الستارة لم تُسدَل بعد!
لا يُمكن أن يَنتهي الحديث عن لبنان فجأة، كما بدأ فجأة، وكأن شيئًا لم يكن، إنَّ العدوان قد يحدث فجأة، هذا صحيح، ولكنَّ آثار العدوان … دائمًا تبقى، بل ربما تبقى أطول بكثير مما يَنبغي، وأعود أقول إنَّ هذا ليس وقت البكاء أو التباكي على ما حدث للبنان والفلسطينيين؛ إذ هو وقت شحذ العقول إلى آخرها، وقت الهبَّة التي يَهبُّها العقل البشري لحظة الخطر المحدق، ليتفتق الذهن عن اختراعات وقُوى عملاقة جبارة تَنتفِض من قلب الفرد والناس لتُقاوِم الخطر المحدق ولتدفعه.
وثمة نقاش لا بُدَّ أن يبدأ فورًا مع الأنظمة العربية، كل الأنظمة العربية، لقد بدا واضحًا أن كُلًّا منها آثر أن يَنجو بجلده، وأن يتبع المثل الشهير لجحا حين قالوا له كذا، فقال: ما دام بعيدًا عني فإني لا أبالي. والخطر والمأساة أحدقت هذه المرة بلبنان، وهكذا نظرت كل الأنظمة العربية نظرةَ حسرة، هذا صحيح، وليس فقط لأنها عاجزة عن أيِّ إجراء عسكري أو سياسي رادع، ولكن أيضًا، وهذا هو المهم، لأنها تَعتقد، أو كلٌّ منها يعتقد، أن الخطر ليس على أرضه وليس على مصالحه المباشرة أو مُواطِنيه، وإن كان ثمة مواطنون عرب فلسطينيون أو لبنانيون أو غيرهم يُقتَلون فتلك مسألة بربرية تمامًا، ولكن حمدًا لله أن العدوان ليس على أرضي أنا وشعبي أنا أو نظامي أنا، وإلا لكنتُ مضطرًّا لأخذ إجراء، ولكان الأمر يصبح كارثةً حقًّا.
بمعنًى آخر، كل نظام أدرك أنه ما دامت أرضه آمنة لم يقع عليها عدوان، ونظامُه مستتبًّا لم يتخلخل، فالخطر المباشر بعيدٌ جِدًّا بل غير مُحتمَل بالمرة، صحيح أن الخطر غير المباشر قائم وموجود، ولكن هل فرغنا من الحاضر لنفكِّر في هموم المستقبل، حين يجد الجد، ويحدق الخطر، يحلُّها ألف حلَّال.
صحيح أن البحر هائج وعاصف ومروِّع، ولكن ركبُنا آمن ويَشمله الأمان، وهو جزيرة الاستتباب وسط هذا البحر الهائج المخيف، وسيظل كذلك.
فهل ستظل المسائل كذلك فعلًا؟
أم هو منطق النعامة التي تدفن رأسها في الرمال لدى ظهور الخطر؟ وقد كنتُ إلى عهدٍ قريبٍ أستغرب من تصرف النعامة هذا، باعتبار أن كل حيوان أو كائن على سطح هذه الأرض مزود بقدرات هائلة على إدراك الخطر والابتعاد عنه، فلماذا النعامة بالذات هي وحدها التي تَدفن رأسها في الرمال ساعة الخطر؟ إلى أن قرأتُ منذ بضع سنوات ما جعلني أُدرك أني كنت على حقٍّ في استغرابي؛ فقد قرأت أن النعامة أبدًا لا تدفن رأسها في الرمال، وإنما هي تُقرِّب من رأسها العالي وتلوي عنقها لكي يُصبِح الرأس قريبًا جِدًّا من الأرض لتسمَعَ دبيب أي قطيع متوحِّش قادم، وتُدرك من أين هو قادم، لتحدِّد اتجاه نجاتها وانطلاقها بسيقانها إلى أبعدِ بعيد. الملاحظون من البشر هم الذين كانوا سُذَّجًا إلى درجة أنهم ظنُّوا أن النعامة «تدفن» رأسها تحاشيًا لرؤية الخطر القادم، إلا أنهم هم يرون الخطر ويرونها تميل برأسها، ولكنهم لو عرفوا أنها تميل برأسها لكي تتسمَّع وتُحدِّد مكان واتجاه الخطر لتنقذ نفسها، لما كان هذا المثل الساذج قد قامت له قائمةٌ أبدًا.
إذن حتى النعامة لا تتعامى عن الخطر.
ولا أي حيوان آخر يتعامى عن الخطر.
الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي أحيانًا ما يَرى الخطر ولكنه يتعامى عنه.
وسفُنُ الأمن والأمان في بحرنا العربي الهائج، أقصد معظم أنظمتنا العربية، تَعتقِد أن السفينة ما دامت لا تزال عائمة، فمهما علَتِ الأمواج فلا خطر مباشر هناك، ولكن الحقيقة أن هناك فعلًا خطرًا ماحقًا ومباشرًا.
(١) كل ضربة بثورة
إذا رجعنا للتاريخ القريب وجدنا أنه عقب حرب فلسطين عام ١٩٤٨، ما كادت تمضي أربع سنوات حتى كان رد الفعل المباشر قيام ثورة يوليو عام ١٩٥٢ ثُمَّ ثورة تونس، ثُمَّ الثورة الجزائرية الكبرى عام ١٩٥٤.
وقبلها ثورة المغرب وعودة الملك محمد الخامس من منفاه، وما لبثت علائم الدموية أن أخذت تجتاح المشرق العربي نفسه.
ونتيجة لهذا المد الثوري، حدَث عدوان ١٩٥٦ لدكِّ معقل الثورة الأم في مصر، وصحيح أن العدوان انتصر واحتلَّت إنجلترا وفرنسا بورسعيد، ولكن ردُّ الفعل كان عارمًا.
فقد أُرغمت إسرائيل على الجلاء عن سيناء.
وسقط إيدن وجيموليه، وسقطت معهما ثلاثة أرباع الإمبراطورية البريطانية.
وحدثت ثورة العراق عام ١٩٥٨، ثُمَّ الوحدة بين مصر وسوريا، ثُمَّ الوحدة بينها وبين العراق، ثُمَّ الثورة اليمنية، ثُمَّ استقلال الجزائر وانتصار الثورة عام ١٩٦١.
وكان لا بُدَّ للاستعمار وإسرائيل أن يعودا «للقمع»، قمع الثورة الأم مِن جديد، وهكذا حدث عدوان ١٩٦٧.
وكان ردُّ الفعل المباشر قيام الثورة الليبية عام ١٩٦٩، وانتصار الثورة في اليمن الجنوبي والشمالي، وامتداد الثورة إلى أجزاء من شبه الجزيرة العربية، وثورة البعث الجديدة في العراق، وثورة سوريا وثورة السودان والصومال.
وكانت هذه ثورات تميل إلى راديكالية أكثر، أي ثورات أكثر عُنفًا وضراوةً من الطريقة التي قامت بها الثورة الأم عام ١٩٥٢.
ثُمَّ جاءت الحرب المقدسة، حرب أكتوبر عام ١٩٧٣، وحدثت الثَّغرة وفضُّ الاشتباك ثُمَّ المبادرة.