ملف خاص عن محاولة اغتيال كاتب لأنه كتَب «البحث عن السادات»
أعتقد أن القراء لهم يَذكرون الحملة الضارية التي قامت ضدِّي حين كتبت المقالات السبع تحت عنوان «البحث عن السادات»، تلك الحملة التي بدأت بكذبة دنيئة من أنني قلت عن حرب أكتوبر في ذلك الكتاب أنها كانت تمثيلية متَّفقٌ عليها، والتي انتهت حين وقف السيد رئيس الجمهورية يُهاجمني في خطبة أول مايو ٨٣ المشهورة، وقد آثرتُ أن أُضمِّن هذا الكتاب بعض الوثائق الخاصة بهذا الموضوع، ليس دفاعًا عن النفس، وإنما مجرَّد إثبات لأحداث وقعت، ومؤامرة تمَّت ضدي، وبنجاح شديد.
وقد آثرتُ إكمالًا للتوثيق أن أُورد هنا مقالتين كتبهما الأستاذ الكبير فتحي رضوان عن هذا الموضوع، وأيضًا مقالة للكاتب الوطني الفذ الأستاذ جلال أحمد أمين، لا لشيء لأنهما كادا أن يكونا الصَّوتَين الوحيدين اللذَين ارتفعا في ذلك الموقف الخطير المُلتهِب الذي اشتغل ضدي.
وإذا كان لي من تعليق صغير أُضيفه هنا، فإني أؤكِّد أن ما حدث من وزير الثقافة وعدوانه الصارخ على شخصي ووظيفتي، وردود الأفعال الثقافية والشعبية الهائلة، كانت في حقيقة أمرها ردًّا لاعتباري قبل الهجوم الغادر الذي شُنَّ عليَّ قبلها بعام، والذي نجح في الإيقاع بيني وبين الرئاسة في مصر، بل وكاد أن ينجح في الإيقاع بيني وبين قواتنا المسلحة البطلة.
إنها حقائق ووقائع للتاريخ ليس إلا، ولا أملك معها إلا أن أقول: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ صدق الله العظيم.
(١) ما الذي حدث؟
يوسف إدريس في مقال مفتوح للنائب العام والمدعي الاشتراكي: أطلب التحقيق معي في «البحث عن السادات».
صادَرَت مباحث أمن الدولة خلال الأسبوعين الماضيين كتاب «البحث عن السادات» لعميد كُتَّاب القصة القصيرة العرب، د. يوسف إدريس.
وتنفرد «الأهالي» في هذا العدد بنشر المقدمة التي كتبها د. يوسف إدريس خصِّيصًا للكتاب، الذي كان في الأصل مقالات نُشرت في جريدة القبس الكويتية، وفيما استعرض الكاتب، ظروف كتابته لتلك المقالات، وتناول بالتحليل اتجاهات الحملة التي شُنَّت في الصحف الحكومية على الكتاب ومؤلِّفه، والتي بلغت ذروتها بالهجوم المباشر الذي شنَّه الرئيس مبارك على الكاتب والكتاب، فيما اعتبره د. يوسف محاوَلة لاغتياله، دفعته لجمْع المقالات في كتاب يكون نشَره مقدمة للمطالبة بمحاكمة كل الذين حرَّضوا على اغتيال سُمعتِه دفاعًا عن السادات. والأهالي وهي تَنشُر هذه المقدمة تضمُّ صوتها لكل الأصوات التي أزعجها قرار مصادرة كتاب يوسف إدريس، باعتباره انتهاكًا بشعًا لحقِّ كاتب من أبرز الكُتَّاب في تاريخ الأدب العرب كله في أن يقرأه الناس، بعد أن قرءوا الهجوم عليه والتنديد به، باعتباره انتهاكًا لحرية الرأي والفكر، وإهانةً لكاتب لا يُشكِّك أحد في تاريخه.
جمعتُ المقالات في كتاب لأُطالب بمحاسبة كل الذين تآمَروا لاغتيالي.
صحفيُّو وكُتَّاب السادات لا يزالون يحتلون الساحة الصحفية والسياسية.
البحث عن الحقيقة.
ما هذا الذي حدث؟
وكيف حدث؟
ولماذا حدث؟
أسئلة كان من الصَّعب تمامًا أن يُجيب عليها الإنسان وسط زوبعة الرمال والتراب وعواء القطط والكلاب وفرقعات مسدَّسات الأطفال وقنابل الصوت التي كانت تحفل بها الساحة، والذي تفجر فجأةً في أوائل أبريل الماضي إثر نشر إعلان، مجرد إعلان، عن مقالات سبع ستَنشرها لي جريدة القبس الكويتية وتنقلها عنها بعض جرائد الخليج والأردن، فحتى ذلك الوقت كانت الساحة السياسية هادئة أو شبه هادئة، وكان الشد والجذب يدور حول حتمية «التغيير» وضرورته، ذلك الذي تُطالب به المعارضة، وعدم ضرورة التغيير الفوري وخطورته، ذلك الذي تراه السلطة وبالذات قيادة الحزب الوطني الحاكم.
موسكو تضغط على الزر
وكأنه كان غريبًا أن تظهر مقالاتي في نفس ذلك الوقت.
فأنا لستُ طرفًا في اللعبة السياسية الدائرة منذ حادث المنصة حول السادات، أو هكذا بدَوتُ، وأنا أطلع فجأة على القراء برأي خطير في أنور السادات، مسألة قيل في تأويلها كل ما يمكن أن يَخطر على بال إنسان موتور أو حتى حسن النية، غير أن أحدًا لم يتوقَّف للحظة ويتساءل عن الحقيقة، ولماذا بدا أني خرجتُ على الناس فجأة برأي في السادات وكأنني قد اتفقتُ مع الأستاذ هيكل ومع الصُّحف العربية التي نشرت كتابه ومقالاتي في «مؤامرة!» للنَّيل من الرئيس الراحل «معًا» وفي وقت واحد.
ولو كُنَّا في ظروف عادية، ولو لم يملأ الصغار والمُسترزِقون، الصحفيون من عهد السادات وإلى الآن، الجوَّ بالغبار والرمال وقذائف الطين، لأمكننا جميعًا أن نرى الحقيقة بنفس البساطة التي تمَّت بها، ولما احتاج أحد جهابذة كُتَّاب جريدة الأخبار لأن يقول: إنَّ موسكو ضغطت على زر ليكتب هيكل وإدريس وغيرهما ضد الساداتية في ذلك الوقت بالذات، الذي تستعد فيه مصر للاحتفال بعودة سيناء (٢٥ أبريل) وتدور مفاوضات «كامب ديفيدية» أخرى مع لبنان!
وفي الجانب الذي يخصُّني، سأُورد هنا، ولأول مرة، حقيقة أفكاري ومشاعري تلك التي انتهَت بنشر المقالات السبع.
نقطة التحول
والبداية الحقيقية كانت في أوائل يونيو عام ١٩٨٢، حين اجتاحَت جيوش إسرائيل لبنان تضرب وتذبح وتُنكِّل وتَحرِق وتَنسِف وتَقتُل المدنيين والعسكريين، الأطفال والنساء والشيوخ، ويتوَّج الأمر بمذابح صبرا وشاتيلا في النهاية.
كان غزو لبنان نقطة تحول كبرى في تفكيري.
ذلك أني كنت أعتقد أن الضرر الذي حدث من كامب ديفيد، كان مقصورًا إلى ذلك الحين على عزل مصر عن شقيقاتها العربيات، وربط مصر ربطًا مُحكَمًا بالاستراتيجية الأمريكية الإسرائيلية للسيطرة على المنطقة.
ولكن غزو لبنان أكَّد لي الشعور بأن كامب ديفيد لم تكن إلا البداية الحقيقية لفترة طويلة قادمة هي فترة السيادة الإسرائيلية المدعومة والمسنودة تمامًا من الولايات المتحدة الأمريكية.
وتصادَفَ أني كنت قد انتهيت من قراءة الجزء الأول من مذكرات كيسنجر، وأيضًا مذكرات الرئيس الأمريكي السابق كارتر، وبدأت تُنشر في خريف عام ٨٢ أيضًا مذكرات محمد إبراهيم كامل وزير الخارجية إبان مفاوضات كامب ديفيد.
ويقول يوسف إدريس إنه تابع قراءة تلك المذكرات التي نشرَتْها جريدة «الشرق الأوسط» السعودية، ثُمَّ يواصل:
وحين انتهى نشر المذكِّرات، وجدتُ أني قد بدأ يتكون لي رأي خطير فيما فعله السادات في كامب ديفيد، وفيما فعلته كامب ديفيد في السياسة المصرية والعربية. وكما ذكرت بدأت أكتب هذا الرأي لنفسي، ثُمَّ بدأت أجد أن رأيي هذا يَستلزم الرجوع إلى شخصية السادات ودوره في الثورة المصرية وشخصيته، والخطة التي بناها كيسنجر ومرتكزها الأساسي تلك الشخصية الساداتية الفريدة.
كتبتُ الآراء على هيئة خمس مقالات، كان موقفي فيها هو امتداد لما كتبتُه عشية الغزو الإسرائيلي للبنان، باعتبار أنه جزء من الخطة الكبرى المرسومة للمنطقة والتي أدخل السادات نفسه فيها عن إرادة ووعي، لا ليستغلَّها هو لمصلحة مصر، وإنما لكي تستغله هي — أي الخطة — لمصلحة أمريكا وإسرائيل.
وحين تسرَّب خبر كتابتي للمقالات في حوالي فبراير ١٩٨٣، إلى الجرائد الكويتية، تلقَّيتُ عرضًا من جريدة القبس عن طريق مدير مكتبها في القاهرة لنشر المقالات في الجريدة المذكورة والحصول على حقِّ نَشرها في كل المشرق العربي.
النشر في الخارج … لماذا؟
ووافقت …
فمسألة نشرها في مصر كانت غير واردة بالمرَّة؛ لأسباب كثيرة لا يخفى على القارئ معظمها، ولكن أهمها في رأيي أن الرأي العام في مصر يكاد يكون مُحاصَرًا؛ بحيث إن كثيرًا جِدًّا مما يُهمُّ الرأي العام المصري الوقوف عليه لا يُنشَر في مصر؛ بحيث أصبح الرأي العام المصري يكاد يكون محليًّا مُنكفئًا على نفسه، ومحظور أن يُنشَر في جرائده الكبرى الحكومية ما يمكن أن يُعتبَر رأيًا علميًّا عميقًا يُناقش الفترة الساداتية أو حتى الفترة الناصرية.
وللآن لا يزال الاقتراب الجاد الخطير، والتقييم العلمي، وبالضبط كنه ثورة ٢٣ يوليو ومسائل كبرى كالعُدوان الثلاثي أو التدخل في اليمن أو هزيمة ٧٦ أو ثغرة الدفرسوار، أو حقيقة الدوران للخلف الذي حدث عام ١٩٧١.
كل تلك المواضيع الكبرى في حياتنا لا تزال لم تُناقَش بعد، وأبدًا ليس من مُنطلَق ترك واقعنا الحالي أو تطلعنا إلى المستقبل، والعودة إلى الماضي نتفحص «ونغلي» فيه كاليهودي الذي أفلس، لا، وإنما لكي نحدِّد حركتنا إلى المستقبل تحديدًا واضحًا وصحيحًا، فلا بُدَّ أن نعرف أين نضع أقدامنا الآن، ولكي نَعرف موقع أقدامنا الحاضرة فلا بُدَّ أن نعرف تاريخ ذلك الموقع وكيف كان وجاء.
ثُمَّ يواصل قائلًا:
وما كتبتُ مقالاتي عقب الغزو الإسرائيلي للبنان إلا مُحذِّرًا من «الخطة العظمى» وراء هذا الغزو، ومن مُؤامرة تقسيم لبنان إلى دويلات عرقية ودينية، دويلات تُبرِّر وجود إسرائيل كدولة عرقية دينية، وفي نفس الوقت تكون من الضعف بحيث تُتيح لإسرائيل السيطرة الكاملة على تلك الدويلات.
وحين قرأتُ مذكِّرات محمد إبراهيم كامل، وجدت أن مصر قد أُضيرت ضررًا هائلًا بمبادرة السلام وباتفاقيات كامب ديفيد، وأن كُنْهَ هذا الضرر وأبعاده شيء لا يُمكن معرفته إلا بالرجوع إلى مذكِّرات الرجل الذي شهد تلك المفاوضات من داخل المعسكر الساداتي نفسه.
بين نارين
-
إمَّا أن أُبقي هذا الرأي لنفسي حتى لا أجرَّ على نفسي مشاكل، خاصة وصحفيو وكتاب السادات لا يزالون، بربطة المعلم، يحتلون الساحة الصحفية والسياسية، لم يتغيَّر منهم أحد، بل هم أقوى مما كانوا في عصر السادات؛ الآن هم توحَّدوا، يُدافعون عن وجودهم هم وعن مصالحهم، وعن رقابهم؛ بحيث أصبحوا أكثر عدوانيةً وشراسةً، وبحيث أصبح نقد السادات، أيُّ نقد، ربما أصعب من نقده وهو حي.
إمَّا هذا …
-
وإمَّا أن أنشر رأيي على الناس، وأُبشِّر به، فإذا ردَّ عليَّ أحد فإني على استعداد للرد عليه ومناقشته؛ فالكاتب حين يكتب، أقصد الكاتب الصادق الشريف مع ذاته ورأيه، لا يتصور أن كتابته كتابٌ أُنزل، وإنما هو يَتصوَّرها آخر اجتهاداته في هذا الشأن أو ذاك، فإذا صمدت للرأي أو للجدل كان بها، وإذا انتصر عليها رأي أو اجتهاد آخر فأهلًا به.
وأخذت بالرأي الثاني في الحال، وبلا أي تفكير؛ فأن يرى الكاتب رأيًا ويُخفيه عن الآخرين طلبًا للسلامة هو قمة خيانة النفس في رأيي، مهما جلب عليه الرأي من مَتاعب، فآخر ما يَحسبه الكاتب هو المتاعب التي سيجرُّها عليه رأيه. حين قُبض عليَّ عقب معارضتي لمعاهدة ١٩٥٤ التي أبرمها جمال عبد الناصر مع البريطانيين، وسُمِّيَت معاهدة الجلاء، كنتُ وأنا في زنزانتي «الانفرادية» في «القلعة» أسعد إنسان بهذا السجن؛ إذ كنت أُحسُّ أني بسجني إنما أدفع ثمن قول رأيٍ في بلد يُعاقِب بالسجن صاحب الرأي، ومعنى هذا أن وجودي في السجن نتيجة طبيعية تمامًا؛ فالحكومات في العالم الثالث لا تُنعِم بالنياشين على أصحاب الرأي، خاصةً إذا كان رأيًا معارضًا آخر، إنها تُعاقبه على رأيه، وتضربه، وأحيانًا تقتله.
ويقول المؤلف إنه قرَّر نشر المقالات وأعطاها لمدير «القبس» في القاهرة … ثُمَّ يضيف:
وطلبتُ من الزميل مدير القبس، ومن رئيس تحرير القبس، سرعة نشر المقالات، ووعدني بالنشر، ولكن النشر تأخَّر، حتى بدأت أفكر في فسخ التعاقُد على النشر؛ فالموضوع كان لا يحتمل التأجيل في رأيي، ولم أكن أعرف سببًا معقولًا للتأجيل، وفيما بعد عرفت السبب.
فجريدة الوطن الكويتية كانت تعاقَدت على نشر فصول كتاب «خريف الغضب» ابتداءً من أبريل.
والقبس ادَّخرت مقالاتي لتُنشَر — لأسباب منافَسة صحفية (لا تخفى على القارئ) — في نفس الوقت.
ولو كنتُ أعرف هذا لرفضت المبدأ.
ولكني لم أكن أعرف، بل لم أكن أعرف أن كتاب هيكل سيَصدُر بالعربية في ذلك التاريخ، وأيضًا لو كنتُ قد عرفتُ لرفضتُ أن تُنافِس مقالاتي خريف الغضب، فتلك مسائل صغيرة، والقضية أكبر وأخطر بكثير.
إنما، هذا هو ما حدث.
فأنا أبدًا غير آسف.
فالرأي الصحيح لا يُهمُّ موعد صدوره، أو ظروف صدوره، إني فقط أذكر هذه الحقائق لأوضِّح لبعضِ مَن التبس عليهم الأمر وظنُّوا أن «القبس» كلَّفتني، «بسرعة» لكتابة مقالاتي حتى تنافس بها فصول «خريف الغضب» فيما سمَّاه لي رئيس تحرير قومي أعتزُّ به «موسم الهجوم على السادات».
ولكني أعذره.
بل وأعذر الكثيرين الذين خفيَتْ عنهم كل هذه الحقائق، ورأوا «من الخارج» أنها لم تكن صدفة، وأنها عمل مدبَّر و«مؤامرة»!
ومؤامرة النشر، كما ذكرت، مؤامرة تَنافُس صحفي، مهما كان فهو مشروع.
قارئ متنكر …!
أمَّا المؤامرة الحقيقية فهي ما حدث بعد النشر.
إذ كنتُ قد سافرت إلى أثينا في الأسبوع الثاني من شهر أبريل الماضي لحضور مؤتمر لمناصرة القضية الفلسطينية.
- فأَوَّلًا: كان إعلان جريدة «الخليج» عن المقالات إعلانًا من النوع الذي تحفل به صحف الإثارة عندنا وفي الخارج، وقد أخذ الإعلان كلمات من جملة مقالاتي السبع، كلمات مبعثرة على طول صفحات المقالات المنشورة، ووُضعت بجوار بعضها البعض على طريقة اجتزاء الجمل والفقرات؛ مثل لا تقربوا الصلاة، والحق أن الإعلان أغضبني تمامًا.
- وثانيًا: ولكنَّ الذي أغضبني أكثر في الحقيقة هو الطريقة التآمُرية التي نُشر بها الإعلان؛ فأنا أعمل في الأهرام، والأهرام أكثر الجرائد احترامًا في مصر والعالم العربي، وقد كان جديرًا بالمسئولين عن التحرير فيه أن يَعرضوا عليَّ الإعلان ويُعطوني أنا فرصة التعليق عليه أنا نفسي واستنكاره، أو إن لم أفعل يكونون قد قاموا بما يمليه عليهم شرف مهنة الصحافة، وحينذاك يُصبحون أحرارًا في نشر الإعلان والتعليق عليه.
- وثالثًا: كان التعليق واضح الادِّعاء والتزوير؛ فقد زعم المحرر (وقد ثبت أنه لم يكن
المحرر الأصلي لباب بريد القراء في الأهرام، ولكنه مدير تحرير الأهرام الذي كان مسئولا
بعد
سفر رئيس التحرير في الخارج)، زعم المحرِّر أنه تلقَّى مئات الخطابات تَستنكِر المقالات
(التي لم
تكن قد نُشرت في القبس أو الخليج)، وأن مرسلي بعض الخطابات قد قطعوا الإعلان المذكور
من
جريدة الخليج وأرسلوه إلى الأهرام.
وذكر «قارئ» كان واضحًا أنه ليس سوى مدير تحرير الأهرام متنكِّرًا خلف قارئ مجهول، ذكر أنني وصفتُ حرب أكتوبر بأنها تمثيلية متَّفق عليها بين السادات وإسرائيل وأمريكا، وهو ادِّعاء كاذب؛ فليس في المقالات كلها كلمة تمثيلية، وليس فيها أي طعن في أداء الجيش المصري البطولي في أكتوبر، وكل ما فيها خاصًّا بحرب أكتوبر لم يكن سوى فقرة واحدة من المقال الثاني على هيئة تساؤلات حول طعنة الثَّغرة التي وُجِّهَت إلى ظهر الجيش المصري وهو في قمَّة انتصاره تُتيح لإسرائيل وضعًا عسكريًّا تَعبُر فيه قواتها إلى غرب القناة وتُحاصر الجيش الثالث وتقطع الإمدادات عن مدينة السويس وتَنتشِر داخل الأرض المصرية. وهو أمر كان ممكنًا تمامًا ألا يحدث لو كانت القيادة السياسية للحرب المتمثِّلة في شخص رئيس الجمهورية آنذاك والقائد الأعلى للقوات المسلحة أنور السادات، لو كان قد وافَقَ على ضرب رأس الجسر الذي أقامه الإسرائيليون والذي كان الجيش المصري قد تدرَّب على ضربه وخصص له اللواء ٢٥ المدرع الذي لم يَسمح السادات بإعادته من شرق القناة إلى غربها حين اكتُشفَت الثغرة ليتولى القضاء عليها تمامًا. ولو كان هذا قد حدث لما اضطرت مصر إلى دخول مفاوَضات فضِّ الاشتباك، ولحصلت على الجلاء الإسرائيلي الكامل عن سيناء دون التورُّط في اتفاقية كامب ديفيد الأولى، مما يجد القارئ له تفصيلًا في المقالة التي كتبها السيد حافظ إسماعيل، مستشار الأمن القومي المصري آنذاك، ونشَرَها بمجلة المصور في العدد ٣٠٧٥ (١٣ مايو ١٩٨٣).
- ورابعًا: اتضح في الأيام التالية أن هذا الإعلان المزوَّر المحرِّض في الأهرام ليس سوى
الخطوة الأولى والتمهيد المبدئي لعملية مخطَّطة تمامًا وموزَّعة الأدوار؛ فقد فوجئت في
اليوم
التالي بانعقاد المجلس الأعلى للصحافة، وما دار فيه من مناقَشات كلُّها اتهامات صارخة
بأني قلت
أن حرب أكتوبر «تمثيلية»، وأن هذا إجرام في حقِّ بطولة الجيش المصري واستهتار ما بعده
استهتار
بدماء الشهداء الأبطال، وكأنهم أتوا وهم «يُمثِّلون» الاستشهاد.
إعلان تَنشره جريدة خليجية بطريقة مثيرة عن سلسلة مقالات لي، ويُضيف له مدير تحرير الأهرام من عنده على لسان قارئ أنني قلتُ إن حرب أكتوبر تمثيلية، يجتمع المجلس الأعلى للصحافة، يأخذ هذا القول المزوَّر على أنه حقيقة ويَبني عليها اتهامًا، ودون أن يسمع المجلس وجهة نظري، أو يحفل بأن يرى المقالات أو يقرأها ويَرى إذا كنتُ حقًّا قد قُلت هذا الكلام أم لم أقله، ويخرج بإدانة صارخة لما كتبتُه وإدانة لي ككاتب.
وهذا الذي لم يحدث في بلاد الماو ماو، يَحدث لي في القاهرة عام ١٩٨٣، وفي ظل ظروف انفراجة ديمقراطية، وفي ظل حرية صحافة.
الحكم قبل المداولة
ومع هذا …
فقد حاولتُ أن أنشر تكذيبًا لما ذكره الأهرام، فرفَضَ مدير التحرير المذكور نشره.
وحاولت نشر التكذيب في كل الصحف «القومية» الأخرى، فرفضَت جميعها.
وحاولتُ الدفاع عن نفسي وإدانة قرار المجلس الأعلى للصحافة، باعتباره قرارًا باطلًا، بُنيَ على كلام باطل، ودون أن يُسمع لي رأي أو يَقرأ أحد ما كتبته.
وأيضًا، رفضت كلُّ الصحف المصرية الحكومية أن تَنشُر لي حرفًا.
وبناءً على تزوير مدير الأهرام وإدانة مجلس الصحافة، بدأَتْ حملة ضارية من المقالات والاتهامات، تتَّهمني بنبش قبور الموتى، وأني نافقت السادات حيًّا وهاجمته ميِّتًا. وأضاف رئيس تحرير مايو اتهامًا آخر من عنده، بأني كتبت هذه المقالات بأمر من القذافي، ونشرتها في جريدة القبس الكويتية. بل ووصلت الحملة الإرهابية إلى حدِّ أن كاتبًا من كُتَّاب الأعمدة في جريدة الأخبار زعم أن مقالاتي وكتاب هيكل لم يُنشَرا صدفة، وإنما هما جزءٌ من خطة دولية بتوجيه من موسكو لإفشال المفاوَضات اللبنانية الإسرائيلية وإشاعة جو الفوضى في المنطقة.
وكل هذا يحدث دون أن يقرأ أحد ما نُشر في المقالات، إنما كله مبنيٌّ فقط على حكاية «التمثيلية» التي زوَّرها مدير الأهرام على لسان قارئ.
وحين يَحدُث لك هذا أعتقد أنك ما دمتَ مطمئنًّا إلى الحقيقة، وأن شيئًا كهذا لم يحدث، ستقول إنها مسألة حقد مهني، وأن الحق لا يلبث أن يظهر، وأن كل شيء سيتَّضح، وأنك ستأخذ حقك كاملًا من هؤلاء الذين حاوَلوا تشويه سُمعتك وشخصك.
ولكن …
حين تُحاول أن تُكذِّب وتصحح فتجد أنك ممنوع من القول ومن الكتابة.
وإن نشر الكذبة لم يكن إلا مقدمة بسيطة لخطة خبيثة مدبَّرة لإقناع جماهير القراء أنك قلت وفعلت وارتكبت كل ما يُلصقونه بك.
حينذاك تبدأ تغضب.
وتبدأ تُحسُّ أنك مخنوق، وأنك وأنت الكاتب، تجرِّب أسوأ تجربة ممكن أن يمر بها إنسان؛ حرمانه من قول رأيه أو الدفاع عن نفسه، وهذا بالضبط ما كنت أُحسُّه حين بدأت أستمع إلى خطاب الرئيس محمد حسني مبارك في عيد العمال.
رسالة إلى مبارك …
فقد كنتُ مؤمنًا أن رئيس الدولة بكل ما لديه من وسائل لمعرفة الحقيقة، سوف يطَّلع على ما كتبتُه، وأنه سيعيد هؤلاء الناس إلى رُشدهم وسيَضَع النقط فوق الحروف ويوضِّح تمامًا أن مسألة لقائي بالقذافي التي تمَّت في أواخر العام الماضي ١٩٨٢ والتي كتبت بشأنها تقريرًا على هيئة خطاب أودعته مكتب الرئيس بعد عجزي عن لقائه.
ولكن هذا للأسف لم يحدث.
اتَّهم الرئيس حسني مبارك في خطابه يوم عيد العمال كاتبًا معروفًا، هو الأستاذ يوسف إدريس، اتِّهامًا خطيرًا يُعتبر — حسب تعبير الكاتب — طعنة في صميم وطنيته وذمته وكبريائه … ومجمل هذا الاتهام أنه تقاضى خمسة آلاف دولار من الرئيس الليبي معمر القذافي ليكتب مقالاته التي نشَرَها في جريدة القبس الكويتية، والتي أُثير حولها الصخب والضجيج دون أن يطَّلع أحدٌ عليها ودون أن يُسمح لكاتبها ببيان وجهة نظره.
وقد أنكر الكاتب الموجه له هذا الاتهام الخطير على لسان رئيس الدولة ما طُعن به، ونشر مقالًا بهذا المعنى في صحيفة الأحرار، وهي الصحيفة التي قال إنها قَبِلَت أن تنشر له دفاعه عن نفسه بعد أن أغلقَتِ الصحف المُسمَّاة بالقومية في وجهه، حتى جريدة الأهرام التي يعمل بها …
وصاغ الكاتب هذا المقال في صورة خطاب مفتوح إلى الرئيس مبارك بعنوان «إنني أتظلم منك وإليك» وأعلن فيه: إن طعني في شرفي وعلى الملأ هكذا، مسألة أهوَنُ منها عندي حكم الإعدام؛ إذ إن طعن الكاتب في شرفه من رئيس الدولة إعدام، إنه حكم بالإعدام وإعدام غير مُشرِّف. وذكر أنه يجب الفصل بين مقابلته للقذافي التي أخطر بها الرئيس مبارك بعد عودته بما تم فيها، في خطاب سلمه لسكرتاريته الخاصة بعد أن عجز عن تحديد موعد لمقابلته، وبين ما كتبته في إحدى الصحف العربية نتيجة عدم إتاحة الفرصة له بالكتابة بحرية في جريدة الأهرام التي يعمل بها. وقرَّر أنه ضحية مؤامرة كبرى من بعض الجرائد القومية وصحيفة مايو وعشرات الأقلام الخبيثة لتؤلِّب عليه الرأي العام والقوات المسلحة ورئيس الجمهورية، وأنه كان كفيلًا بهم جميعًا، لو أُتيح له أن يردَّ عليهم حيث يكتبون، أمَّا حين يستغيثون بالرئيس المصري ويَنصرهم ويخذله، فليس عليه إلا أن يتظلَّم منه … إليه.
وقال بصراحة: إذا كان بعض الناس، وبعض الأجهزة، قد وضعت أمام سيادتكم معلومات هي التي دفعتكم لهذا القول، فإني لا أطالب فقط برد اعتباري، وإنما أطلب وألح أن يحاسب هؤلاء الأشخاص وتُحاسَب تلك الأجهزة.
وهذا ما نُطالب به، ويتلخَّص في إجراء تحقيق قضائي حول هذا الاتهام الخطير؛ إذ إنها سابقة خطيرة أن تقدِّم اتهامات لشخصيات عامة أو خصوم سياسيين أو أصحاب الفكر وحملة الأقلام ضمن تقارير مشكوك فيها، ودون أن تستند إلى أدلة قاطعة لا بُدَّ أن تُعرض على القضاء للتحقُّق منها قبل أن تلطِّخ سمعة أحد من هؤلاء لما ينطوي عليه ذلك من إرهاب فكري شنيع.
وإذا كان وزير الداخلية نبوي إسماعيل قد لجأ إلى هذا الأسلوب لاتِّهام النائب السابق أحمد طه وآخرين معه بالتخابُر مع دولة أجنبية هي بلغاريا للتأثير على موقفه الانتخابي. وبالنسبة لاتهام المرحوم الدكتور المهندس محمود القاضي ونائب رئيس مجلس الوزراء السابق عبد السلام الزيات وعدد من الشخصيات السياسية ممن كانوا تحت التحفُّظ في سبتمبر المشئوم بالتخابُر مع دولة أجنبية أخرى وهي الاتحاد السوفيتي، ثُمَّ ثبت من التحقيق في الاتهامين عدم صحَّتهما أن من الواجب وضع حدٍّ لهذه الأساليب البَشِعة والمُفارَقات التي كُنَّا نعتقد أنها انتهت بانتهاء عهد نبوي إسماعيل الذي يجب محاكمتُه عنها …
مؤامرة مزدوجة
والحقيقة أنني وأنا أجلس الآن وشريط الأحداث يمرُّ أمام عيني، وأعود مرةً أخرى أعيش أحداث العاصِفة الهوجاء الكاذبة المليئة بالرمل والتراب والقذى، الآن، وبعد أن اتَّضحَت حقائق كثيرة، واتَّضح للمجتمع أنني لم أذكر أبدًا كلمة تمثيلية، وأن لقائي للقذافي أو للرئيس مبارك لا علاقة له من قريب أو بعيد بما أكتبه، وأن الموضوع كله كان مؤامرة حقيرة لاغتيالي ككاتب، والإيقاع في وقت واحد بيني وبين رئيس الجمهورية وبيني وبين قواتنا المسلحة البطلة وبيني وبين قرائي والشعب المصري بأجمعه، وأن هذه المؤامرة الدنسة إذا كانت قد فشلت تمامًا وارتدَّت إلى نحور أصحابها، فإني إذ أنشر نص مقالات «البحث عن السادات» لا أفعل هذا فقط لأنشر الحقيقة على الناس، وإنما لأطالب بعدها بمُحاسَبة كل مقامر أو مجرم اشترك في هذه المؤامرة.
وهكذا أقول مرة أخرى: لقد بدا واضحًا الآن أن الرئيس السادات وإن كان قد مات، ومات على هذه الصورة البشعة، وكأنها صورة تنفيذ حكم إعدام في خائن، إن كان قد مات، فإنَّ العصابة التي عيَّنها في حياته، واختارها بعناية لتُنافِق كلَّ خطوة يخطوها، وكل تفريط في حقوق الشعب المصري يُفرِّط به.
واضح تمامًا أن هذه العصابة لا تُريد أن تحمي السادات وسياساته، ومنها على سبيل المثال إدارته السياسية لحرب أكتوبر على تلك الطريقة المُغرقة في تهافتها؛ بحيث ضيع علينا انتصار جيشنا العظيم في حرب أكتوبر، واضح تمامًا أنهم يريدون إغلاق الأفواه وعصب الأعين عن أن نرى ما فعله السادات بنا، مثلما كانت تغلق الأفواه وتعمى الأعين عما يفعله أخوه عصمت وعائلته من نهبٍ لم يَحدُث له مثيل في كل تاريخ مصر.
فإني في هذه المقالات، لم أكن أبحث عن سرقة هنا أو اختلاس لثروات هناك، فما هدفتُ إليه كان محاولة لرسم الدور الخطير الذي لعبه أنور السادات بالاتفاق مع الأمريكان وإسرائيل، وحوَّل به مصر من دولة مستقلة ذات سيادة إلى دولة تابعة خاضِعة للنفوذ الأمريكي والإسرائيلي تمامًا، معزولة عن كلِّ العرب والأفارقة، يكرهها العالم كله إلا أمريكا الشريك الكامل، وإسرائيل المنبوذة هي الأخرى؛ بحيث تشكل هي وجنوب إفريقيا ومصر السادات ثلاثيًّا مرفوضًا على مستوى العالم كله.
والملف لا يزال مفتوحًا.
وإذا كان من فضلٍ لتلك المقالات في البحث عن السادات وعصابة السادات، إلا أنها مع غيرها قد فتحت الملف السياسي الساداتي، ليعرف المصريون والناس جميعًا كيف غرر بهم في حربهم المجيدة مع إسرائيل وإخضاعهم رغم أنفهم للسياسة الاستعمارية الأمريكية؛ بحيث يُسلِّم الاستقلال العظيم الذي حصلت عليه مصر بثورة ٢٣ يوليو وكفاحها الوطني المجيد عبر مائتي عام وتزيد مرورًا بالثورة العرابية وثورة ١٩ وثورة ٤٦، يسلِّم هذا الاستقلال بمؤامرة لم يحدث لها مثيل، وبلا أي مقابل، ليُصبح الحلُّ عبثَ وتصرُّفَ إسرائيل والاستعمار الأميريكي.
أكذوبة السلام
وإذا كانت الخطة العظمى قد برَّرت غزو لبنان وتشريد الفلسطينيين، وإشغال العراق بالحرب مع إيران، والجزائر والمغرب بالبوليزاريو، والسودان بليبيا، وليبيا بتشاد، واليمن باليمن، والسعودية بالأوبك، وسوريا بالعراق والأردن، وإسرائيل والأردن بالفلسطينيين؛ فإن الخطة بالنسبة للشعب المصري هي إيهامه أن مصلحته العليا هي في نفضِ يده تمامًا من العرب ومشاكلهم، وكأن خمسة ملايين مصري لا يَعملون في الدول العربية، وكأن معظم الدخل المصري الخارجي لا يأتي على هيئة تحويلات من المصريِّين العاملين هناك، وكان من الممكن تصور وجود مصري «مستقل» عن العرب، أو وجود عرب مستقلين عن مصر، تلك هي الكذبة الكبرى التي جعلنا السادات بوسائل إعلامه نؤمن بها ونُصدِّقها، والتي آن الأوان للكشف عن محتواها الخبيث؛ فإن حصار الوجود المصري داخل حدود مصر الجغرافية هو إضعاف لمصر وخيانة لها، ولوجودِها الحقيقي.
لقد عِشنا في تلك الأكذوبة بدعوى «العيش في سلام ورخاء»، فأين هو السلام وثمة ١٧ فرقة إسرائيلية مستعدَّة ورابضة في صحراء النقب وكأنها المسدَّس المرفوع كي لا نُحرِّك قدمًا أو يدًا؟ وأين هو الرخاء والأسعار قد أصبحت نارًا موقَدة ونحن في قمة «السلام!» بينما كانت أقل بكثير ونحن في قمة «الحرب» والاستعداد للحرب؟ فجزءٌ من المؤامرة الكبرى لكي لا يُفكِّر الشعب المصري في واقعِه وفي ما دار من وراء ظهره هو إشغال الناس تمامًا بأمور حياتهم اليومية ومتاعبها، حتى لا يَبقى لديهم وقت لإعمال أي فكر أو تأمُّل، وفي البقاء في حالة «التولة» التي كتبت عنها مرةً في فكرتي بالأهرام.
ونحن لا يمكن أن نعالج «التولة» بمزيد من التولة، إنما نُعالجها بأن نفيق، بأن نصحو، بأن يستيقظ فينا الوعي والعقل، بأن نعرف من يضحكون علينا ويُخدِّروننا ويخدعوننا بأن نكشفهم، بأن نكشف لماذا يقفون تلك المواقف ولماذا يدافعون باستماتة عن عصرٍ أدى بنا لما نحن فيه الآن …
وإذا لم تكن تلك المقالات قد فعلَت شيئًا، إلا أنها كانت شمعة ضئيلة أُوقدَت في الظلام الدامس، وأنها مع غيرها من الشموع والحقائق ستهزُّ جيوش الظلام وحتمًا، وعلى الضوء المنهمر المتكاثر سنرى، وعلى النِّقاش مهما علا، سنَصحو.
إذا لم تكن قد فعلت سوى هذا.
فأشكر الله أن هداني كتابتها ونشرها.
وحمدًا لله أني فعلت وأرضيتُ ضميري.
وأهلًا بكل نتائج إرضاء الله والضمير.
بقيت كلمة أخيرة …
كان المنطق البسيط يُحتِّم أن تُنشَر هذه المقالات أوَّلًا، وبعد هذا تتمُّ مناقشتها أو إدانتها، وليس غريبًا أن يحدث في عصرنا هذا العكس تمامًا، فتنشبَ معركة صاخبة حول كلمة مزورة عن حرب أكتوبر، لا علاقة لها بالخط الأساسي للمقالات، ثُمَّ يكون آخر شيء أن يُنشَر نص المقالات كلها، بعد أن ينتهي الصخب المفتعل وتُمطِر السماء شتائم واتهامات …
إليكم المقالات إذن، ولا أطمع في مناقشتها؛ فيس لدى كُتَّاب السادات عقول تُناقِش، وأي إنسان يحترم نفسه ويرى ما لا أراه يتحرَّج قطعًا أن ينضمَّ إلى القطيع الساداتي المأجور ويرى ما لا أراه في السادات، ولكنَّها شهادة أضعها أمام التاريخ وأطلب من المواطنين جميعًا، حتى لو كان بعضهم قد خدَعَتْه الدعاية الأمريكية الساداتية، أن يجلس على مهله ويقرأها، ويتأمل، ويصدر لنفسه حكمًا.
وفي نفس الوقت أتقدم بهذه المقالات إلى النائب العام والمدعي الاشتراكي، مطالبًا بالتحقيق معي في كلِّ كلمة كتبتُها، وشاكيًا في نفس الوقت كل أجهزة الدولة الرسمية والصحفية والإعلامية للإهانة العلَنية التي وُجِّهَت لي دون تحقُّق أو مُستنَد، طالبًا بمحاسبة هذه الجهات كلها عما اقترفته في حقي من ذنب مهول.
وأنا راضٍ بحكم القضاء المصري العادل، وراضٍ تمامًا بحكم الرأي العام؛ فبعد رضاء الله والقضاء ليس أجمل من رضاء الشعب المصري.
(٢) حوار مع الأحرار
أموال العرب تُنهَب ولا تَذهب للشعب المصري.
اجتمع المجلس الأعلى للصحافة يوم الأربعاء الماضي لمناقَشة كتاب «خريف الغضب» الذي كتبه محمد حسنين هيكل، ومقالات «البحث عن السادات» التي كتبها الدكتور يوسف إدريس في جريدة القبس الكويتية … قرَّر المجلس إدانة الكاتِبَين لمساس ما كتباه بالرئيس الراحل أنور السادات مساسًا اعتبره المجلس الأعلى للصحافة «مجافيًا للحقائق التاريخية الناصِعة، واعتداءً على حرمة الموتى، وتعرُّضًا لحياتهم الخاصة، ومخالفةً لتقاليدهم المجتمع الدينية والأخلاقية والمِهَنية، فوق أنه محاوَلة لطمس أمجاد الجيش المصري وبطولات الشعب المصري.»
وكانت الصحف القومية قد شنَّت حملات ضد ما نشره الكاتبان ووصفته بأنه «تهجُّم على الزعيم الراحل».
ويوم الاثنين الماضي نشَرت «الأحرار» دفاع محمد حسنين هيكل عما وجَّهتْه له الصحف القومية، واليوم أجرت الأحرار حوارًا مع الدكتور يوسف إدريس ردَّ فيه على الاتهامات الموجَّهة إليه من الصحف القومية ومن المجلس الأعلى للصحافة.
وكان الدكتور يوسف إدريس قد قدم لجريدته القومية «الأهرام»، التي يعمل كاتبًا متفرِّغًا بها، ردًّا على الاتهامات الموجَّهة إليه، ولكن الأهرام رفض نشر أي ردٍّ أو تعليق ليوسف إدريس، وكرَّر يوسف إدريس محاوَلتَه مع بقية الصحف القومية، ولكن المسئولين بها اعتذروا. وانطلاقًا من حرية «المواطن» في أن تُسمَع وجهة نظره عند مساءلته عن أمرٍ صدَر منه، وهو ما تَقتضيه العدالة وتَحرِص على النصِّ عليه الدساتيرُ كأحد المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، فتحت «الأحرار» صفحاتها للدكتور يوسف إدريس كما فتحت في الأسبوع الماضي صفحاتها لمحمد حسنين هيكل.
أكَّد الدكتور يوسف إدريس أن هدفه من بحث ذات السادات في المقالات التي نشرها بجريدة القبس الكويتية تحت عنوان «البحث عن السادات» هو التطلُّع إلى مستقبل مشرق وعدم تكرار أخطاء الماضي، ولم يكن هدفه التهجم على السادات أو طمس أمجاد الجيش وبطولات الشعب كما يدعي البعض.
ما الذي تضمَّنتْه هذه المقالات؟ وهل توصَّل يوسف إدريس إلى حقيقة واضحة حول الثغرة وحول كامب ديفيد، وحول العلاقات المصرية العربية، أم أنه يطرح تساؤلات يريد إجابة عليها؟
وما هي العلاقة بين ذهابه إلى ليبيا منذ أسابيع ولقائه بالقذافي وبين نشر مقالاته عن السادات؟
إجابة هذه التساؤلات، كشف عنها الدكتور يوسف إدريس في هذا اللقاء الطويل مع «الأحرار» الذي استغرق ساعتين ونصف الساعة، والذي طلب فيه أن يُنشَر على لسانه بأنه على أتم استعداد لنشر مقالاته السبع في الأحرار حتى يَعرف الرأي العام الحقيقة كاملة.
«احتمالات أربعة مرعبة»:
- (١)
خائن غبي.
- (٢)
أم خائن يعرف حقيقة دوره.
- (٣)
أم كاره للعرب.
- (٤)
أم مسلوب الإرادة مدرك قذارة ما يقوم به.
ومضى الإعلان يقول:
«أي هذه الاحتمالات يَنطبق على السادات؟ الإجابة يُقدمها الدكتور يوسف إدريس في مقالاته «البحث عن السادات» …»
فما هو قولك؟
- أوَّلًا وأساسًا: تَصدُر للشعب وللقُرَّاء. إنَّ المسئولين عن الأهرام يستغلون الأهرام لصالحهم الخاص، وهذه جريمة في حق الشعب أوَّلًا، ولهذا فقد كان منظر الأهرام وهي تفسح باب بريد القراء للهجوم على يوسف إدريس، والوقيعة بينه وبين الشعب وبينه وبين القوات المسلحة باعتبار أن حرب أكتوبر تمثِّل البطولة والمجد للشعب المصري، فأنا في رأيي أن هذه الجريمة سوف ألجأ للقضاء فيها.
- ثانيًا: سمح مدير التحرير لنفسه أن يُفبرِك خطابًا من قارئ لا أعتقد أن له وجودًا كتبرير لهذه الحملة … لإثارة السلطات بما فيها سلطة الجيش المصري المجيدة، وهذه جريمة أخرى.
- ثالثًا: حينما اجتمع المجلس الأعلى للصحافة، ليَرعى القِيَم وليُناشد الناس أن يُراعوا القيَم والمثُل العليا، لم يلحظ أن جريدة الأهرام قد خرَقت كل القيَم الصحفية أوَّلًا والمهنية والشعبية والقومية، بل وحتى أبسط القيم الإنسانية في سماحها لنفسها أن تَستعمل ثقل جريدة في الهجوم على كاتب يعمل دون أن تَمنحه فرصة الرد على ما نشرَتْه.
- رابعًا: عقب نشر هذا في الأهرام، اتصلتُ بالمسئول عن تحرير الأهرام «صلاح منتصر» لنشر بيان لتوضيح موقفي أمام الناس، ولكنه رفض واعتذر عن نشر البيان، وسمح لنفسه أن يقول بأنني ارتكبتُ جرائم وسوف أُحاكَم عليها، بمعنى أنه أقام من نفسه قاضيًا ومنفِّذًا وأصدر حكمه ضدي.
والمجلس الأعلى للصحافة الذي كان وسيلة استئنافية في هذا الحكم، أيَّد هذا الحكم تأييدًا مُطلَقًا دون أن يسألني.
هذه جرائم كبرى، وحين نُطالب بحرية الصحافة، فلا يجب أن نترك هذه الحرية لبضعة أشخاص يَلعبون بها … وبالشعب.
ليست الأهرام صحيفة صلاح منتصر أو غيره، إنها صحيفة لهذا الشعب كله، ويجب أن يعرف الشعب الحقيقة.
أمسك أي صحيفة قومية، تجد رئيس تحريرها ينشر مقالاته في الصفحة الأولى وبالبنط الذي يشاء وبالكم الذي يشاء دون رقيب أو حسيب، هذا عكس أصحاب الصحُف، كانوا ينشرون آراءهم في صفحات داخلية، أنطون جميل باشا صاحب الأهرام لم يَنشُر مقالاته في الصفحة الأولى أبدًا.
الإعلان الذي نُشر في جريدة القبس الكويتية كان مُستفزًّا، والجريدة افتعَلَت كثيرًا من الفلفل ووضعته في الإعلان لجذب القراء، ولكن هذا لا يَعني أن تستعمل الأهرام ما نشرته القبس لكي تُضخِّمه مليون مرة وتخدع الشعب به.
كامب ديفيد ومبادرة القدس
هذه المقالات لها قصة، عندما قرأت مذكرات محمد إبراهيم كامل (وزير الخارجية المصري السابق) ومذكرات كيسنجر وكارتر، بدأتُ أُكوِّن وجهة نظر في كامب ديفيد وفي الرئيس السابق السادات، وبدأت أكتب تعليقات على هذه المذكِّرات، علمًا بأن هذه المذكرات لم تُنشر في مصر، إنما نُشرت في جريدة الشرق الأوسط السعودية التي تَصدُر في لندن، وكان الحل الوحيد هو نشر مقالاتي في جريدة الشرق الأوسط، ولكني كنتُ متأكِّدًا أن سياسة الجريدة هي سياسة سعودية تمامًا، وشعرتُ بأنني سوف أكون مُقيَّدًا ولن أكون حُرًّا في نشر ما أريد، ثُمَّ عرَضَت عليَّ جريدة القبس الكويتية نشر هذه المقالات، وعدم نَشري لهذه المقالات في مصر هو أنها تعليق على مذكِّرات محمد إبراهيم كامل التي لم تُنشَر في مصر … فكيف أُعلِّق على شيء لم يُنشَر في مصر؟ ثُمَّ كيف أترك العالم العربي دون تحليل من جانبي لهذه المذكرات؟
بعد نَشر مذكِّرات محمد إبراهيم كامل شعرتُ أن وزير الخارجية الذي اختاره السادات بعد مبادرة القدس، وأفهمه أننا في طريقنا لعقد معاهدة مع إسرائيل، وقبل الرجل، فجأةً استقال أثناء مفاوَضات كامب ديفيد، إذن هناك شيء خطير حدَث أو اعتراض خطير جانَبَه على طريقة إدارة هذه المفاوَضات أو على الشروط التي جاءت في المُعاهَدة. وفعلًا عندما نقرأ مذكِّرات محمد إبراهيم كامل نجد أن مُعاهدة كامب ديفيد بها شروط صارِخة الظلم، لمصر وللعرب، وأن قبولنا لهذه الشروط تمَّ بتهديد من أمريكا؛ إمَّا أن نقبل بهذه الشروط وإلا فلن نُعطيكم المعونة والسلاح، وسوف نقف مع إسرائيل ضدكم، وكان موقف القبول موقفًا غير وطني؛ لأن المعاهدة تبيَّن منها بعد ذلك أنها أُعدَّت للهجوم على لبنان وعلى الفلسطينيين وعلى بقيَّة الدول العربية.
لا أعرف، ولكن عندما يُوافق على معاهدة تشلُّ دور مصر، وتنزع السلاح عن سيناء وتجعلها هينة في أيدي اليهود، وأن تكون حرب أكتوبر هي آخر الحروب، معنى ذلك أنني أُلقي السلاح.
والذي حدث أنني أخذتُ هذه النقاط وقلت: ما الذي أرغم السادات على قبول الشروط الظالمة؟ وبدأت أكتبُ هذه المقالات لنفسي أوَّلًا، واكتشفت أن شخصية السادات والطريقة التي يحكم بها وأسلوب تفكيره ونشأته وطريقة تكوينه لعبَت دورًا خطيرًا في هذا.
أنور السادات لم يكن أصلح خليفة بعد جمال عبد الناصر، لذلك تجد التناقُض صارخًا بين سياسة عبد الناصر وسياسة السادات، بعد أن كان المجتمع شبه اشتراكي أو شبه متوازن جاء السادات وأعلن الانفتاح وأصبحنا مثل الفئران المذعورة تبحث عن أكل العيش وعن الغذاء.
هذا في المجال الداخلي.
في مجال الحرب ضغَطنا على السادات كثيرًا، لكسر حالة اللاسلم واللاحرب، وأصدرنا بيانًا من نقابة الصحفيِّين ومن الكُتَّاب والمثقفين، والذي فُصلت مع ٧٥ آخرين من أجلها، ثُمَّ وصل عدد المفصولين إلى ٢٠٠ صحفي في سنة ١٩٧٢، وكُنَّا في هذا العام ندفع السادات دفعًا إلى الحرب، والسادات لم يَدخل الحرب إلا مُضطرًّا … وأنا آسف جِدًّا لهؤلاء الذين يقولون بأنه كان يُدبِّر طول الوقت؛ لأنه وجد أن الشعب سوف يتمرَّد عليه وكان المخرَج الوحيد هو الحرب.
السادات لم يكن يُريد الحرب، ولكنه كان يُريد حلَّ المشكلة المصرية وعودة سيناء والأرض المحتلة، والسادات تصوَّر أنه بعرض شروط سخية للسلام يَستطيع الحصول على الأرض، ولكن اليهود لا يفهمون إلا لغة واحدة، هي لغة القوة، وبالعكس، كلما أحس اليهود أننا نريد السلام … يَضربوننا، والحرب هي التي تجعل اليهود يرتعدون خوفًا.
لذلك عندما رفعنا شعار أننا لن نُحارب بعد عام ٧٣ حارب اليهود غيرنا … لأن اليهود لا يفهمون غير لغة القوة ولا يَفهمون معنى السلام.
أنا وجدت السادات في كامب ديفيد متلهفًا جِدًّا على السلام، ومتلهفًا أكثر مما يجب. وأنا أسألك: هل يمكن أن يَدفعك الجوع لأن تأكل طعامًا مسمومًا؟ ومعاهدة كامب ديفيد … معاهدة مسمومة … بعد أن شلَّت فاعلية مصر تمامًا وأخضعَتْها للسيطرة الإسرائيلية، وهذا وضع مرفوض تمامًا …
وبدأتُ أسأل: لماذا السادات قَبِل بهذه الشروط؟ ووجدت بأنه يريد أن يظهر كداعية للسلام؛ لأنه دخل كامب ديفيد وليس في يده ورقة واحدة يلعب بها؛ كان السادات قد سلَّم كل أوراقه قبل دخول كامب ديفيد. وبدأت أتتبَّع القصة عائدًا إلى الخلف، حتى كانت الورقة الأخيرة هي قبول الصلح مع إسرائيل. والسادات كان قد قبل الصلح في زيارة القدس، وبدأتُ أَسترجِع تاريخ السادات ابتداءً من ظهوره في الحركة الوطنية.
ما الذي اكتشفته في شخصية السادات؟
أنا لا أستطيع أن ألخِّص «سبع» مقالات في فقرة واحدة، لا بُدَّ أن تُنشَر مقالاتي كاملة، وأنا أطلب … بل وأرجو نشرها في «الأحرار» كاملةً لكي أواجه الرأي العام بها.
والخلاصة أنني شعرتُ بعد متابعة مذكِّرات محمد إبراهيم كامل … وكيسنجر … وكارتر، بأننا أمام مؤامرة دولية غربية … وأننا أمام خطة عظمى للمنطقة حتَّمت أن يركز الغرب على السادات ليَعزل مصر تمامًا ويشلَّ فاعليتها.
وتساءلت: هل السادات كان مُفرِّطًا؟ هل كان خائنًا؟ هل كان عميلًا؟ … أم أنه كان مجتهدًا؟! وتحت هذه التساؤلات بدأت أتتبع ما كان يفعله السادات طوال تاريخه دون أن أتعرض لأي ناحية شخصية.
مثلًا:
موقف السادات من كيسنجر — وهذا أيَّده هيكل — في محاضر الجلسات السرية مع الإسرائيليين، قال كيسنجر بأنه شعر بأن السادات يتصرف وكأنه لم يكسب الحرب ولم يَعبُر القناة.
عندما يقول كيسنجر هذا ألا يدعوك إلى التساؤل، وأن تقف وتُناقِش ما حدث؟ عندما تجد مطالب رئيس مصر أقلَّ مما يتوقعها أعداؤه، ماذا تقول عن هذا؟ تقول عنه: إمَّا رجل مُفرِّط، أو رجلٌ جاهل بالمطالب الوطنية، أو أنه متفق مع كيسنجر على هذا الحل … ومقالاتي التي نُشرت في جريدة «القبس الكويتية» والتي أثارت ضدِّي هذه الزوبعة لم تُحدِّد أي الاحتمالات صحيحة وأيها خاطئ، وهي ليست أحكامًا نهائية، المقالات تتساءل عن موقف السادات من القضية المصرية وعن استعادة سيناء وعن … وعن …
وقلتُ إننا عندما نستعرض كل مواقف السادات من عام ٧١ وحتى عام ٨١ نستغرب … كيف كان يتصرف؟ عندما نستعرض مواقفه من أيام الحرس الحديدي أيام الملك … ولماذا اختاره عبد الناصر من بين الضباط الأحرار، هل اختاره من أجل إذاعة بيان الثورة الأول، هل اختاره لكي يُخدِّر به الملك، هناك تساؤلات كثيرة … تبحث عن إجابات لها.
ضمه … لكي يَضمنه.
في تنظيمات كثيرة … كثيرًا ما يَضعون بعض العناصر … اتقاءً لشرهم … أو لاستغلالهم في مهام أخرى.
يأخذون منه أخبارًا عن الحرس الحديدي … الذي كان مُكلَّفًا بمراقبة تنظيم الضباط الأحرار.
والسادات نفسُه أثبت بأنه كان في السينما ليلة قيام الثورة، حتى يَثبُت في حالة فشل الثورة أنه لم يكن ضمن المجموعة التي شاركت في الثورة، وهناك مواقف أخرى كثيرة مشابهة.
عندما يتولى السادات زمام مصر في عام ١٩٧٠ ويشنُّ حربًا عام ٧٣، ثُمَّ يفرط في نتائج هذه الحرب … المسألة خطيرة جِدًّا، هذا ليس نبشًا للقبور، أنا أستغرب لهذه الطريقة في التفكير. الرئيس عبد الناصر أو السادات … إنهما ليسا مجرد موتى، هؤلاء قاموا بأعمال أثَّرت في تاريخ الشعب، وعندما نُناقِش أعمالهم وسياساتهم فإن ذلك لا يمكن أن يكون نبشًا للقبور؛ هذا تاريخ مصر، وكل ما فعلاه يتعلَّق بالشعب، ولا بُدَّ أن يعرف الشعب ماذا كان يحدث في السنوات العشر الماضية من حكم السادات.
وسر كتاباتي لهذه المقالات أني كنت أريد أن أَعرف إلى أين نتجه في المستقبل، وشعرت بأننا لم نعرف الطريق الذي نَمشي عليه الآن، قد نكون على أرض العدو ولا نعرف، نريد أن نعرف هل أمريكا عدو أم حليف، إسرائيل عدو أم حليف، وإلى أيِّ مدى يكون التعامل مع أي منهما، هذا كان الهدف من المقالات، ولكي نَعرف المستقبل ولا نقع في نفس أخطائه … لا بُدَّ وأن ننظر إلى الماضي ولكن يجب ألا نغرق فيه.
لقد كتبتُ هذه المقالات بهدف تحديد رؤية للمستقبل؛ لأنني أرى أن الأوضاع لا تزال كما كانت في كامب ديفيد، وأن الخيارات التي أمامنا هي نفس خيارات كامب ديفيد، وأنا لا أريد أن نُكرِّر أخطاء السادات في كامب ديفيد، لذلك أنا أدعو وألحُّ إلى معرفة ماذا فعل السادات، ولماذا فعل ذلك؟!
وهنا لا تُهمني حياة السادات الخاصة، كما لا تهمني مثلًا حياة فردريك الأكبر الخاصة، ولكن الذي يهمني أن فردريك الأكبر قام بتوحيد ألمانيا.
ومقالاتي لم تتعرَّض لحياة السادات الشخصية إلا في لمسات صغيرة جِدًّا.
أضرب مثلًا كنت على العشاء معه في إحدى ليالي عام ٥٩، وفي اليوم التالي فُصلت من أربع وظائف كنتُ أعمل بها؛ الأول سكرتير مساعد في المؤتمر الإسلامي والاتحاد القومي، والثانية من وزارة الثقافة، والثالثة من وزارة الصحة، والرابعة من عملي في جريدة الأهرام؛ والسبب أنني نشرتُ حديثًا معه في الأهرام، وفي اليوم التالي أنكَرَ أنه قابَلَني، وقام عبد الناصر بفصلي من كل وظائفي. وتكرَّر هذا مع كل الذين اقتربوا من السادات … لذلك تجد السادات قد تخلَّص من جميع الذين وقَفوا إلى جانبه في مايو ١٩٧١.
وعندما رجعت بالرؤية إلى حرب أكتوبر، وجدت أن توقُّعات الأعداء كانت أقلَّ مما يتصوَّرون؛ لأن أداء الجيش المصري الرائع في ٦ أكتوبر أذهل السادات نفسه، لدرجة أن الجيش عندما عبر القناة أمر السادات الجيش بالتوقُّف؛ لأنه خاف من حجم الانتصار، وقال للجيش: قف مكانك، وكان هذا خطأً عسكريًّا؛ فعندما يقع عدوِّي يجب أن أواصل هجومي وأستولي على المضايق، وأنا أناقش هنا المنطق البسيط للأشياء.
بالضبط؛ لأنه لو سيطرنا على المضايق نكون قد سيطرنا على الجزء الحصين من سيناء، وهنا تقع مسئولية السادات بانفراده باتخاذ القرار؛ وبالتالي أصبح هناك خنجر في ظهر الجيش الثاني والثالث، وأنا أطرح عدة تساؤلات منها مثلًا لماذا تكوَّنت الثغرة أصلًا.
هذه مجرد تساؤلات، حرب أكتوبر مضى عليها عشر سنوات دون أن نناقشها، وأنا لست بدارس عسكري، ولكني ذهبتُ إلى الدفرسوار، وإلى مكان الثغرة، وتكونت لديَّ بعض التساؤلات طرحتُها في مقالاتي ووجدت أن حجم العمل في الثغرة لم يكن يتمُّ في ٢٤ ساعة … فكيف قام اليهود بهذا العمل في هذه المدة؟ وطالبت أن تتكون لجنة من الجيش المصري لدراسة واقعة الثغرة، لماذا حدثت؟ وكيف حدثت؟ وهل كان من الممكن تلافيها أم لا؟
وهذا التفكير ليس مستغربًا؛ أمريكا وفرنسا وإنجلترا ما زالوا إلى اليوم يَدرُسون نتائج الحرب العالمية الثانية، فلماذا لا نُناقش موضوعًا هامًّا كالثغرة؟ والذي يعترض على ذلك قد يكون مخطئًا. هذه الحرب صنَعها الشعب ممثَّلًا في قواته المسلحة، فلماذا لا نضع تساؤلات، نريد عليها إجابات واضحة؟ وأنا طلبت موعدًا عاجلًا مع المشير أبو غزالة وزير الدفاع لكي أوضِّح له ذلك، أنا أتساءل ولست أشكك.
شكَّلت أن صورة حرب ٧٣ كانت في ذهن السادات صورة خاطئة تمامًا.
السادات كان يريد شن حرب محدودة، وكان يريد أن يشن الحرب لمجرَّد التسخين فقط، ثُمَّ يحل المشكلة بعد تسخينها، لذلك عندما عبر الجيش المصري إلى البر الشرقي ثُمَّ أمره بالتوقف استطاع اليهود ضرب سوريا، ثُمَّ ركزوا الهجوم على مصر وعملوا الثغرة، ولكن لو كان استمر الجيش المصري في الحرب كانت النتائج مختلفة تمامًا، ولم تكن هناك ثغرة.
هذا كذب، أنا أقول إن حرب أكتوبر لم تكن مسرحية، وأنها كانت أعظم حرب خاضها الجيش المصري، وإنما الممثِّل الوحيد فيها كان هو السادات وكيسنجر، ومفاوضات الكيلو ١٠١.
نعم بعد ذلك؛ لأن كيسنجر نفسه قال بعد حرب أكتوبر بأنهم كانوا يتوقعون بأن يأخذ السادات من نتائج هذه الحرب أكثر من ذلك بكثير. أنا لم أطعن في حرب أكتوبر، ولكن الذي طعن فيها هو الذي لم يجنِ ثمارها، نتائج الحرب تم إهداؤها إلى إسرائيل وإلى أمريكا.
بحكم خبرتي، وبحكم جولاتي في البلدان العربية، كنت أثناء مظاهرات ١٧ و١٨ يناير ١٩٧٧ في زيارة الكويت، وذهبتُ منها في جولة إلى دول الخليج، وناقشت مع المسئولين هناك أوضاع العلاقات بينَنا وقلت لهم: بأن البترول ليس ثمنًا للبترول، وإنما ثمنٌ لقوة العرب وقوى العرب من قوى مصر، وإذا فقدت مصر قوتها، فلن يكون لبترول العرب سعر مع مرور الأيام، وهذا ما يحدث هذه الأيام.
وقيل لي: بأنهم يُرسلون مساعدات إلى مصر، لكنها تحوَّل إلى حسابات خاصة وإلى بعض الأشخاص، المساعدات تُنهَب قبل أن تذهب إلى الشعب المصري.
قالها لي: عبد الرحمن العتيقي وزير مالية الكويت. والخطير أن رحلات السادات إلى البلاد العربية قبل عام ٧٧ لم تكن تجري بالطريقة التي تَليق بمكانة مصر، وساعد هذا على الإقلال من استعداد لإعطاء مساعدات عينية. ولعلمك مليونيرات هذه الأيام تكوَّنت نتيجة المسروقات التي حدثت، وفي ١٧ و١٨ يناير ٧٧ طلب السادات فلوسًا من العرب، لكنهم رفضوا، هنا فكر السادات في المبادَرة، وفي الذهاب إلى إسرائيل، ثُمَّ توسَّعت الخلافات بين مصر وبين الدولة العربية، والاحتمالات التي أمامي هي أنه كان «مُفرِّطًا» أو أنه لم يكن يُهمُّه من القضية المصرية إلا نفسه أو أنه كان متفقًا مع كيسنجر. وفي رأيي أنه لم يكن يحدث خلاف مع الدول العربية إذا كان هناك شخص آخر غير السادات؛ بدليل علاقاتنا الآن بالدول العربية تحسنت حتى فترة قليلة نسبيًّا بعد تولي حسني مبارك الحكم.
هل نرث النظام الساداتي كاملًا، وتكون النتيجة تعصُّبًا دينيًّا وطائفيًّا وحادث منصة، هنا لا بُدَّ وأن نبحث عن الخطوات التي أدَّت إلى الكارثة التي حدثت في أكتوبر ١٩٨١ وباعتباري كاتبًا ومُفكِّرًا أرفض أن تنتهي المسألة ١٩٨١ وأرفض أن تَنتهي المسألة بانقلاب أو بقتل أو بثورة، نحن دولة متحضِّرة، وبها برلمان من ١٠٠ سنة ويجب ألا نَرجِع إلى الوراء يجب أن نسبق الزمن لكي نعوِّض ما فاتنا.
لستُ في محلِّ تقييم عهد السادات، الكاتب ليس مؤرِّخًا، أنا مفكر لهذا الشعب، والمفكِّر يطمع أن ينور للشعب طريقه إلى المستقبل، فليس الهدف البحث عن حسنات أو سلبيات نظام السادات. أنا أضع يدي على السلبيات لكي لا تتكرر، وأحاول أن أستخلص من الماضي القريب عبرة … أعبر بها إلى المستقبَل، ومن الضروري تعويض سنوات التخلُّف من عام ٦٧ ونحن واقفون محلك سر.
هذه حسنة من حسنات مبارك؛ لأنَّ السادات ضرب المعارضة، وما تنعَم به من ديمقراطية اليوم هي حسنة من حسنات مبارك؛ لأن السادات شطب المعارضة، ووضع رجالها في السجون وأغلق صحفها، وأنا أول مرة أذهب فيها إلى صناديق الانتخاب وأقول فيها «نعم» كانت عند تولي حسني مبارك الحكم، وكلنا نعلم بأن الاستفتاءات السابقة كانت مزوَّرة ولم تكن تُعبِّر عن الشعب.
الذهاب إلى ليبيا ومقابلة القذافي
هذا غير صحيح بالمرة؛ لأن هذه المقالات كُتبت في يناير الماضي، في حين أن زيارتي إلى ليبيا كانت في مارس الماضي؛ أي بعد كتابة هذه المقالات بحوالي شهرين.
دائمًا كنت آخذ زمام المبادرة للعمل على تحسين وضع مصر في العالم، وهذا ليس له علاقة بأي صفة رسمية، نحن بلد غنية وبها مُفكِّرون، ونستطيع أن نفعل أشياء كثيرة لمصر بعيدًا عن المسئولين الرسميين. قابلت أنديرا غاندي في العام الماضي، وقبلها قابلت بومدين في الجزائر وصدام حسين وبورقيبة وحافظ الأسد وكثيرين.
وعندما كنت في زيارة لقبرص في مارس الماضي، قابلت رئيس تحرير إحدى الصحف الليبية، وظل يهاجم الوضع في مصر، وقلت له بأن الوضع في مصر قد تغير بعد حادث المنصة في ٦ أكتوبر ١٩٨١، وقال لي بأنهم في ليبيا ما زالوا على موقفهم القديم من نظام السادات، وأن جواز السفر الليبي مكتوب عليه ممنوع دخول إسرائيل ومصر وجنوب أفريقيا.
وعلمتُ بأن ابن عم القذافي قام بزيارة إلى مصر، وحاول خلالها الاتصال بالمعارضة المصرية، وقلت له أن هذا أسلوب غير سليم، وأن نظام مبارك وطني ويَختلِف عن النظام السابق، ويجب أن يتمَّ الاتصال بالسلطة الشرعية هنا في مصر، ليس عن طريق المعارضة.
وقال لي رئيس التحرير الليبي بأنك في مهمة قومية؛ لأن معمر القذافي لا يجرؤ أحد على مناقشته، وطلب مني أن أُواجِه معمر القذافي بهذا الوضع الجديد في مصر، وكان المفروض في هذه اللحظة أن ألجأ إلى السلطات في مصر لإخطارها، ولكن كان معنى ذلك أنني في مهمَّة رسمية، ولم أكن أريد ذلك.
والحقيقة تردَّدتُ كثيرًا.
أنا لا أعرف ماذا يعملون معي هناك، أو كيف يتصرَّفون مع الناس، واخترتُ قراري بالذهاب إلى ليبيا، كنتُ رسولًا غير موفد من أحد، وقابلتُ القذافي وناقشت معه قضايا كثيرة.
أنا لستُ في حِلٍّ من ذكر الذي دار في هذا اللقاء، وبمجرَّد وصولي إلى مصر كتبتُ من تلقاء نفسي تقريرًا رفعته إلى الرئيس مبارك دون أن يطلب أحدٌ مني ذلك. لذلك أقول لرئيس جريدة مايو بأن ذهابي إلى ليبيا ليس له علاقة بنشر مقالاتي في القبس الكويتية، ولأنني لستُ في حاجة إلى فلوس ليبيا كما ادَّعى صبري أبو المجد، أنا في حاجة إلى الشعب الليبي فقط، كما أن معمر القذافي رئيس عربي ومسلم، وليبيا بها نصف مليون مصري، ولم أذهب إلى إسرائيل يا رئيس تحرير مايو، ولم أقابل بيجين.
الرئيس الليبي طالب بعودة العلاقات على شرط أن تخرج مصر من كامب ديفيد، ولكني قلت له بأن معنى ذلك هو مواجهة عسكرية فورية مع إسرائيل، وقال لي: هذا شُغلكم وأنتم أحرار.
ولكن من رأيي إذا كانت الدول العربية جادة في عودة علاقاتها بمصر، فيجب أن تُسقط من حساباتها نقطة إلغاء كامب ديفيد؛ لأنها نقطة خطأ، وأيُّ قرار يجب أن يُتَّخذ في هذا الشأن لا بُدَّ أن يكون قرار مصر.
أمَّا بخصوص ما دار في لقاء الرئيس الليبي معمر القذافي، فسأَنشُره عن قريب وفي الأحرار لو أمكن حواري معه.
كل الذي قلتُه عبارة «إسطبل كامب ديفيد»، وذلك على رأي العقيد القذافي، قلتها في مجال السخرية على كامب ديفيد، وأتحدى أن توجد كلمة أو عبارة أخرى للقذافي أو لغيره.
لأنها فعلًا بحث حول السادات، والسادات هنا ليس المقصود به شخص السادات؛ لأنه إذا كان الرئيس السادات قد مات فإن سياسات السادات باقية، ولأن سياسة السادات مرتبطة بشخص السادات، كان لا بُدَّ من مناقشته شخصيًّا.
المقالات بحث عن الساداتية، وعلاقاتها بالواقع الذي نعيش فيه، نحن اليوم نعيش في ظل جهاز إعلامي ساداتي يمنح المناصب الكبرى فيه أشخاصًا أيَّدوه في خطوة قام بها، يذهب إلى القدس … تصفيق … يوقع اتفاق كامب ديفيد … تصفيق … يَضرب المعارضة … تصفيق.
الجهاز الإعلامي اختيار ساداتي، ربما أنت غيرنا في سياساتنا الداخلية والخارجية؛ فقد أصبح الجهاز الإعلامي بالتالي غير مناسب للوضع الجديد، ولا بُدَّ من تغييره.
نعم؛ بدليل أننا نقول هذا الكلام الآن.
والبعض سألني: لماذا لم تَقُل هذا الكلام وقت أن كان السادات في الحكم، وأنا كنتُ على استعداد أن أقوله، وقلتُ بالفعل نماذج منه والسادات في الحكم، منها مقال «تعالوا نُنظف مصر»، ومقال آخر «تعالوا ننظف مصر مرة أخرى».
والمشكلة أن هؤلاء الرؤساء لا يَجعلوننا نناقشهم وهم أحياء، إذن نناقشهم بعد موتهم، وهذه كارثة انعدام الديمقراطية في العالم الثالث. إنك لا تستطيع أن تناقش وضعًا إلا بعد أن ينتهي وليس أثناء وقوعه، ولو سَمح السادات بنشر مقالاتي ومقالات غيري في حياته لما قُتل السادات.
انتهى إلى أن هذا الرجل كان يبحث عن ذاته هو.
لم يَدعني يوسف إدريس أن أنتهي من سؤالي وقال:
أنا لم أعتقَل في سبتمبر ٨١، ولكني اعتقلت فعلًا في شخص كل واحد اعتُقِل، وليس من الضروري أن أدخل السجن لكي أكون مسجونًا، كل شخص في المعارضة دخل السجن، كنتُ أشعر بأنني الذي في السجن بدلًا منه.
أنا لم أفهم لماذا يوسف إدريس وهيكل، رغم أن هناك كثيرًا من الصحفيين كتبوا ونشروا عن السادات في الخارج وفي الداخل أيضًا.
وهذا البيان لو كان صادرًا من هيئة صحفية منتخَبة كنتُ قد اعتبرته صفعة شديدة لي، إنما هو بيان صادر من أناس عيَّن معظمهم السادات ليكونوا رجاله، لذلك أعتبر البيان أحسن تقدير حصلتُ عليه في حياتي.
وهذا البيان ليس إدانة لي، ولكنه شرف كبير لي؛ فإن ٩٩٪ من أعضاء المجلس هم من أعدائي وأعداء الشعب. وبالمناسبة، كل الذين يُدافعون عن السادات اليوم قد استفادوا من عهد السادات بطريقة أو بأخرى، وأَحضِر لي شخصًا واحدًا يُدافع عن السادات اليوم ولم يستفد منه حينذاك أحترمه. كلهم يدافعون عن السادات لأنهم كانوا مستفيدين من حكم السادات.
السادات ليس هو مصر، مصر أكبر من السادات ومن عبد الناصر ومن سعد زغلول، مصر أكبر من هؤلاء، مصر هي الشعب المصري.
وأنا لم أفهم ما الذي يريده المجلس الأعلى للصحافة من إدانة مقالاتي، كنتُ أريد أن يناقش هل ما كتبتُه خطأ أم لا؟ كيف يحكمون على كاتب بالإدانة دون أن يقرءوا ما كُتب؟
ثُمَّ ما هو المقصود من الإدانة؟ هل المقصود هو المنع من الكتابة؟
أنا مستعدٌّ أن أُحاكَم أمام أي محكمة، وسوف ألجأ إلى القضاء ليُنصفني من الصحافة. وأقولها صريحة بأنني على استعداد أن أُحاكَم اليوم أمام أي محكمة، وحتى أمام المدَّعي الاشتراكي، إني ألجأ إلى القضاء طالبًا منه أن يُنصِفني من مجلس لا أعتقد أنه له شرعية.
عندما أتعرَّض لسعد زغلول، هل هذا تعرُّض لحرمة سعد زغلول؟ عندما أُناقِش زعيم مصر فيما فعله، هل هذا تعرُّض لحرمة الموتى؟ إذا كان هذا الرجل قد مات فإن الحقيقة لا تموت، والشعب المصري باق، ولا توجد تقاليد تمنع مناقشة الموتى إذا كانت حياتهم قد أثرت تأثيرًا خطيرًا في حياة الشعب الحي.
وعندما أكتب مقالًا عن رمسيس الثاني وأقول إنه تزوَّج ابنته، هل هذا نبش للموتى؟
لذلك عندما قام السادات بإخفاء موميات ملوك الفراعنة باعتبار أنَّ هذه حرمة للموتى، فإن هذا لم يكن نوعًا من التقدم الفكري.
أنا آسف أن أقول بأن التاريخ مليء بعشرات الموضوعات التي تناوَلت سير وحياة الزعماء، ولأنني اليوم أقرأ مذكرات هتلر، وفي ألمانيا يستفيدون اليوم من هذه المذكرات، لتكوين رؤية أخرى عن الحرب العالمية الثانية رغم مرور أكثر من أربعين عامًا عليها.
وما يَنقصنا هو نظرة حقيقية وموضوعية إلى الأشياء دون إرهاب فكري، فإذا كانت مشكلة توفيق الحكيم قد نُوقِشَت، ومشكلة السادات قد نُوقِشت، ومشكلة التكفير قد نوقشت، ومشكلة الثغرة قد نوقشت، لم يَعُد هناك ما يُسَمَّى بالتابوهات التي لا تُناقَش، كل شيء في مصر اليوم قابل للنقاش، وهؤلاء الذين يريدون إلغاء عقولنا حتى لا تُناقش أو تفكر هم الذين بهم عيب خوف أن تتكشَّف عيوبهم، يريدون أن يُغمضوا عيوننا عن عوراتهم.
وأريد أن أقول لصانعي الزفة والمطبِّلين والمزمِّرين الذين يريدون أن يشنقوني، أقول لهم: أنتم تلعبون بالنار، فكفى لعبًا. لقد ظللتم تزفُّون السادات وكانت النتيجة معروفة، ولن نسمح لكم أبدًا أن تستمرُّوا في هذا، «كفاية بقى … الشعب استوى منكم!»
(٣) بيان من يوسف إدريس
قبل أن أبدأ هذا الحديث أحبُّ أن أُعلن هذا البيان للشعب: إنَّ قلة من صغار الصحفيين حاوَلَت أن تُوقع بيني وبين القوات المسلَّحة بادعائهم أني قلت عن حرب أكتوبر أنها مسرحية، وأتحدى هؤلاء الناس أن ينشروا ما قلته، فما قلته كان مجرد تساؤلات حول الثغرة التي التفَّت حول بطولة الجيش المصري العظيمة وأدائه الرائع المجيد. كان من الممكن أن تُستثمَر نتائج حرب أكتوبر لإعادة سيناء كاملة دون قيد أو شرط ودون تقييد مصر العظيمة بقيود كامب ديفيد الحديدية.
إني إذن أعلنها لمن في آذانهم صمم، لن تستطيعوا الإيقاع بيني وبين شعبنا وجيشنا؛ فأنا من قلب شعبنا وجيشنا، وجيشنا وشعبنا من قلبي، فكفوا عن هذه المحاولة. لقد كتبتُ عن حرب ٧٣ والعبور أصفُها بأنها أعظم حرب خاضها الجيش المصري الحديث، وهذه الكتابة موجودة في الأهرام نفسها التي اتهمَني مدير تحريرها بتلك التُّهمة لأسباب تنافسية مهنية محضة، وإني لأستغرب أن يدفع الغيظ من الكاتب شخصًا ما للإيقاع بيني وبين جيشنا الحبيب العظيم.
(٤) سيادة الرئيس … إني أتظلم منك … إليك!
السيد الرئيس محمد حسني مبارك
كنتُ قد قررتُ بعد أن استمعتُ لخطابكم التاريخي في عيد العمال، وأدركتُ أنني الكاتب الذي قصدتُموه، فقد أحلتَ سيادتكم الجماهير على المنشور في جريدة الأخبار يومها لكي تتعرَّف على الكاتب، ولأنَّ الموضوع الرئيسي للأخبار يومَها كان عن شخصي وبالبُنط العريض، وكان أيضًا تحريضًا للقراء عليَّ ومحاولةً للإيقاع بيني وبين قُواتنا المسلحة.
حين أدركتُ أنني الكاتب المقصود أُصبتُ بنَوع غريب من الذهول، ذهول سببه الأكبر لم يكن ما ورَد في خطابكم الكريم عنِّي، وإنما سببه الأكبر ذهولي من كيف انقلب الموضوع من تراشُق صحفي محفوظ الكلمات والتعابير إلى خبر خطير وعلى لسان رئيس الدولة الذي نكنُّ له جميعًا، وأُكنُّ له بشكل خاص، أسمى آيات التقدير والإعجاب، وأضيفُ أنا والحبَّ الشديد أيضًا.
وكان أول ردِّ فعل لي أن قرَّرتُ أن أسكت تمامًا ولا أنطق بحرف، فما داموا قد أوصلوا سيادتكم إلى هذا المدى من السخط عليَّ، وما دامت هذه الأفواه بالتقارير الكثيرة، ومن عدة أشخاص، لا بُدَّ بل ومن خطب في المجلس الأعلى للصحافة قد جعلتْك أنت الحليم الذي لا يَسمح لنفسِه أن يَنطِق عن غضب أو حتى يغضب. ما داموا قد أغضبوك مني إلى هذه الدرجة التي يَلتفِت فيها ابني الطالب في الهندسة إليَّ ويسألني: هل أعطاك القذافي خمسة آلاف دولار يا أبي؟!
بربك، يا سيادة الرئيس، وأنت الوالد لشابَّين في مثل عمر أولادي، ألو سمعتَ أحدهما يسألك — لا قدَّر الله — سؤالًا كهذا، بعد استماعِه لخطاب رئيس الجمهورية، أيُّ كمٍّ من الحزن الغاضب يجتاحُك وأنت العارف تمامًا أنك بريء وأن المعلومات كلها عند الرئيس، والرئيس نفسه هو الذي يُدينك أمام أبنائك وعائلتك وقرائك وشعبك؟!
كان الجرح حادًّا وغائرًا، بل وقاتلًا، فلو كُنَّا في مجال التجارة أو القومسيون، أو من العاملين بها، لو كان الأمر أمر إنسان يَسترزق من الكتابة أو الصحافة، لكانت تُهمة قابل للنفي أو الدفاع، أمَّا أن يكون الاتهام لكاتب مبدأ وعقيدة، أمَّا أن يكون الاتهام لمصري قضى في الحركة الوطنية ثلاثين عامًا يكتب ويُناضل ويبشر، ثُمَّ يتوج هذا العمر بطعنة في صميم وطنيته وذمته وكبريائه!
الحقيقة ترنَّحت، نصف القلب الذي أمتلكُه بعدما اقتطعوا نصفه الذي مات أثر أزمة قلبية يدقُّ بطريقة تأكَّدتُ معها أنه سيتوقَّف؛ فالإنسان الحرُّ قد تقتلُه كلمة مهينة، فما بالك بتهمة مَهولة كهذه.
وكان أول ردِّ فعل عاقل لي أنه ما دامت المسائل قد وصلت إلى هذا الحد، فلا فائدة من أي كلام، بل حتى لو أردتُ الكلام لما استطعتُ، بل ولما قلتُ عن نفسي أي دفاع أو أي دفْع للتهمة؛ فالإنسان الشريف يَخرس لسانُه إذا طُعن في شرفه؛ إذ هو غير مجهَّز أو مُعتاد على الدفاع عن شرفه. أمَّا أولئك البُلغاء للدفاع عن أنفسهم، فهم أولئك المُعتادون على الدفاع عنها؛ لأنهم قد اعتادوا التهمة وتعرفوا على الحُجج.
ثُمَّ إن هناك اعتبارًا آخر؛ أنا إنسان متحضِّر، أعتبر رئيس الجمهورية الذي اخترته وانتخبتُه، هو الصدق الكامل، حتى لو اختار الرئيس أن يَصمُت عن الحقيقة، فلا بُدَّ أن له أسبابه ومُبرِّراته، ولا بُدَّ أن الضغوط شديدة، وأن المسألة مؤلِمة تمامًا له، وهو يُضطرُّ أن يَقف من مواطن أعزل هذا الموقف المسلَّح بكل ثقل الدولة وأجهزتها وجرائدها ووسائل إعلامها وكيانها وهيلَمانها.
•••
قررتُ إذن أن أَصمت حتى لو مت، حتى لو توقَّف قلبي عن الدق؛ فالطَّعنة في الكبرياء والشرف مُروِّعة، وأقسى منها أن تكون صادرة عمن لا تستطيع مناقشتَه.
يا إلهي، لا تَجعل أحدًا من عبادك يَقِف أبدًا هذا الموقف.
ولكن حين مرَّ يوم ويومان، ووجدتُ فرقة الطبل والزَّمْر والطَّعن قد توقفَت فجأة عن العزف، وخُيِّلَ إليها أنها أدَّت المهمة تمامًا وأنها دبحت «الزبون» وبإتقان، لم يكن يخطر لها على بال وراحَت تتبادَل بينها وبين أنفسها الأنخاب، حزَّ الأمر في نفسي تمامًا، فمعنى هذا أن الظُّلم والزور قد انتصَرا.
وهذه مسألة لا يُمكِن السكوت عليها
فأنا مُستعدٌّ أن أُقتَل كذبًا وتلفيقًا، ولكن قبل أن أموت تمامًا من واجبي ككاتب ومواطن أن أكشف لمواطني ولرئيسي عن الداء الوبيل الذي خُيِّل إليه أنه انتصَر.
مِن واجبي أن أقولَ الحقيقة للناس؛ فالساكت عن الحق شيطانٌ أخرَس، وأنا بسكوتي سأكون بمَثابة فرد مُتآمِر في عصابتهم وسأُساعِدُهم على التنكُّر أكثر وعلى الإيغال في خداع الناس وخداع السلطات والمضيِّ في غيِّهم إلى آخر المدى.
ورجائي يا سيادة الرئيس أن تقرأ كلماتي بإمعان؛ فقد أكون أنا الأول في القائمة، ولكني لستُ الأخير؛ فالقائمة طويلة، وهي تقريبًا تضمُّ كل المُخلِصين لك عن حق، وكل الشرفاء في هذا البلد، ولا يُمكن لضميرك أن يرضى أن يجعلوا من الدولة ومن جهازها الهائل آلة سحق «يفرمون» بها كلَّ مَن هو ليس بانتهازي أو كاذب أو دَعي أو مُلفِّق أو كلب سلطة مثلهم. الموضوع خطير تمامًا يا سيادة الرئيس، وهو ليس فقط أمر موت أو حياة خاص ببعض الناس الشرفاء، ولكنه أمر هذه الأمة، الأمة التي أنت قائدها، أمر جيشك الشعبي الذي يُريدون عزلَك عنه، وعزله عنك، والإيقاع بينك وبينه.
لقد بدأَت المسألة حين أحدث الرئيس السابق تغييرات في الصَّحافة عهدَ بها إلى من سمَّاهم «الشباب» بالعمل كرُؤساء تحرير ومُديري تحرير جدد لمعظم الجرائد «القومية».
وقد كان مُمكنًا أن يكون هذا الأمر تجديدًا فعلًا لولا الضَّعف البشري الذي مُمكِن أن يحدث للمُوظَّف الصغير إذا رقيتَه فجأةً مديرًا لمؤسَّسة كبرى، في الحال يُصبِح هدفه أن يُخلي الساحة من كلِّ الدرجات التي تعلوه أو يخفض من رأسها عنوة حتى تُصبح الكلمة الأولى والأخيرة له.
ولستُ — في الأهرام — سوى مثل واحد للمَهازل التي دارَت وتدور في الصُّحف الأخرى؛ فهُناك عشرات القَضايا المرفوعة ضد رؤساء مجالس الإدارة ورؤساء التحرير، بعضُها حُكم فيها فعلًا بالإدانة والتعويض الكبير، وهناك مئات المنازعات اليومية بين صغار الموظَّفين الذين أصبحوا مُديرين مُرتكنين إلى صدر الدولة والسلطة، مُنهالين على عباد الله الصحفيين والكتاب في جرائدهم بالتحكُّم والتنكيل.
ويَشاء الله أن يَرزقني في الأهرام بمدير تحرير يتصوَّر أنه لا بُدَّ أن يكون كاتب الأهرام الأول، وبمُؤازرة رئيس التحرير، وبدعم من مساعد رئيس التحرير، ولاعتقادهم أني لستُ من «شلتهم» دأبوا على مُشاكَستي، وإثارة أعصابي لدى كل مقالة أكتبها أو كل رأي أُبدِيه، بل وصَل الأمر إلى حدِّ أن الأستاذ صلاح مُنتصر مدير التحرير كان يَسمح لنفسه أن يشطب ما شاء من كتابتي دون علمي ويَنشر مقالي الناقص وكأنه رأي؛ بمعنى أنه أقام من نفسه وصيًّا على كاتب له ثلاثين عامًا يكتب، ووصيًّا رغم أنفِه وليس برضاه، وكان لا بُدَّ أن تحدُث مُشاحنات بيني وبينه وبينه وبين بقية المسئولين عن الجريدة، بعضها وصل فعلًا إلى علم سيادتكم.
وهذا هو السبب الأول يا سيادة الرئيس أننا نلجأ أحيانًا للنَّشر في الجرائد العربية أو جرائد المعارضة، فهم ليُغطُّوا طُغيانهم قد زعموا أننا نَنشُر هناك طلبًا للدينارات والريالات والدولارات؛ ذلك أنهم يَحكُمون على الناس بمَنطقهم هم؛ إذ هم لا مَنطق لديهم إلا منطق النقود، أيُّ ولاء لا بُدَّ أن يكون وراءه نقود، وأيُّ مقالة أو تأييد لا بُدَّ أن يكون له ثمن؛ فهم لا يستطيعون أن يتصوَّروا أن الإنسان كاتب ويَكتُب لأنَّ له رأيًا وأن حرصه على هذا الراي هو الحرص الوحيد لديه، وأن أيَّ مقابل مادي يأتي من النشر لا يُشكِّل أي اعتبار لدى الكاتب صاحب الرأي ووجهة النظر، هكذا هم، وهكذا نحن، والنتيجة أنهم يتصوَّرون أن أيَّ رأي لا قيمة له، وأنه من المُمكن الحذف منه أو الإضافة إليه، أو شراؤه بسعر أعلى مقابل تنازُل كاتبه عن مَضمونه. الكتابة عندَهم سوق، وعندنا مبدأ، وكان لا بُدَّ أن يقع الخلاف.
وتستطيعون سيادتَكم أن تتصوَّروا مدى الألم الذي يُعانيه كاتبٌ حين يكتب في جريدةٍ «المسئولون» عنها مُتربِّصون لكلِّ كلمة يَكتبها، يتمنَّون اليوم وقبل الغد أن يَقتَنِصوا له سقطة فيُشهِّروا به ويُبلِّغوا عنه السلطات، وقد حدث أكثر من مرة، ومنها المرة التي أشرت لها سيادتكم في مسألة القدوة، أن نشروا آراء «تُكفِّرني» أمام القراء دون عِلمي، ومن وراء ظهري، وطعنًا في ظهري. كيف بالله يستطيع الكاتب أن يكتب والمسئولون عن الجريدة يتحينون الفرصة لطَعنِه في ظهره؟
وقد حانت الفرصة
ما إن وقع نظر الأستاذ صلاح منتصر على إعلان منشور في جريدة الخليج عن المقالات السبع التي ستَنشرها نقلًا عن «القبس» (دون علمي)، ووجَد في الإعلان كلمات مستفزة، حتى أفرد للإعلان نصف الصفحة الداخلية، وبطريقة هي الأولى من نوعها في الأهرام وفي الصحافة المصرية. طريقة مُثيرة محرِّضة، ومحرضة للدولة ولأنصار الرئيس السادات وحتى للشعب العادي؛ إذ قد زعم فيها أني أُهاجم مصر وشرف مصر وأتنكر لتراب مصر … إلخ.
وأنهى الإعلان بخطاب مزوَّر وخطاب آخر على لسانِ قارئ يقول فيه إني قلتُ عن حرب أكتوبر أنها «كانت مسرحية»، وفوجئتُ في اليوم التالي كما فُوجئ الناس جميعًا بالإعلان منشورًا بهذه الطريقة المحرِّضة المستفزة.
ولو كُنَّا في جوٍّ صحفي آخر لكانت الدنيا قد قامَت وقعَدت ليس ضدي، وإنما ضد المسئول عن هذا العمل، ضد مدير تحرير يَستغلُّ إمكانياته وسلطاته في تلفيق اتهامٍ لكاتب زميله ويعمل معه في نفس الجريدة.
وأنا شخصيًّا اطمأننتُ إلى أن الرأي العام سيَأخُذ هذا الكلام مأخذ الهزل، فهل معقول أن يَكتب كاتب مصري ويقول عن أداء الجيش المصري الرائع في ملحمة أكتوبر إنه كان مسرحية، وأن الضباط والجنود كانوا «يُمثِّلون» القتال، ولا يُقاتلون، مسألة مُستحيلة ولا يُمكن أن يُصدِّقها أحد.
كنتُ مطمئنًّا لهذا؛ لأني أعرف ما كتبتُه، وما كتبته كان خاصًّا بالتنازلات والمساومات التي أهدرَت نتائج حرب أكتوبر العظيمة، وليس له علاقة من قريب أو من بعيد بأداء الجيش المصري الرائع وملحمة العبور. وهكذا اتصلت بصلاح منتصر طالبًا منه أن يَنشُر بيانًا لي أُكذِّب فيه ما جاء في الإعلان، فكانت إجابته الغريبة أنه رفض مبدأ أن أردَّ أو أُكذِّب، بل أضاف بأن المجلس الأعلى للصحافة قد اجتمَعَ وأصدر بيانًا يُدينُني ويُدين الأستاذ محمد حسنين هيكل.
سبحان الله …
إعلان كاذب، وخطاب مزور، ووصفٌ وارد على لسان قارئ، وصفٌ لم أقله ولم أكتبه، تتلقَّفه الجرائد القومية الأخرى وكأنه حقيقة، وتصنع زوبعة، تتلقفها جريدة الحزب الوطني «مايو»، ويُضيف رئيس تحريرها من عنده أنني كتبت هذه المقالات بعد مقابلتي لمعمر القذافي، ويوضَع هذا مع ذاك، ويُصعَّد الأمر لمجلس الأعلى للصحافة، ويجتمع المجلس، ويَقِف الشيخ النمر يُضيف صفيحة بنزين فيقول إن الكاتب الذي كتب هذا الكلام قابل الرئيس ويَظهر معه في الصور، فهل معنى هذا أن الرئيس مُوافِق على ما كتَب؟
وهكذا تَكبُر كرة الكذب الصغيرة، وتتحوَّل إلى كرة من نار مؤكَّدة، وأُصبِح بين يوم وليلة مُتَّهمًا بثلاث تُهَم عُظمى؛ التشكيك في بطولة أكتوبر، وأخذ تعليمات من القذافي بمُهاجَمة السادات، واستغلال ظهوري مع الرئيس في صورة لأزعم أنني أتحدَّث — في هذه المقالات — باسمه. ولو كُنَّا في جو صحفي آخر لأطفأتُ هذا الحريق كله في ربع عمود أذكر فيه الحقائق وأنخر هذا البالون المتضاخِم المُلتهِب.
ولكنَّا في جو صحفي غريب
فها هو «الأهرام» رفَضَ نشْر بياني، وأرسلتُ «للجمهورية» بيانًا لم يُنشَر، أو ربما لم يَصِل، وذهبتُ بنفسي إلى «أخبار اليوم» وقد كتبتُ توضيحًا عاجلًا آخر، ولكن الأستاذ إبراهيم سعدة «زاغ» من مُقابلتي، وحين تركتُ البيان ليُنشَر، فوجئتُ بعدد «أخبار اليوم» التالي «السبت قبل الماضي» وكأنه منشور موجَّه ضدي؛ فقد احتوى على كاريكاتير «للصديق» الكبير الذي أحبه (رخا)، وفيه حذاء الجيش وهو يَسحقُني وأنا في حجم النملة، والحذاء ضخم جِدًّا، ورهيب، وفيه خطابات «لقراء» أعرف مَن كتَبَها ولفَّقَها، وحملة أخرى مزوِّرة مَسعورة.
ولأول مرة، أنا الكاتب والصحفي، أُواجه «حرية» الصَّحافة، وجهًا لوجه، حرية صحافة تتَّهمني كذبًا وتلفيقًا بثلاث تُهَم خطيرة، دون أن تطَّلع مجرَّد تطَّلع على ما كتبتُه، وإنما تجعل مِن «وصف» قال عنه قارئ أني كتبتُه، حيثيات حقيقية وإثبات لا يَقبل الجدل، وتقود حملة مسعورة ضدِّي، مُثيرة للرأي العام وللقوات المسلحة ولرئاسة الجمهورية عليَّ، وأنا لا أَملِك أن أقول كلمة، ويدينني المجلس الأعلى للصَّحافة بعدما استباح معظم أصدقائه لأنفسهم أن يتَّهموني، بلا أي سند، بأقذع التُّهم دون صوت واحد يتساءل: أَرُونا ماذا كتب هذا الرجل، وما دليلكم؟ أين الدليل؟
وأنا، الجاني المجني عليه، لا يريد أحد أن يسمع صوته، وترفُض الصحف نشر بياني بإصرار، والمحكمة — أي المجلس الأعلى للصحافة — اجتمعَت وحاكمَتْني على الإشاعة التي بدأها صلاح منتصر، ووقف هو أيضًا كالطاوس، في ثوب المدعي العام، يدين الأستاذ هيكل ويدينني أنا على تُهمة هو يعرف أنه مُلفِّقها الأول؟!
•••
في ظلِّ جوٍّ قاتل للحقيقة هكذا، مُروِّج للكذب والتضليل، في جوِّ إرهاب منقطع النظير، تحاكَم فيه على إشاعات وبالإشاعات، وتُدان، ويُحشَدُون القُراء حشدًا ويُحرِّضونهم ضدي، ويُحرِّضون القوات المسلَّحة ضدِّي، والرئاسة ضدي، وصوتي مخنوق يرفض أن يَسمعه أحدٌ منهم أو يُسمح له بالوصول إلى الرأي العام، حتى إني قابلتُ الأستاذ صفوت الشريف وزير الإعلام، وطلبت منه بصفتِه الحِزبية أن يَنشُر كلمة لي في جريدة الحزب، أو في الجرائد القومية، ولم أشأ مُقابلة الأستاذ صبحي عبد الحكيم رئيس المجلس الأعلى للصحافة؛ إذ كيف أُقابِل مَن أدانَني دون أن يسألني أو يُقابلني أو حتى يطَّلع على ما كتبتُه بجريدة القبس التي كانت قد نشَرَت أربع مقالات، ممنوعة من دخول مصر، وحتى أنا نفسي لم أرَ المقالات ولم أَعرِف ماذا بالضبط نشرَتْه الجريدة، فكيف عرف أعضاء المجلس؟ ومِن أين جاءوا بأعداد القبس؟ كل ما عرضوه إشاعة صحفية كاذبة أطلَقَها صلاح منتصر على صفحات الأهرام، وتلقَّفَها الجميع بالتصديق، حتى من غير أن يقرءوها، بالسماع حاكموا، وبالسماع أدانوا، وصغار الأدباء، والانتهازيون منهم، وجدوها فرصة لاغتيال كاتب يرونه عقبةً في طريقهم، فشاركوا في الزفة هم الآخرون، وما أروع منظر ذبح هيكل ويوسف إدريس، ليهدأ الانتهازيون، وما أكثرهم، صحفيون وأدباء وكتاب، وحتى إذا كان هيكل قد وجد في الأهالي مُدافعًا عنه، فأنا لم أقرأ كلمة واحدة في صفي، إلا الكلمة اليتيمة للأستاذ وحيد غازي رئيس تحرير هذه الجريدة، وقد كانت نقدًا لإجراءات المجلس الأعلى للصحافة، بعيدًا عن قضيَّتي الخاصة.
•••
إنَّ جهاز الصحافة يا سيادة الرئيس جهاز خطير تمامًا، خطير لو أحسن استغلاله؛ فهو من الممكن، ما دام الإنتاج وزيادة الإنتاج هو صَيحتنا الحالية، أن يستحيل إلى أداة عظمة لتَحريك الشعب ودفعه للإنتاج والتقدم وللقيَم وللمثُل العليا. ومن المُمكن وهذا هو الأخطر، حين يرى الشعب حفنة من المُستغلِّين قد تسلَّلوا إلى هذا الجهاز يتحرَّكون للدفاع عن مناصبهم ووجودِهم، ولتهييج الرأي العام ضد هذا الكاتب أو ذاك من أجل غيرة مِهَنية محضة ورغبة في استعمال الثقل الإعلامي الهائل للصحافة في هدم الخصوم، والخصوم هنا كُتَّاب من قلب هذا الشعب، آمن بهم، وكانوا صادقين معه، لم يَخدعوه أبدًا أو يُضلِّلوه، حينما تسلَّل هذا النفَر المُضلِّل إلى الآلة الصحفية ويَسحق بها الكُتاب المُخلصين، يُصبح الأمر كارثة حقًّا.
إنَّ الموقف الذي واجهتُه خلال الأيام القليلة الماضية جعَلني أومن تمام الإيمان أنَّ من المستحيل على أي كاتب شريف أن يعمل في جرائد يتولَّى المسئولية فيها أناس غير أُمَناء على مسئوليتهم، وإنما يستغلونها كإقطاعيات خاصة.
وقد كان القضاء يُحاكم عصمت السادات وغيره على خراب الذمَّة المالي والإرهاب البدني والسلطوي للمُواطنين المساكين. وقد تيقَّنتُ بعد هذه المواجهة أن خراب الذمة الصحفية أشد خطورةً من خراب الذمة المالي؛ فاللصُّ قد يسرق نقودًا، ولكن الصحفي الخرب الذمة يَسرِق عقول المواطنين ووعيهم، يُفسد ضمائرهم، يَصنع لهم أصنامًا ويُجبِرهم على عبادتها والشرك بخالقه، يُثرى صحفيٌّ ثراءً خرافيًّا على حساب الشعب، لقد قال نابليون: ملِّكني مطبعة أُعطِكَ ثورة، أمَّا هذا أو ذاك، فإنهم قد تملَّكوا المطبعة ليَحصُلوا على ثروة أخطر بكثير من أي عقار ثابت أو أي عرباتِ نقْل.
إنهم يَعيثون فسادًا في عقولنا وضمائرنا، ولا نَملِك لهم منعًا، ولا نَملِك محاسبَتَهم أو عقابهم، يتصرَّفون وكأنَّ الشعب لا حول له ولا قوة، وكأن البلد بصحافتِها ورجالاتها «استراحتهم» الخاصة يتصرَّفون فيها ويَصنعون تماثيل يتصرَّفون فيها كيفما شاءوا، ويُلفِّقون التُّهَم لمن شاءوا، ويَصنعون تماثيل برَّاقة لمن شاءوا.
لقد أجبتُ في الحديث الذي أجرَتْه «الأحرار» معي قبل خطاب سيادتكم في أول مايو، عن «التهم» التي أرادُوا إلصاقَها بي، وبقي أن أوضِّح هنا لسيادتكم وللقراء كيف «ألصقوا» التُّهَم بعضها ببعض لتبدوا المسألة وكأنها خيانة عظمى، فتساؤل «صبري أبو المجد» عن العلاقة بين مُقابلتي للقذافي وكتابة المقالات، وتساؤل الشيخ النمر عن علاقة كتابتي للمَقالات بمقابلتي لسيادتكم واضح أنه يريد أن يربط ثلاثة أحداث لا علاقة لها البتَّة ليجعلها حدثًا واحدًا يحمل أخطر المعاني.
فلقد قابلتُ القذافي لأسباب ذكرتها في الحديث «للأحرار»، وذكرتُها بالتفصيل في الخطاب الذي كتبتُه لسيادتكم بعد عجزي عن لقائكم لأُحيطكم علمًا، كأيِّ مواطن كاتب قابل رئيس دولة مجاورة لا بُدَّ أن يطَّلع رئيسه بما دار في ذلك اللقاء الذي تمَّ بهدف تحسين العلاقة بين بلادي وبين بلاد مُجاوِرة بصرف النظر عن نوع الحكم هناك، كما كان هدفي من لقاء أنديرا غاندي قبلها في الهند عمل نوع من الأرضية المُتفاهمة لعودة مصر لدورها القيادي في معسكر عدم الانحياز، فأنا لم أستأذن سيادتكم للقاء أنديرا، كما لم أَستأذن سيادتكم في لقاء القذافي ذلك أني ليست لي أي صفة رسمية أو حزبية أو سياسية وإنما أنا أُقابل هؤلاء الناس ككاتب مصري وعربي يقرؤني الناس في الوطن كله من مراكش إلى قطر، بما فيهم حكام تلك البلاد، وألقى من الحفاوة بي والرغبة في لقائي ككاتب ما يَجعلُني أعتقد أن في استئذانكم لإتمام هذه اللقاءات نوعًا من تحميلكم لمسئولية لا أعتقد أنكم تَرغَبون فيها. وإذا كانت الصين قد حسَّنت علاقاتها بأمريكا نتيجة لديبلوماسية «البنج بونج»، وحديث ليوتشاوتشي مع لاعبي البنج بونج فإن ديبلوماسية الكتابة تكون في رأيي مستوًى أفضل للنقاش؛ إذ في هذه الحالة لا تحمل قيادة الدولة السياسية أي تبعة، وبالمثل لا تُحمِّل شخص رئيس البلد الآخر أي تبعة.
ولقد قابلت في عهد الرئيس عبد الناصر والرئيس السادات كثيرًا من رؤساء الدول العرب، بل لقد قابَلني الرئيس صدام حسين في العراق، والحكومة المصرية في عهد الرئيس السادات في قمة الأزمة مع العراق عام ٨٠ ولم يَحدُث أبدًا أن لامني أيٌّ من الرئيسين لأني قابلت أحدًا دون استئذان.
وربما كان من الواجب أن أستأذن، ولكن ربما لأني لستُ مشتغلًا بالسياسة لا أعرف هذا النوع من البروتوكول، ولهذا أعتذر يا سيادة الرئيس عن خطأٍ لم أقصده، أمَّا اللقاء نفسه وموضوعه ودوري في محاولة شرح وجهة النظر المصرية لكثيرٍ من القضايا التي تأخذها علينا دول الرفض ورأي هؤلاء في سياستنا، فهو ما رفضتُم سيادتكم أن تُقابلوني أو تسمعوه، ولقد احترمت تمامًا موقفكم؛ فأنتم لكم رجالكم ولكم وسائلكم التي يبدو أنني أقحمتُ نفسي، من تلقاء نفسي، بحسن نية عليها، ولهذا وإمعانًا مني في إطلاعكم على ما دار قبل أن يُبادر أي واحد آخر، اتصلت بمجرد أن وضعت قدمي على أرض الوطن بمكتب سيادتكم، وذكرتُ أني كنت في ليبيا وأن هناك رسالة، وكررتُ طلب اللقاء أكثر من مرة مخافة أن تكون المكالمة قد وصلتْكم ناقصة، وحين تأكد لي أنكم عرفتم، وأنكم لا ترغبون في لقائي أو تحمُّل تبعة ما يكون قد دار في هذا اللقاء، احترمت تمامًا رغبة سيادتكم وكتبتُ الخطاب وأوصلته بنفسي لمكتب سيادتكم.
هذه قضية
ولكنها منفصلة تمامًا عن مقالاتي يا سيادة الرئيس وخلطها بالمقالات مسألة مغرضة تمامًا أرادوا بها تأليب سيادتكم عليَّ إلى درجة أن تَذكُروها مقرونة بخمسة آلاف دولار.
سيادة الرئيس …
إني أتظلم من سيادتكم لسيادتكم.
وإذا كنتُ قد أخطأت في عدم الاستئذان، ومهما كان تأليبهم، فهذا شيء، وطعني في شرفي وعلى الملأ هكذا، مسألة أهون منها عندي حكم الإعدام.
إذ إن طعن الكاتب في شرفه، من رئيس الدولة، إعدام؛ إنه حكم بالإعدام، وإعدام غير مشرِّف.
سيادة الرئيس …
إني ألتمس منكم أن توضِّحوا الحقيقة للناس، كما تفضلتم بتوضيح الحقيقة بالنسبة لمقابلتكم؛ فقد ذكرتُم أنكم تُقابلون الجميع، وليس معنى مقابلتي أن أستغل علاقتي بكم، وهو الحقيقة فعلًا وهو ما أُوافِق عليه وأخضع له وأحترمه، وإذا كان الشيخ النمر قد أراد أن يصطاد في الماء الرائق فقد كان واضحًا أنه لا صيد هناك.
أمَّا إذا كان بعض الناس وبعض الأجهزة قد وضعت أمام سيادتكم معلومات هي التي دفعتكم لهذا القول، فإني لا أُطالب فقط برد اعتباري، وإنما أطلب وألحُّ أن يحاسب هؤلاء الأشخاص وتحاسب تلك الأجهزة.
يا سيادة الرئيس …
ألا ترى، ويرى الشعب معك أنني ضحية مؤامرة كبرى، من أكبر جريدتين في بلادنا، ومن صحيفة الحزب، وأخبار اليوم، وعشرات الأقلام الخبيثة، مؤامرة تريد أن تؤلب الرأي العام والقوات المسلحة، والرئاسة ضدي، وضدي بالذات؛ فالأستاذ محمد حسنين هيكل يريدون أن يُصفُّوا معه حسابات قديمة، أمَّا أنا فيريدون إعدامي، معنويًّا على الأقل.
في وسط هذا الدخان الكثيف الذي يُريدون أن يُعموا به العيون في وسط هذه الجحافل التي تُواجِهني، وأنا وحدي ليس معي سوى الله، وأنا أعزل إلا من قلمي المحجور عليه من صحافتنا، والذي لولا «الأحرار» لأُخرسَ هو الآخر، ونجحت المؤامرة تمامًا.
في وسط هذه المؤامرة الكبرى لمن ألجأ ليَحميَني من الذئاب المطلقة؟ لمن ألجأ ليحميني من أجهزة تخضع له؟
لمن ألجأ من أناس يريدون الرقص على جثتي، لمن ألجأ إلا لرئيس الدولة، إلا لك؟!
سيادة الرئيس، إني ألجأ إليك تظلُّمًا منك؛ فأنا كفيل بهم جميعًا، أمَّا حين يستغيثون بك وتُنصفهم، فهنا لا أملك إلا أن أتظلم منك إليك.
إني مطعون وجريح الكرامة، وممنوع من الكتابة والتعبير في جريدتي، وهم أحرار طُلَقاء يعيثون في الأرض، ولكن الله معي، لأنَّ الحق والحقيقة معي.
ودمتم يا سيادة الرئيس.
(٥) يوسف إدريس مظلوم
حينما بدأتِ الحملة الضارية ضد الدكتور يوسف إدريس، بدعوى أنه قال عن حرب سنة ١٩٧٣ أنها مسرحية جيدة أو أنها حرب ملفَّقة، خُيِّلَ إليَّ أن السماء انطبقت على الأرض، وأن زلزالًا اجتاح مصر، فكاد يَقتلعها من أساسها، والحق أنَّني هنأتُ نفسي، لا لأني صدَّقت الحملة ولأنني سيئ العلاقة بيوسف إدريس، فسرَّني أن يكون هدف الحملة، كانت تُبيح دمه، أو تحدد ثمنًا لرأسه، بل لأن شكواي منذ سنوات طويلة هو البلادَة والثلج الذي تُقابَل به أكبر الأحداث وأخطرها، وأشدها مساسًا بالعرض القومي بالمصلحة العامة، كأنَّ الناس قد تجرعوا قدرًا كبيرًا من المخدِّرات والمنوِّمات، حتى فقدت الأحداث تأثيرها، وتشابهت الأمور عندهم، فلا شيء يؤلم، ولا حدث يثير، ولا خسارة تُفزِع، ولا مُصيبة تُطلِق صرخة واحدة من صرخات الرفض أو الاحتجاج، وكأننا بلغنا حد الموت، غِبنا جميعًا عن الوجود، عندما وقعت غزوة لبنان، ثُمَّ اقتحام بيروت، ثُمَّ مذبحة صابرا وشاتيلا؛ فقد كانت أنباء هذه المصائب والفواجع والكوارث تتوالى، والناس في الطريق وفي المكاتب وفي المحاكم وفي الدور والملاهي، هم الناس، لا تقرأ على وجوههم مظهرًا واحدًا يدلُّ على أنهم سمعوا بها، أو عرفوا شيئًا عنها.
فلما انفجر دويُّ الحملة على هيكل وإدريس، وتوالت الصفحات، والمقالات والتحقيقات والأحاديث والتعليقات، وشملت رجال الدين، ورجال الجيش، والمفكرين والذين لا يُفكِّرون، والعلماء والأميين؛ تساءلت ما الذي حدث لهؤلاء حتى بُعِثوا من القبور، وعادوا إلى الحياة وتألموا، وتكلموا وعلَّقوا وعلَّموا، وهبهم الله الفصاحة والبلاغة. إنَّ فضائح صابرا وشاتيلا أخرجت في تل أبيب مظاهرة من نصف مليون يهودي، وأخرَجَت آلاف الناس من بيوتهم، في عواصم الدنيا، فاصطدموا بالشرطة، وسالت الدماء، وقُبض على شباب، وأُقيمَت متاريس، وأُنسِيتُ نفسي ما جرى في لبنان وبيروت وصابرا وشاتيلا لكي أَستمتِع بهذه الروح التي تنتفِض بها طائفة من أهل بلدي، وقلت لعله بداية خير، أرى بعدها هذه الأقلام ذاتها، وهذه الشخصيات بعينها كلما نزلت نازلة، وكلما نال الشرف الوطني عدوان، فلا نستلزم للصفح والركل، والدَّوس على أجسامنا ورءوسنا بالنعال والأقدام، ولكن تسلَّل إلى ذهني شعور بأن يوسف إدريس مظلوم، لسبب واحد؛ هو أن كل الذين حملوا عليه وشقوا الجيوب ألمًا ولطموا الخدود حزنًا، لم يتفضَّلوا علينا بإيراد العبارة التي قالها الدكتور يوسف إدريس في مقاله مسبوقةً بمقدماتها، وملحَقَة بخواتيمها؛ فالمفروض عندما يكون الأمر متعلقًا بالقوة على نص أن يُذكَر النص، ويُعرَض على القراء، ويُحلَّل ويُشرَح، ويُنظَر إليه من كل ناحية وزاوية.
وزاد من شعوري بأن الدكتور إدريس مظلوم، أنه عوقب وذُبح على واقعة نُسبت إليه دون أن يُحقَّق معه ولو صحفيًّا، والذي أعرفه أنه حينما تصل الأمور إلى هذه الدرجة من الخطورة يجب ألا نلجأ لإجراءات دواوين التفتيش، فلا نأخذ الإنسان من الدار إلى النار دون أن يُتاح للمتهم المحكوم عليه أن يَفتح فمه بكلمة، وزاد من شعوري بأن في الأمر مبالغة وتجاوزًا تجاوَز المشروع أن جرائد الحكومة خلت من عبارة واحدة صدرت من الدكتور يوسف إدريس يُعقِّب بها على ما نُسبَ إليه وما استدعى تمزيق ثيابه على الطريق العام ورجمه بالحجارة، وقد استباح كلُّ من سوَّلت له نفسه أن ينهش لحمه أو يُسيِّل دمه.
كان كل ذلك سيئًا بالغ السوء ومُثيرًا إلى حد استدرار الدمع من العيون، وبعد فترة قصيرة، ولكنها بدت طويلة كالدهور، قيل لي إن الدكتور يوسف إدريس سأل عني، فتنفَّستُ الصعداء وقلت خيرًا، سأعلم منه الخبر واليقين، وجاء إلى مكتبي، وأحسستُ بعمق الألم الذي يعاني منه، لا يتحمَّله فقط، ولكن لأن أحدًا من المثقفين أو صحفهم لم يقف معه ولم يُدافع عنه، فقلت له بصوت خافت: ربما لأن ما نُسب إليه بدا للناس أنه خطير، لقد وصفوك بأنك أضعت على الناس المجد الوحيد الذي ظفروا به وسط خرائب وأطلال أعوام طويلة ذاقت فيها المهانة. فقال في احتجاج البريء الواثق من براءته: ولكني لم أقل حرفًا مما نُسب إليَّ. فقلت فيما يشبه الصرخة: ألم تقل إن حرب ٧٣ كانت مسرحية أو ملفَّقة؟ ففوجئت به يقول وهو يشعر بفداحة الظلم: مُطلقًا … لم أقل شيئًا من هذا القبيل مطلقًا. ولا أطيل على القارئ، فقلت له: أرسل إليَّ نصَّ المقال الذي قالوا إنك قلت فيه هذه العبارة.
لقد زُرت من عامين المكان الذي عبر منه الجيش الشاروني الإسرائيلي القناة من شرقها إلى غربها ليصنع ما سماه السادات الثَّغرة التليفزيونية، وهالني الأمر تمامًا؛ فالقناة عند ذلك المكان أوسع كثيرًا من عرض النيل الذي أُقيم عنده السد العالي، ذلك السد الذي استغرقت إقامته عدة سنوات، فهل يتسنَّى لمجاميع قليلة من جيش متسلل محصور بين جيشنا الرهيب الأول والثاني؟ وكيف يتسنى لتلك المجاميع أن تسدَّ القناة في ظرف ساعات محدودة! إنها كذبة كبرى، إنني أطلب وألح أن تتشكَّل لجنة عسكرية هندسية من الجيش المصري، لتُقدِّر كم العمل اللازم لإقامة طريق بحري مسفلَت طوله كيلومتر على الأقل، وقاعدته لا يمكن أن تقلَّ عن خمسين مترًا، وارتفاع لا يقل بأي حال من عمق القناة زائدة عشرة أمتار بأقل تقدير من سطح الماء إلى سطح الأرض. إني متأكد أن أي طالب هندسة أو حتى أي مقاول صغير إذا رأى المكان وعرف أبعاده لا يُمكِن إلا أن يؤكد أنه عمل لا بُدَّ أن يتطلَّب شهورًا طويلةً في ظل وفرة الأيدي العاملة وفي ظروف سلام تام مواتية، أمَّا أن يقول الإسرائيليون أو يقول بعض المختارين من المصريين إنه عمل قد تم خلال ٤٨ ساعة على الأكثر، فهذا كذب بعينه، أو بالأصح هو التمويه المراد به أن يصرف شعبنا عن حقيقة لا بُدَّ لمن يرى المكان أن يُدركها.
هذا نص ما قاله الدكتور يوسف إدريس، لم أحذف منه ولم أُضِف إليه، المعنى الذي تتضمنه السطور التي عليها ظلٌّ من غموض، وللقارئ أن يقرأ هذه السطور ويُعيد قراءتها ليسمع بعد ذلك ملاحظاتنا الصريحة:
- أوَّلًا: إن هذه السطور وما تلاها ويكملها، لم ترد فيها مطلقًا، لا صراحةً ولا ضمنًا، عبارة أن حرب ٧٣ كانت مسرحية جيدة، ولا أنها حرب ملفَّقة، ومِنْ ثَمَّ فإن نسبة هذه العبارة إلى الدكتور يوسف إدريس اجتراء على الواقع، لا أجد لها تفسيرًا؛ إذ ما دامت الضجة الرهيبة التي حدَثَت كانت الغاية منها الدفاع عن قواتنا المسلحة، ورفض شُبهة توجيه الإهانة لها، أو تلوُّث شرف البلاد، والحط من انتصاراتها العظيمة، فلماذا لا نكون أُمَناء في النقل، ولماذا لا يقع الحساب على الفعل الضار من المواطن الذي أخطأ في رأي السلطة، وصحافة السلطة، حتى نُعطيَ للمواطنين درسًا في الجدل السياسي السليم، ونؤكِّد للناس كافة أن الدولة وصحافتها شعارها وآثارها الأمانة، ودستورها وقانونها الصدق والدقة.
- ثانيًا: إنَّ هذه العبارة المنقولة تنصبُّ أساسًا، وتنصبُّ فقط، على واقعة الديفرسوار فقط، وكلنا يعرف كيف أحزنتنا ثغرة الديفرسوار؛ لأنها شابت انتصارنا العظيم، بآفة التقصير أو التساهُل أو الإهمال؛ فقد كان الشعب المصري كله حزينًا لهذه الثغرة، وكان يَودُّ أن تخلو هذه الصفحة الرائعة صفحة حرب سنة ٧٣ خالية من تلك الشائبة المؤلمة التي حرص كيسنجر وبنو جلدته من اليهود أن يحدثها، أوَّلًا ليُعكِّر على المصريين فرحتهم بانتصارهم العظيم وتَرديد أكذوبة أن جيش إسرائيل جيش لا يُهزَم، وأن انتصاراته من قبيل انتصارات هتلر الساحقة «بليتز»، والتي تُبدِّد الأعداء وتمزقهم أشلاءً في دقائق أو على الأكثر ساعات.
وكلنا يعرف أن هذه الثغرة المشئومة قد أتاحت لليهود أن يَصِلوا ببعض قواتهم إلى أبواب السويس، وأن تذهب جولدا مائير إلى الزيتية لتؤخذ لها صورة يُكتَب تحتها أنها وصلت إلى السويس كذبًا.
وأن هذه الثغرة أدت إلى سدِّ طريق السويس القاهرة، وإلى إجراء مفاوضات آلمت المصريين والعرب جميعًا عند الكيلو «١٠١» الذي صُوِّرت مشاهده ووزعت على أركان المعمورة الأربعة، وقد شاهدنا في هذه الصور الفريق عبد الغني الجمسي يُقابِل الجنرال اليهودي في خيمته هناك وقد علت وجهه آيات الكآبة والتجهُّم.
بل إنني سمعت أن اليهود انتهزوا فرصة هذه الثغرة، وأرسلوا طابورًا ميكانيكيًّا تدفَّق من السويس إلى وادي حُوف على مَشارف القاهرة من ناحية حلوان، ليُثبِتوا أنهم وصلوا إلى القاهرة، وأن هذا دفَعَ الاتحاد السوفيتي إلى حين أقرَّ بتعبئة الأسطول في شرق البحر الأبيض المتوسط، وقد ردَّت أمريكا على هذا الإجراء، فوضَعَ السيد الأمريكي إصبعه على أزرار الدرجة الأولى من درجات التعبئة النووية.
وخُلاصة القول: إن هذه الثغرة جزء خطير في حرب سنة ٧٣، ومن حقنا جميعًا أن نتكلم فيه، وأن ندرسه، وأن نَعرف ظروف وقوعه، وأن نحاسب الذين أخطئوا أو مهَّدوا لوقوعه إن كان هناك خطأ، أو أن يترتَّب أنه لا خطأ ولا إهمال، وإنما هي مخاطر الحرب العادية.
ومن حسن الحظ أن رجلًا ذا قيمة واعتبار، وصَل إلى أعلى درجات العمل العسكري والسياسي معًا، وعُرف عنه الأمانة والكفاءة، ذلك هو السيد حافظ إسماعيل مستشار الأمن القومي لحكم السادات عام ١٩٧٣ قد كتب في المصور يقول: إنَّ احتمال الثغرة كان قائمًا وموجودًا لدى الجيش المصري وحتى لدى الجيش الإسرائيلي، وإن القوات المسلحة المصرية كانت قد درَّبت لواءً مدرَّعًا خصيصًا لضرب الثغرة إذا حدَثَت، وحين بدأت طلائع الثغرة وطلب قواد الميدان تحريك اللواء من البر الغربي إلى الشرقي لتَضرِبها رفض السادات بشدة، حتى أصبحت الدبابات السبع أربعمائة دبابة، وحتى أصبح الموقف ميئوسًا منه.
(٦) حرب سنة ١٩٧٣ «ونتائجها»
وعدتُ في المقال السابق، بتناول موضوع الجيش — أي جيش — ومعركة بعينها من معارك هذا الجيش؛ ففي مصر — هذه الأيام الأخيرة — يقع خلط مقصود ومتعمَّد بين الجيش المصري، بوصفه مؤسسة ذات كيان معنوي ضارب في أعماق التاريخ، ومُمتَد مع مستقبل الأيام بغير حدود، وبين هزيمة الجيش المصري في معركة أو معارك أو في جيل من أجيال بلادنا، والخلط بين هذين الأمرين، يتفرع عن فرض مرفوض، خلاصته أن «السادات هو مصر»، وأن المساس بالسادات هو مساس بمصر ذاتها، ومِنْ ثَمَّ فإن الواجب أن يَهيج هائج جماعة بعينها اغترفت من خبرات عهد السادات مالًا ونفوذًا وجاهًا، فملأها إحساسٌ مرَضي بالاعتراف بجميلِه عليها، يحفزها إلى الصراخ بأعلى صوتٍ، دفاعًا عنه، لا بوصفه الشخص الزائل، بل بدعوى أنه مصر المقدَّسة.
ولكن أن يُخيفنا صراخ هذه الطُّغمة التي هرب بعض زعمائها من المحاكم ومن مصر، والتي يدخل بعضها السجن لفترة، وكأن السجن مستشفًى للنقاهة وانتجاع الصحة، والتي تردُ أسماؤهم في الأحكام، في التحقيق فالمُحاكمة، فيما يأذن الله العالم بالغيب؛ أن يُخيفنا صراخ هؤلاء فهم مدرَّبون عليه؛ فالحقيقة لا يؤثر فيها صراخ ولا نباح؛ فالجيش آخر الأمر هو مؤسسة قومية أقامها الوطن دفاعًا عن حياته، وذودًا عن شرفه وأمنه، وهي أوَّلًا وأخيرًا تُمثِّل قواه، وينعكس عليها ضعفه، وتبقى بعد ذلك لتؤدي واجبها، بالبذل والتضحية، وبما يوضع في يد أفرادها من سلاح، حسبما يرسم لها من خطة، ويُحدَّد لها من هدف.
ولما كان من أحكام الله تعالى: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ، فإن الجيش مهما بلغ من شدة مراسه وتتابع انتصاراته، لا بُدَّ له من يوم يُصاب فيه بالهزيمة، والمسلمون — والرسول بين ظَهرانيهم — كتَبَ الله لهم النصر في بدر، ثُمَّ نالتهم الهزيمة في آخر الأمر في أحد، ويوم حُنين غرَّتهم كثرتهم حتى كاد يُفلت من أيديهم الفوز على أعدائهم، لولا ثبَّتَ الله الرسول عليه الصلاة والسلام الذي وقَفَ يدعو في أخراهم، حتى تابوا إلى دينهم، وثبَتُوا في وجه أعدائهم.
لم تكن حرب «٧٣» تَستهدِف تدمير القوات العسكرية الإسرائيلية لفرض صُلح نهائي؛ فذلك أمر لم تكن موازَنات وعلاقات القوى تأذن به، ولم يكن الهدف هو التحرير العسكري الشامل لسيناء؛ فالقيادات العسكرية المصرية كانت تُقدِّر أن تحقيق هذا الهدف يَتطلَّب من الموارد ما لم يكن مُتاحًا في حرب أكتوبر سنة ١٩٧٣.
ولم تستهدف العمليات استعادة السيطرة على منطقة استراتيجية كالممرات وشرم الشيخ أو اقتصادية؛ آبار البترول.
لا، كان هدف العملية محددًا، يأخذ في الاعتبار العوامل السياسية والعسكرية على المستوى العالمي والإقليمي، وكانت النتائج التي حقَّقتْها أو لم تُحقِّقها زيارة السيد حافظ إسماعيل لواشنطن قبيل الحرب. والمواقف التي اتَّخذها الرئيس الأمريكي — ومستشاره للأمن القومي كيسنجر — من هذه الاعتبارات.
ولا أحسب أن أحدًا يُمكن أن يغضب من الشعب المصري بأسره، أو من بعض أفراد في هذا الشعب، إذا أحزنَتْهم النتائج المحدَّدة، التي أسفرت عنها حرب ١٩٧٣، فبدت ضئيلة، إلى جانب النصر العسكري الضخم، الذي زلزل إسرائيل إلى الأعماق، حتى اعترفت في المباحثات التمهيدية لاتفاقية السلام والتي جرَتْ في المغرب، تحت إشراف الملك حسن وبمشاركته، أن الجنود الإسرائيليِّين كانوا يرفضون ابتداءً من اليوم الرابع الذهاب إلى سيناء، خوفًا من الهلاك والموت المحقَّق الذي ينتظرهم؛ فالشعب المصري، لم يطلع على خطة تلك الحرب، ولم يعرف أنها لم تحد عن أهدافها هدفًا واحدًا من هذه الأهداف التي ذكرها السيد حافظ إسماعيل، ولم يكن في وسعه أن يفهم سببًا لهذا القرار العجيب، وكان حقًّا ولو لعدد من المفكرين المصريين أن يتصور — بعد أن ذكر السادات أن العرب كانوا جثثًا هامدةً في الفترة السابقة على الحرب، وأن كيسنجر أعلن أنه لا بأس من تسخين الموقف نوعًا ما — أن التسخين المطلوب من مستشار أمريكا للأمن القومي قد تحقَّق بالفعل دون أن يتجاوَز درجة التسخين المرجو، وبعد أن تم التسخين فعلًا بالعبور الرائع للجيش المصري، وجَبَ أن تقف الحرب عند هذا القدر المُتواضِع أو الضئيل، وأن تبدأ المفاوضات التي كانت الهدف الحقيقي، والهدف الوحيد هذا الذي وقع — ولا داعي لأن نصف «هذا الذي وقع» — فإن الظروف كما حدَّدها السيد حافظ إسماعيل بصراحة ووضوح لا تحتاج إلى اسم ولا إلى وصف. ولا أكتم القارئ أنني فُجعت ولا أقول صُدمت، حينما أعلن السادات في مجلس الشعب، والحرب تجري على أحسن حال، بأن ليس في وسع مصر أن تتصدَّى للولايات المتحدة التي منعت جيشنا من الاسترسال في الحرب، وأنه يقترح لذلك أن يجلس العرب أجمعون — لا مصر وحدها — ويتفاوضوا مع الإسرائيليين، بعد أن أصبح في مقدورهم أن يُحاوِرُوا من موضع القوة مع عبارات خالية من كل لوم أو نقد أو حتى عتاب للولايات المتحدة التي عفَّرت انتصارنا، وأقامت سدًّا في وجه قواتنا، وأضاعت علينا حربًا.
ولا أظن أن أي إنسان يذهب إلى الظن — آنذاك — بأن هذه الحرب — العظيمة — كانت مشهدًا ومدخلًا مقصودًا لهذه المفاوضات، وأن كيسنجر اليهودي الذي اجتمعت في شخصه وفي ظروف ظهورِه ما لم يجتمع في أي يهودي آخر ألحَقَ الأذى والضرر بالعرب أو الشرقيين.
ولا أحد يمكن أن يلوم إنسانًا ما، إذا أراد أن يُفرِّق بين حرب سنة ١٩٧٣ والتي كانت معركة من أعظم معارك القرن العشرين، على الرغم من أهدافها المحدودة، وانتشارها، أي قطع الطريق في وجهها، بفعل أمريكا عدوَّة المصريين والعرب والمسلمين؛ فقد دمرت أكذوبة أن جيش إسرائيل هو جيش، وهو جيش لا يُهزَم، وكشفت — ولو في لمحة — مقدار ما تنطوي عليه النفس المصرية العربية من طاقات هائلة، وفجرت حرب البترول، وأثخنَت أوروبا وأمريكا جراحًا، هذه الحرب لا شأن لها بالمقدمات السياسية التي يحدثنا عنها السيد حافظ إسماعيل، وهذه التقديرات والحسابات التي تمت في دهاليز مصر وواشنطن، والتي لعب فيها كيسنجر بهلوان السياسة اليهودية وألعبانها المصنوع خصيصًا لبُلَهاء العرب، ولزعماء مِن وَرَق، ولأمم خلت من الإيمان بنفسها وبأيِّ هدف عظيم من أهداف الأمم والشعوب، تلك حرب نَحني لجنودها وضباطها الرأس إعجابًا، ونشيد بوقائعها وأمجادها، وعيوننا مليئة بالدموع ونفوسنا تذهب حسرات؛ إذ بدل أن تكون مدخلًا لدور عظيم من أدوار كفاح العرب بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية وسلاحها وعتادها ومعلوماتها جلبنا على أنفسنا الخزي، ومرَّغنا رءوسنا في التراب، وانتهينا إلى ما نُشاهد ونعاني منه إلى اليوم، من واقع الضعف والهوان التي لم تحسَّ به بلادنا منذ وُلدت مصر على ضفاف النيل، وحقَّقت حضارتها حضارة بعد حضارة، ورسالة بعد رسالة، وثقافة بعد ثقافة. لقد لوَّثْنا هذا النصر الشامخ بهذه النتيجة السياسية المُخجِلة ولقد فتحنا باب الشكوك والهواجس، على قلوب تؤمن بوطنها ومجد جيشها، وعظمة الحقائق والمحاربين من أبنائها.
وآخر الأمر، فإن يوسف إدريس الذي خرج كل من يخزيهم ويُحرِجهم، أن تعلن كل الحقائق، وتذكر كل الشُّبهات ليَرجُمه بحجر، بدعوى التحمس للجيش المصري وأمجاده، والجيش المصري وأمجاده بريء منهم، وبعيدٌ عنهم، قلنا في المقال السابق، ونقول اليوم إنه مظلوم، وأنهم نسبوا إليه ما لم يقله، وأنهم على أسوأ الفروض حرموا عليه أن يتساءل عن أمور تستدعي التساؤل حقًّا، للمصلحة القومية من جهة، ولمعرفة الحقيقة من جهة أخرى، وبعثًا لقلق المواطنين المكتوم، وتمسكهم الممنوع، ويبدو أن «ليوسف» من اسمه نصيب؛ فقد شهد شاهدٌ من أهله على براءته وحسن نواياه، كما شهد من قبل ليوسف الصديق، والله يدافع عن الذين آمنوا وحسنت نواياهم.
(٧) تعليق جريدة الشعب
«عدم جواز إدانة صاحب قلم يَتقاضى مبالغ من رئيس دول عربية قبل ثبوتها بتحقيق قضائي.»
اتهم الرئيس حسني مبارك في خطابه يوم عيد العمال كاتبًا معروفًا، هو الأستاذ يوسف إدريس، اتهامًا خطيرًا، يُعتبَر حسب تعبير الكاتب طعنة في صميم وطنيته وذمته وكبريائه، ومجمل هذا الاتهام أنه تقاضى خمسة آلاف دولار من الرئيس الليبي معمر القذافي ليكتب مقالاته التي أُثير حولها الصخَب والضجيج دون أن يطَّلع أحدٌ عليها، ودون أن يسمح لكاتبها ببيان وجهة نظره.
وقد أنكر الكاتب الموجه له هذا الاتهام الخطير على لسان رئيس الدولة، طعن به ونشر مقالًا بهذا المعنى في صحيفة الأحرار، وهي الصحيفة التي قال إنها قبلَتْ أن تنشر له دفاعًا عن نفسه بعد أن أغلقت الصحف المسمَّاة بالقومية في وجهه حتى جريدة الأهرام التي يعمل بها.
وصاغ الكاتب هذا المقال في صورة خطاب مفتوح إلى الرئيس مبارك بعنوان «إنني أتظلم منك … إليك» وأُعلن فيه أن طعني في شرفي وعلى الملأ هكذا، مسألة أهون منها عندي حكم الإعدام؛ إذ أن طعن الكاتب في شرفه من رئيس الدولة، إعدام، إنه حكم بالإعدام، وإعدام غير مشرف، وذكر أنه يَجب الفصل بين مقابلته للقَذافي التي أخطر الرئيس مبارك بعد عودته بما تمَّ فيها في خطاب سلَّمه لسكرتاريته الخاصة بعد أن عجز عن تحديد موعد لمُقابلتِه، وبين ما كتبه في إحدى الصحف العربية نتيجة عدم إتاحة الفرصة له بالكتابة بحُرية في جريدة الأهرام التي يعمل بها، وبين الاتهام الذي وجه إليه.
وقرَّر أنه ضحية مؤامرة كبرى من بعض الجرائد القومية وصحيفة مايو وعشرات الأقلام الخبيثة لتؤلف عليه الرأي العام والقوات المسلحة ورئيس الجمهورية، وأنه كان كفيلًا بهم، كان كفيلًا بهم جميعًا، أمَّا حين يَستغيثُون بالرئيس ويُنصِفهم فلا يمكن إلا أن يتظلم منه إليه.
وقال بصراحة إذا كان بعض الناس وبعض الأجهزة قد وضعت أمام سيادتكم معلومات هي التي دفعتْكم لهذا القول، فإنَّني لا أطالب فقط بردِّ اعتباري، وإنما أطلب وألحُّ أن يحاسب هؤلاء الأشخاص وتُحاسَب تلك الأجهزة.
وهذا ما نطالب به، وبالأخص في إجراء تحقيق قضائي حول هذا الاتهام الخطير؛ إذ أنها سابقة خطيرة أن تقدم اتهامات لشخصيات عامة أو خصوم سياسيين أو أصحاب الفكر وحملة الأقلام ضمن تقارير مشكوك فيها ودون أن تَستنِد إلى إدانة قاطعة تُعرض على القضاء للتحقُّق منها قبل أن تلطخ سمعة أحد من هؤلاء؛ لما يَنطوي عليه ذلك من إرهاب فكري شنيع.
وإذا كان وزير الداخلية السابق نبوي إسماعيل قد لجأ إلى هذا الأسلوب بالنسبة لاتهام النائب السابق أحمد طه وآخرين معه بالتخابُر مع دولة أجنبية هي بلغاريا للتأثير على موقفه الانتخابي، وبالنسبة لاتهام المرحوم الدكتور المهندس محمود القاضي ونائب رئيس مجلس الوزراء السابق عبد السلام الزيات وعدد من الشخصيات السياسية ممن كانوا تحت التحفُّظ في سبتمبر المشئوم بالتخابُر مع دولة أجنبية وهي الاتحاد السوفيتي، ثُمَّ ثبَت من التحقيق في الاتهامَين عدم صحَّتهما؛ فإنه من الواجب وضع حدٍّ لمثل هذه التلفيقات البشعة التي كُنَّا نعتقد أنها انتهَت بانتهاء عهد نبوي إسماعيل الذي يَجب محاكمته عنها.
(٨) عصر التشكيك في البديهيات
المرارة التي يشعر بها المرء لدى مُتابعتِه لما يُكتَب ويُقال بمناسَبة نشر بعض فصول للأستاذ هيكل عن حياة السادات، وبمناسبة ظهور بعض عَناوين لمقال أو مقالات للدكتور يوسف إدريس مرارة يعجز أي قلم عن التعبير عنها؛ فقد أثارت هذه الزوبعة كل هموم المواطن المصري عن الحرية والديمقراطية، وعن أبسط حقوقه في التفكير وإبداء الراي، وحقه في ألا يُهان أمام الملأ ثُمَّ يُحرَم من حق الرد على الإهانة.
كما أثارَت ذكريات قديمة عن عصر كُنَّا نظن — أو على الأقل نأمل — أن يكون قد ذهب بلا رجعة، كان من حق فرد فيه أو مجموعة من الأفراد الذين لم يَنتخِبهم أحد ولم يجمع على حسن رأيهم، أن يقولوا لنا ما هو الشرف وما هو العيب، وما هي الأخلاق وما هي البذاءة، وكيف يجب أن يكون حب مصر، وكيف تكون خيانتها، ومن هو المتحضر من الغرب ومن هو غير المتحضر، ثُمَّ يَروحون يُطبقون مفهومهم الخاص جِدًّا والشخصي جِدًّا عن كل ذلك، على من أجمع الناس على شرفهم ووطنيتهم، أو على الأقل من يتمتَّعون بتأييد عدد غفير من الناس، يُحبونهم ويقرءون لهم، فيحرمون هذا من حقه في الكتابة والنشر، ويضعون ذلك في السجن، ويُكرِّسون وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية في تلويث سمعتهم.
كُنَّا نظن أو نأمل أن يكون هذا العهد قد زال وانتهى، فإذا به لم يَزُل ولم يَنتهِ، وإذا بالآمال التي عقدناها يحلُّ محلها الإحباط، وإذا بنفس الأشخاص الذين لم ينتخبهم أحد ولم يُجمِع على حسن رأيهم أحد يعقدون محاكم التفتيش ويمنحون صكوك الغفران ممن خان ميثاق الشرف الصحفي في رأيهم، ووجوههم القاسية المتجهمة تُذكرك بوجوه الكاردينالات الذين حاكموا جاليليو العظيم والذين لا يساوي واحدٌ منهم أو كلهم مجتمعين ظفر إصبع جاليليو العظيم، يَمنحون أنفسهم احتكار تفسير المشيئة الإلهية، ويُنصِّبون أنفسهم المفسرين الرسميين للفضيلة، دون أن يُستشار أحدٌ في أحقيتهم بهذه السلطة، فإذا تجرأ أحد على الدفاع عن نفسه قاطعوه وحقروه وصبوا عليه لعنة الدنيا والآخرة، ولم يكن يَدُر بخلد أحد أن مصر تعود أدراجها على هذا النحو إلى العصور الوسطى.
يُقال إنه ليس هناك صحافة في العالم تَنشُر ما تنشره الصحافة المعارضة في مصر، وأنا أقول: إنَّ المعارضة في مصر أشبه برجل محكوم عليه بالإعدام، يُقال له في لحظته الأخيرة: هل لديكَ رغبات قبل أن تَموت؟ فما الذي تنتظرونه من رجل هذه حاله؟ ما الذي تنتظرونه من رجل كلما فتح فمه للكلام قلتُم له: إنما أنت عبيد إحساناتنا، منحناك الحرية فاستخدمها — لعنك الله — على النحو الذي نرسمه لك. ثُمَّ لا تكفون عن ترديد عبارة: نحن نُحذِّر نحن نحذر. فإذا فقد الرجل رشده وضاع صوابه، وصاح من الألم والسلاسل تُقيِّد يديه وقدميه، قلتم له: إنك لم تخبرنا برأيك في الخطة ولم تُوجه النصائح الرشيدة للحكومة ولم تقل لنا رأيك في هذا المشروع أو ذاك.
المسألة إذن ليست إلا كقصة الذئب والحمل؛ فقد أعيانا تقديم الدليل على أننا لا نلوِّث سمعة مصر، بل نَفديها بدمائنا، فتأتون إلينا كل يوم بقصة جديدة، حتى لم يعد هناك شك في أنكم لا تريدون إلا اختفاءنا من الوجود.
إن المعركة كلها مفتعلة، لا تتعلق بأخلاقيات التعبير ولا ببطولة الجيش المصري في أكتوبر، ولا بسُمعة مصر في الخارج أو الداخل؛ فالذين يتظاهرون بحرصهم على أخلاق أو على سمعة مصر لا يُعرف عنهم محبة زائدة لمصر ولا عفة لسان غير عادية، وأحد مشاهير كُتَّابهم كتب منذ أيام قليلة يتهم طائفة كبيرة من الشعب المصري، هم المؤيدون لجمال عبد الناصر، بما لا يوصَف به غير شخص يُعاني من الشذوذ الجنسي، وكتَبَ هو نفسه في عمود يومي يقول: إنه لم يفهم قط أي معنى لعبارة مصطفى كامل الشهيرة: «لو لم أكن مصريًّا لوددت أن أكون مصريًّا.» ثُمَّ راح يُعدِّد نقائص المصريين. بل إني أزعم أن محبة هؤلاء المزعومة لشخص السادات زائفة، ولا تساوي قيمة الحبر الذي تُكتَب به؛ فقد أيَّد نفس هؤلاء نقيض سياسات السادات ودافعوا عنها، وأن المعركة سياسية يُراد بها الاحتفاظ بالمناصب والامتيازات لأطول فترة ممكنة، ويخشى أصحابها من أن يؤدي فتح ملف السادات إلى فتح ملفاتهم جميعًا.
يقول الرئيس: إننا لو قمنا بالتغيير الذي تطالبون به، لكان علينا تغيير نصف الشعب المصري. لا يا سيادة الرئيس، بل أقل من نصف في المائة، فإذا بدا لك أن الفاسدين كثيرون، فما ذلك إلا لأن الرائحة الكريهة تزكم أنوف الجميع، وليس للرائحة الطيبة قوتها ونفاذها، ومعظم الفاسدين ليسوا فاسدين بالطبيعة، بل فاسدون بالعدوى.
ولكن الأمر لم يعد يقتصر على السياسة، حينما يصل الأمر إلى تلويث سمعة واحد من أكبر كتاب مصر وأعظم كاتب للقصة القصيرة عرَفه العالم العربي، على مسمع الجميع، دون أن يُسمح له بالرد في نفس الجريدة التي يعمل بها وتُشهِّر به. إني لم أقرأ مقالات الدكتور يوسف إدريس التي يشيرون إليها، ولكن أيًّا كان ما كتبه الرجل، فقد قرأت له وقرأ العالم كله له ما يَكفي للتدليل على أن محبة الرجل لمصر تفوق محبة السادات لها، وأنه يُمثِّل مصر أفضل مائة مرة من تمثيل السادات لها، وأن تلويث سُمعته يُسيء إلى سمعة مصر أكثر مائة مرة من تلويث سمعة السادات. كما أني لم أقرأ إلا ما نُشر في مصر من كتاب الأستاذ هيكل، ولم أجد فيما نشر إساءة لسمعة مصر ولا تحقيرًا للأسود أو الأبيض، وإنما وجدت فيه نقدًا لحاكم حكم مصر فترة سوداء من تاريخها، لكاتب يُجيد الكتابة، ويتلهَّف الكثيرون على قراءة ما يكتب، عندما يخطئ وعندما يُصيب.
ولكننا نعيش في عصر سَمتُه التشكيك في البديهيات، فإذا بالكتابة في هذا العصر تتحول إلى محاولة إثبات ما يعرفه الطفل الصغير، وهو أن مصر شيء وحاكمها شيء آخر، وأن نقد الحكام حق وواجب، أمواتًا كانوا أم أحياءً، وأنه ليس من الجرائم أن تكتب في الخارج وتتلقى مكافأة على ما تكتب، وأن الكتب تُكتَب لتُقرأ لا لتُصادَر، وأن للمعارَضة أن تكتب ما تشاء وكيف تشاء، وأن للقارئ وحده هو الحكم فيما إذا كان ما يُكتَب يستحق القراءة أو لا يستحق.