فلا بُدَّ أن تنشأ أشكال للبقاء أكثر إنسانيةً ورُقيًّا، يتحوَّل الصراع المدمِّر إلى تنافُس شريف، وقانون القوة الغاشمة إلى القوة البانية، والهلع الحذر الذي لا يُتيح وقتًا للتفكير المستمر الهادئ المسالم الذي يُمكن للإنسان أن يبتكر لنفسه طرقًا ووسائل واختراعات تكفل له حياة أرقى وأخصب، ومنذ الحضارات الأولى وهو يبحث عن هذه الأشكال الأرقى للوجود، فكرة الوجود لجماعة وخلق قوانين تُنظِّم حياتها، فكرة العبادة نفسها والتطلع إلى مصدر يُشيع الأمن والسلام في ذات الجماعة والفرد، الأديان مرحلة ثارت وألغت مرحلة سبقَتها، مرحلة التمرُّد المدمِّر على الواقع إلى تمرد وادع خلاق، ولكن كان لا يزال عماد هذا الوجود أيضًا يرتكز على دعامة أن البقاء للقلة الأقوى … قلَّة تحتكر كل وسائل القوة وكثرة لا تملك إلا دمها ولحمها وسيلة للوجود.
ونشأت الثورات …
ولا نزال نَحيا مرحلتها.
كل ما في الأمر أنها رحلة طالت وامتدت لأنها لم تكن تُحقِّق إلا بعض ما كانت من أجله، وربما تُحقق بعض الأشياء لتحرمها من أشياء أخرى.
وهكذا وصلنا إلى نقطة تريد البشرية فيها أن تَنتهي تمامًا من فكرة الوجود المُقلق المتصارع الدموي في معظم الأحيان.
حتى لو كانت ستَسلك لتحقيق هذا وسائل حافلة بالحرب والضرب والدماء.
والأمل في هذا الصراع راجع إلى أن مُحتكِري القوى بدءوا يدركون فعلًا أنهم كذلك، وأنهم فعلًا الأكثر ذكاءً، وفي الصراع سيفقدون كل شيء لأنهم فعلًا الذين يمتلكون كل شيء.
وموقف أمريكا من ثورة إيران قد يكون بشائر الأمل؛ فهي للآن لم تضرب، بالقطع ليس مراعاةً للمبادئ الإنسانية فقط، وإنما الأرجح خوفًا من التورط الأحمق، ولكن المهم أنها لم تضرب والاحتمال الأكبر ألا تضرب.
ويقينًا أن الاتحاد السوفيتي هو الآخر، ربما بدأ قادته يدركون لأول مرة أنهم يقومون بعمل مخجل، وأن العالم ذلك الذي رفعتْهم بعض قطاعاته إلى مصافِّ القادة المقدَّسين الذين لا يُخطئون، هذا العالم يشمئز الآن مما يقترفون، وهم الآن يرون رأي العين أن العالم يستنكر ويشمئز ويمسك بأيديهم ويقول: هذه أيدٍ قذرة. والقوة الغاشمة لم تَعُد تصلح لإخضاع الأمم والشعوب في القرن العشرين.
الكبار المالكون لكل شيء بدءوا يدركون أنهم يقومون بدور الشرير في الرواية، وبداية التراجع والتغيير هو لإدراك مجرَّد الإدراك.
ولهذا فالثمانون ستأتي ليُصفَّى الموقف لصالح غير الكبار، وليس ليتأجَّج الموقف، ولا بُدَّ أن يتغير الكبار من تلقاء أنفسهم؛ إذ البديل أن يُرغموا على التغير، وفي أي الأحوال هم الخاسرون؛ فالملايين الثائرة لن تخسر سوى القيود، وما أكثرها كما يقولون.
بمقياس السبعين كان التفجُّر سيزيد ويزيد كي تحلَّ النهاية المدمرة بمنطق وإحساس، ومقاييس الثمانين لا بُدَّ أن يسود العقل والحكمة؛ إذ لا توجد نهاية أخرى.
واطمئنوا يا سكان العالم؛ فالقيامة لن تقوم إلا حين يريد لها سبحانه أن تقوم، والإرادة الإلهية لا تُناقَش.
ولكن بمنطق الإرادة الإنسانية، فمن الصعب تمامًا أن يتصوَّر الإنسان أن تَنتحِر البشرية انتحارًا جماعيًّا.
وإذا كان الخيار بين أن يَنتحِر الإنسان موتًا في حروب مدمرة، أو ينتحرون حياةً في عالم تَصعُب الحياة فيه إلى درجة الموت.
فأعتقد أن المجنون نفسه سيختار الانتحار حياة؛ إذ الحمد لله وشكرًا له أن الإنسان جُبنه أكثر من شجاعته بكثير.
وهكذا، فكالعادة، سنفُضِّل — كما ظلَلنا آلاف السنين نُفضِّل — الحياة على الموت، ولو كان كلاهما انتحارًا.
فأقبِلْ إذن يا عام الثمانين، ولا تخافون، فأحياءً سنحيا، وما دُمنا سنحيا فسترغمنا الحياة أن نحطِّم القيود، ولا ننتظر المهدي لنهتدي، وليس ضروريًّا أبدًا أن نحلَّ بالدم أو نسعد بالتفجر، فلسنا بديناصورات بغير عقل، ولا الكائن الحي قنبلة ذات شظايا من الصلب … نحن بشر … نحن أرقى وأرهف ما وصلَت إليه تفاعلات الكون … الإنسان حتى بجسده وضمائره شاعر الوجود، صوته أعذب نغمات الدنيا، وحدقات عينيه أجمل من أزهى ألوان الفراشات.
•••
وأنت يا أخي الذي هو أنا، آن لك أن تعيش، آن لك أن تقول رأيك حياةً وحركةً وفعلًا وحرفًا، آن لك أن تُلملم جراحاتك وتكبت آهاتك وتُطلق فقط معزوفاتك …
فالدنيا، والله، رغم كل شيء، أجمل من الحزن.
والحياة أروع من مجرد البقاء.
يدك في يدي أيها الإنسان وأيها الزمن …
نحب.