عام جديد حل وعام قديم انقضى
وما بين العامين، بالضبط ليلة رأس السنة، أُصاب بحالة من الاكتئاب لا أستطيع لها تفسيرًا.
ليست حالة اكتئاب بسيطة عارضة، ولكنها حالة اكتئاب عميقة، تنبع حتى من أطراف أصابع أقدامي، وتَشملني كلي، وأقضي ليلة رأس السنة وكأني أعاني من قمة مأساة ولا مأساة ماكبث أو عطيل.
في هذا العام قرَّرت أن أفعل شيئًا.
في مصر مدينة غير مكتشفة اسمها أسوان، قطعًا إخواننا السياح العرب لم يَسمعوا عنها أو إن كانوا قد سمعوا لم يزوروها.
وفي رأيي أنها أعظم مدينة في إفريقيا قاطبةً وليس في مصر وحدها.
هناك تجد الطبيعة صخرية متوحشة، هذا صحيح، ولكن نهر النيل تولى عبر ملايين الملايين من السنين استئناس هذا الصخر المتوحِّش ونحتَه، وتنعيمه، بل وعمل الثقوب فيه قبل أن يخترعها المثَّال المعاصر هنري مور بمئات الآلاف من السنين.
مدينة مثالية، طبيعتها متوحشة مستأنسة، وأناسها طيبون، هؤلاء النوبيون والأسوانيون الذين يعيشون في واحة كامنة بين مصر والسودان هم أطيب المصريِّين والسودانيين على حد سواء، طيبون لأنهم يعيشون على نهر طيب اسمه النيل، زادوه استئناسًا بخزان أسوان وسد أسوان العالي، فأصبح من فرط أدبه يذوب رقة، ومن فرط ليونته يخدع الغرير؛ ففيه دوامات باطنية قال عنها الملاح النوبي أنها إذا لم يأخذ النوبي حذرَه تستطيع أن تبتلع باخرة بأكملها حتى لا يبين لها أثر. وكانت أسوان منطقة المحاجر في مصر القديمة، وفي زيارتي لقرية «سحالي» النوبية، فوجئت بأن دليلنا لزيارة القرية، حين عرَف أني فلان، رحَّب بي بشدة، وقال إنه يقرأ لي ولفلان وعلان من الكُتَّاب المصريين والعرب، والحقيقة أني فُوجئت في هذه القرية الراقدة في حضن الجبل بعيدًا عن أي حضارة أو اتصال، إحدى القرى القليلة التي بقيَت نوبية سليمة؛ إذ لم تصلها مياه السد العالي، ولكني حين دخلت بيتَ الرجل، وهو بيت نوبي بسيط يتكوَّن من صالة واسعة رُصَّت فيها الأرائك على نظام «الدوار»، والبيت نفسه مكون من حجرة واحدة ومطبخ، والحجرة لدهشتي تحتوي على ثلاجة إيديال وتلفزيون، والأغرب من هذا أنها مكيَّفة الهواء تلقائيًّا. وسألت المهندس العظيم ميلاد حنا الذي كان يُرافقنا في هذه الزيارة عن السر في تكييف الهواء التلقائي الذي وجدتُه بالغرفة، فقال لي: إنه السقف المبني على شكل قبة فيه فتحتان، فتحة قِبلية وفتحة بحرية، وأن هذه الفتحات مع القُبة تصنع للهواء دورة بحيث يتصاعد الهواء الساخن إلى أعلى ويُغذَّى الجزء الأسفل دائمًا بهواء باردة يُخفِّف من قيظ الجبل ومن انعكاس الشمس المروِّع على صخوره.
ولكن أعظم ما صادفتُه في أسوان كان عمدة أسوان، أو بالأصح فندق آمون الكائن فوق جزيرة مستقلة اسمها جزيرة آمون، وهو فندق بسيط ولا يحتوي إلا على ٣٦ غرفة، ولكني أنصح من يريد راحة البال في هذا العالم، من يريد أن يَسترخي بحيث تتسلل من رأسه كل الأهوال والمخاوف، بحيث يتسرب إلى رأسه كل السلام والمحبة الكائنَين في العالم، وبحيث بالمرة لا يستطيع أن يمتع نظره بطبيعة أسوان الخارقة للعادة، وإنما إذا أحب أن يَزوغ نظره إلى السواح الأجانب يفدون إليها من بلاد أقصى الشمال، من ألمانيا وأسكندنافيا وفنلندا، ليستمتعوا وتستمتع أجسامهم بأشعة أسوان الخالدة التي دعَت أغاخان أن يَختار قبره على قمة جبلها ليُصيبه الخلود الأعظم، يا لهؤلاء الناس، من أقصى الأرض اكتشفوا أعظم المواقع في بلادنا، يستمتعون بطبيعتها، ونحن عنها غافلون، ونحن عنها عميان لا نراها، وربما بالمرة لا نرى أنفسنا.
ولكني لا زلت بصدد أعظم اكتشاف اكتشفته في أسوان، وهو عمدة أسوان أو مدير فندق آمون، حيث كُنَّا ننزل، إنه ليس مديرًا خريج مدارس السياحة أو حاصلًا على شهادة في الفندقة من سويسرا، إنه عمدة مصري ابن عمدة، ومن مُواطني الدقهلية، وقد جهَّز لنا أعظم إقامة على طريقة الكرم العربي الشهيرة، صوته واضح وجهير، ومعاملته للعاملين في الفندق معاملة رئيس القبيلة أو كبير العائلة، ولا يَنقُصه إلا خفير يمشي ببندقية حتى يُمنَح لقب العمدة بلا منازع.
جلست مسترخيًا أدردش مع الأستاذ فخري البطوطي مدير الفندق وأناقش معه مشروعًا كي نجعل من جزيرة آمون «جمهورية آمون» ونُعيِّنه فيها رئيسًا للجمهورية، وجعلنا نفكر في شكل علم الجمهورية وفي نشيدها القومي وفي الحرس الجمهوري الذي سيتكون من العسكري الوحيد المخصَّص للضبط والربط في الجمهورية …
أيام مُمتعة جميلة … أجملها بلا شكٍّ ليلة رأس السنة، حين أعدَّ لنا العمدة مفاجأة العمر، وبموسيقى نوبية وعلى طبل ومزمار أسواني قلب الفندق إلى حفلة صاخبة لا نِمَر فيها ولا راقصات، وإنما الراقصون والراقصات هم الأجانب المقيمون ونحن — المصريِّين الوحيدين المقيمين في الفندق — والطباخون وموظفو الاستقبال وكل من يعمل في الجزيرة الغريبة، وهو قد ارتدى فوق بدلته الأنيقة — إذ هو أعزب ونُزَهي في ملابسه — ارتدى عباءة سوداء رائعة الأناقة، ورقَص ورقصنا جميعًا معه، نحتفل بعام جديد قادم، ونودِّع عامًا جديدًا مضى، على وقع دقات أفريقيا القوة، عربية القوام والنغمة، نوبية اللون والأصالة.
ولأول مرة في حياتي لا أُصاب بالاكتئاب ليلة رأس السنة، إذن الاكتئاب لم يكن مصدره تغير الزمان وانقلاب صفحة ومجيء صفحة.
الاكتئاب كان سببه تحجُّر الزمن وتحجُّر المكان وتحجُّر الناس.
وكل سنة وأنتم طيبون …