حين يُقاتل أصحاب القضية
ما بين الدفع والجذب، واللتِّ والعَجن، وأسخف الأقوال وأحكمِها، والضغط بالأقدام على الأقدام، وبالكروش على الكروش، وبالوجود الثقيل على الوجود الأثقل.
ما بين حَرٍّ قائظ لافح ووجوه مُكتنزة بالشَّبع ومُتضوِّرة بالجوع والوهن، ما بين سماء صفراء كالحة ملتهبة بشمس أغسطس ورطوبة وافدة وأرض صحراء في معظمها جهنمية اللسع، تكوي، نقف في اللَّظى، نُتابع أخبار بيروت، وما يحدث فيها، نُتابع بذهول لا يُصدَّق، واقعًا رهيبًا كله مصدق وموثق ومنقول صورة صورة بالأقمار والكاميرات والمراسِلين الأجانب، وهذا هو المؤلم حقًّا، فلم أقرأ عن بيروت لصحفي عربي أو لوكالة أنباء غير وفا الفلسطينية.
الغرب أشعلها منذ القدم، والغرب زرَعها، والغرب يَستنكِر الآن المارد الذي خلَقه ورَعاه وسقاه، والغرب أيضًا هو الذي يَنقُل لنا أخبار قوى عدوانه الشيطانية، وهي تَدكُّ وتدكُّ وتدكُّ الأرض والناس والبيوت والأشجار وغُرف النوم والمقابر، والقنابل العنقودية والقنابل الفسفورية التي تَحرق المحروق وتظلُّ مشتعلة في أجساد الأطفال حتى بعد موت الأطفال بأيام.
ونحن، ذاهلون، واقفون، نستعجب، وكأننا نرى حلقات تليفزيونية اسمها الجحيم في بيروت، بطلها شرير أي نعم، ولكننا لا نملك أن نصنع له شيئًا؛ فالحلقات أثيرية، تدور في عالم غير عالمنا، وتُرسل على موجة أخرى وكأنما نتلقَّاها من الفضاء الخارجي، وفعلًا أحسست مثل غيري بالدهشة أن سفينة «جان دارك» التي يقودها قبطان مصري أشرفت على الغرق وهي قادمة من ميناء «جونيه» الماروني اللبناني، وكأنها قادمة عبر شاشة التليفزيون من حلقات، نَنتظر موعدها اليومي كما كُنَّا نفعل مع دالاس واللي فوق واللي تحت.
فاغِري وفاتِحي الأفواه نرقب، قراءً وكُتَّابًا ومسئولين وغير مسئولين نرقب، فإن ما يحدث في بيروت قد حدث مثله في بورسعيد والسويس والإسماعيلية وبورفؤاد وبورتوفيق، كل ما في الأمر أن حكوماتنا في ذلك الوقت كانت تصمُت عنه ولا تُذيعه على الملأ إلا في حدود مدرسة بحر البقر أو مصنع أبو زعبل في العمق، ولكنَّنا أبدًا لم نُسارع بكشف هذه الأعمال الإجرامية الإسرائيلية في حينها، لم يعرف عنها العالم، ولا عرف العرب شيئًا، وكأنه تخاذلٌ مِنَّا أن تظهر وحشية المُعتدي وبربريته.
ولو كان في بيروت حكومة من حكومات الأنظمة، تملك أن تكتب الأخبار والأنباء لفعلتها، بل حتى نحن لا نعرف للآن الموقف — كما ذكرتُ — إلا من خلال الصحافة الغربية، بل والأمريكية بالذات، أخبار المذابح والهول، بينما المَضروبون في بيروت يُضرَبون في صمت، ويُقاسُون في هول الكتم، فلمن يَصرخون، وإلى من يتطلعون؟
إن الصحافة الغربية مهتمة بالقضية كقضية ضمير غربي يتوجَّع من هذا الذي يَحدُث للمسلمين وللعرب وللفلسطينيين وللبنانيين، اهتمامنا نحن كصحافة عربية أو لبنانية أو فلسطينية هو اهتمام أصحاب القضية، يكتبونه لأصحاب القضية، وقد بدا واضحًا الآن أن القضية الفلسطينية، تأخذ هوية جديدة هي الهوية الفلسطينية فقط، بعد أن ظلَّت لأحقاب تنظر لنفسها وينظر لها الناس على أنها قضية «عربية».
وحسنًا جرى وحدث …
حسنٌ أن يئس الفلسطينيون أخيرًا من إرسال الرسالات والاستغاثات والوفود والاستقبالات، وأصبح عليهم هم وحدهم أن يُقاتِلوا قضيَّتهم، وحين حدث هذا فليس من المستغرب ما حدث، أن يوقف خمسة آلاف مقاتل جيشًا جرَّارًا من ستين ألفًا مجهَّزًا بأحدث ما وصل إليه العقل البشري من آلات الفتك والدمار. إنَّ هذا يُثبت أيضًا أن الدول والجيوش العربية المنظمة كانت تهزل في دفاعها وحروبها من أجل القضية الفلسطينية، وهذا أيضًا شيء طبيعي، فلا يمكن للإنسان أن يقاتل أبدًا قضية غيره، هو وحده الذي يُقاتلها، وحين يُقاتلها بحماس، ينضمُّ إليه المقاتلون فعلًا من كافة المِلَل والنحل وأركان الأرض، وهذا هو ما يَحدُث للقضية الفلسطينية الآن.
لأنها قاتلَت ووقفت في بطولة لا تستغيث ولا تستجدي وتقول بكل سلاحها الضعيف: لا. العالم يلتفُّ مِن حولها الآن، ليس التفاف المشفق، ولا التفاف «الإخوة العرب»، وإنما التفاف الساعد بجوار الساعد في ساحة الصمود من أجل الحق الذي وراءه مُقاتل ومُدافع وشهيد، ساحة الأخوة البشرية أمام البربرية والنازية والعنصرية والتوحُّش، ساحة الجبهة الحقيقية، جبهة المقاتلين في سبيل الحق والعدل والسلام، وليست جبهة المؤازِرين بالتبرُّع أو بالنوايا الطيبة أو بإعانات هيئة الإغاثة في الأمم المتحدة.
عجيبٌ أمر قضية فلسطين.
بدأها أعداؤهم عسكريةً، ورفع الفلسطينيون لواء الكفاح السياسي والاعتماد على العروبة، وظلَّ أعداؤهم بالاستفزاز وراء الاستفزاز حتى أوصلوا الفلسطينيين ليس فقط إلى حدود المقاومة المسلحة، وإنما المقاومة المسلحة إلى حدِّ الانتحار دفاعًا عن الحياة والقضية.
لمن أعزو هذا الفضل؟
أأعزوه للأصدقاء والأشقَّاء الذين أوصلوهم إلى هذا الحدِّ، أم أعزوه للأعداء أم للأصدقاء والأعداء على حدٍّ سواء؟ ولكن هذا هو مسرى التاريخ، والمصير الطبيعي لقضية أي شعب، أن يَملك زمامها بنفسه ولنفسه أوَّلًا …
وإذا كانت هذه أول معركة حقيقية طويلة رهيبة يتعرض لها الشعب الفلسطيني في المنفى في لبنان، فإنها لهذا لم تكن نُزهة، وكانت على الأعداء وبالًا.
إذا كان المستر بيجين يقول إنه يتعهد للإسرائيليين بأربعين عامًا من السلام بعد هذه الحرب، فإنه لا بُدَّ مجنون؛ فإن ما يفعله إنما هو متعهِّد لشعبه بأن يذوق ويلات حروب واغتيالات وإرهاب ومقاومة لا حد لها طوال الأربعين عامًا القادمة مهما كانت القوى التي ستَقف مع إسرائيل.
ولهذا …
دكِّي يا مدافع بيجين.
دكِّي أكاذيبَ صدقناها،
وأُخوَّة عربية تصوَّرناها.
دكي قلاع قضية من قضايا الجامعة العربية، لتبنيَ حصون قضية حقيقية بشعب حقيقي يُدافع عنها.
ولنبقَ نحن، في قيظ أغسطس، نحن العرب ذوي الكروش واللحى والذقون، ذَوي النداءات الزاعقة عن أخوة الإسلام وأخوة العروبة، ذوي الكروش، نتفصَّد عرقًا، أو نتلذَّذ بمُكيِّفات الهواء، ونتفرج على حلقات جهنم في بيروت، بطولة إريل شارون ومناحم بيجين وكل أبطال دالاس وتكساس وكاليفورنيا.