للمليونين فقط
كنتُ قد أثرتُ منذ بضعة أسابيع موضوعًا عن المصريِّين المغتربين في الخارج، وبمناسبة خطابٍ أرسله لي صديق قارئ يُحدِّثني فيه عن أن المغتربين يتألمون تمامًا لكل الأزمات والمشاكل الاقتصادية التي يقرءون عنها، والتي يرونها بأعينهم حين يعودون إلى وطنهم الأم، وأرفق خطابه بشيك قيمته خمسة وعشرين دولارًا باعتبار أن عدد المصريين المغتربين في الخارج يَقرُب من مليونَي مواطن من العامِل إلى العالم، وأنه لو تبرع كل منهم بمبلغ خمسة وعشرين دولارًا لكانت الحصيلة خمسين مليون جنيه مُمكن أن تُساهم في حلِّ كثير من المشاكل التي تُعاني منها مصر.
والحقيقة أني فرحتُ بالخطاب، وما أن نُشرت الكلمة حتى حمل لي البريد كمًّا وافرًا من خطابات المواطنين خارج مصر كلها حماس للفكرة وكلها مليئة بحبٍّ جارف للوطن ورغبةٍ عارمة في رؤيته على أحسن حال.
وهؤلاء قد فهموا بالضرورة حسنَ نيتي في عرض المسألة، ولكن يبدو أنني لم أكن موفقًا في عرضها كل التوفيق، فلم يَستطِع بعضهم أن يفهم المداعبة المقصودة عن «فص الملح» وجاءتني ثلاثة خطابات عامرة بالشتائم باعتبار أني «أحقد» على المُواطنين المغتربين وأنظر بعين الحسد إلى النقود «الكثيرة» التي يكسبونها والعربات «الفارهة» التي يعود بها كثيرٌ منهم. يبدو أنني لم أوفَّق لأن شيئًا من هذا لم يَدُر ببالي أبدًا، ولكن الظاهر أننا جميعًا؛ مقيمون ومغتربون، قُراء أو كُتَّاب نُعاني من حدة غريبة علينا في الطبع وضيق صَدر، وخطفٍ للمعاني خطفًا، وحساسية شديدة للنَّقد، أو هي نقد، ولو كان على شكل مُداعَبة (وهي طريقة خفيفة جِدًّا لنقد الذات والآخرين).
ولأنه سواء أكُنَّا تعبانين أم غير تعبانين، فإنَّ علينا أن نُصلح أحوال هذه البلد بما يتلاءَم مع الحد الأدنى للحياة البشرية، فإني أُثير الموضوع مرةً أخرى، وبتفصيل أكثر، فإن الجدية الصادقة التي لمحتُها في خطابات القراء والرغبة الدفينة في عمل شيء يُرضي الضمائر المغتربة والمقيمة لا يُمكن أن يمر عليها الإنسان مرور الكرام، ولا بُدَّ أن يتوقف عندها طويلًا وكثيرًا إلى أن تحل.
وقد ذُكر في كثيرٍ من الخطابات أن الدولة في مصر لا تحصل فقط على خمسة وعشرين دولارًا من كل مواطن يعمل بالخارج ولكنها تحصل على خمسين دولارًا عن كلِّ تصريح عمل، بل لقد بالغ البعض وذكرني بأنه يدفع أيضًا أقساط التأمين والمعاش في القاهرة و«بالعُملة الصعبة».
وهذا كله حقيقي.
ولكنه ليس أبدًا موضوعنا.
فأنا لا أتحدث أبدًا عن ضرورة أن تستقطع الدولة معاذ الله من العاملين بالخارج أو تفرض عليهم تحويل جزء معيَّن (في تركيا يصل إلى أكثر من ٥٠ في المائة) من أجورهم، مع أن كل الحكومات الأخرى مثل كوريا وحتى الأردن تُصرُّ على هذا، بل يصل الأمر في كوريا إلى حدِّ تحويل ٨٠ في المائة من أجر العامل في الخارج.
لا … أبدًا لم أكن أقصد هذا، فلستُ أنا الدولة، ولست أكتب كجهة رسمية أو بلسان حال أحد، لقد كنتُ أُخاطب فقط ولنضَع (يا مَن يسيئون فهمَ النُّكتة وأيضًا فهم الجد) لنضع خطًّا تحت كلمة «أُخاطب» فقط الذين يرغبون من تلقاء أنفسهم في المساهمة في حلِّ مشاكل شعبِهم الاقتصادية، بل ولو حتى من أجلِ أن يربحوا هم أيضًا، ففي أحد الخطابات يَقترِح مُواطن مُغترب أن تتكون من المواطنين المُغتربين في كلِّ بلد عربي أو أجنبي على حِدَة شركة استثمار ذات أسهم ورأسمال تُعامَل تمامًا في مصر معاملة شركات الاستثمار، وتقوم بإنشاء المشروعات الكثيرة المطروحة والرابحة أيضًا والتي يمكن أن تسترد كل رأسمالها في بضع سنين، وكل هذا كلام جميل.
ولكن بقيَ للمواطنين المغتربين نقطة هم على حقٍّ فيها تمامًا.
إنهم يخافون إن هموا جمعوا وتجمعوا وأرسلوا نقودًا أن تضيع هباءً ولا يعرفون كيف تُنفَق ولا على أي الوجود تُصرَف ولهم فعلًا حق، حقٌّ دعاني لأن أتصل بالدكتور صلاح حامد وزير الاقتصاد وأُناقش معه هذه النقطة بالذات، وسعدتُ أنه أيَّدَ تمامًا تخوُّف المغتربين، بل وحين ذكرت له أن خطابًا مخلصًا جِدًّا وصَلني يقول حتى نُصدِّق فعلًا أننا فعلنا شيئًا أو نفعل شيئًا لا بُدَّ أن نرى ونلمس أن ما نُرسله يُستخدَم في موضعه تمامًا ويؤتي نتيجة؛ فمثلًا إذا افترضنا أننا قمنا بحملة من أجل تبرعات لإصلاح الطرق السريعة والبطيئة في مصر، فإننا نريد أن نعود في العام التالي لنرى بأنفسنا أن الطُّرق قد أُصلِحت فعلًا، وأن المبالغ قد أُنفقت حقيقة في موضعها، وهكذا حين نقوم بحملة من أجل بناء مساكن متوسِّطة رخيصة مثلًا، نجد إقبالًا على التبرع أو المساهمة، وقد صدَّق الناس أخيرًا أن ما يفعلونه يؤتي ثمره، حين ذكرت له هذا وافقني تمامًا على رأيي.
بل وافقني أيضًا على أن من المُمكن أن تنشأ بإشراف وزارة الاقتصاد أو غيرها هيئة مكونة من أخصائي اقتصاد واستثمار ومشاريع تَرِد باسمها التبرعات، أو هي التي تتولى إصدار أسهُم أو سندات لشركات المغتربين المساهمة التي من المُمكن أن تنشأ.
بل وكان الرجل واضحًا جِدًّا حين قال لي إنه شخصيًّا رفض تمامًا فكرة تحصيل أي نقود من المغتربين بأمر حكومي، فإذا لم يكن الأمر صادرًا عن رغبة شخصية ذاتية، ومن ضمير المواطن المغترب نفسه، فإنَّ المسألة تتحوَّل إلى جباية بشرية من المُحال أن نُرغم أحدًا على قبولها.
(١) الدعوة لمن يَملكون أوَّلًا
بقيت — كما يقولون — كلمة حقٍّ لا بُدَّ أن تُقال.
نحن إذا كُنَّا نهيب بإخوتنا المُواطنين الذين يعملون أو حتى يُقيمون في الخارج أن يُساهموا معنا ولو بقروش من أجل أن ينهض اقتصادنا من كَبوته، فإننا نُدرك تمامًا الظروف البشعة التي يُضطرُّ أن يحيا فيها الكثير منهم من أجل العودة للوطن بثمن شقة أو نادٍ أو تجهيز فتاة.
نحن نَعرف أنهم يَنتزِعون الدولارات والريالات من قلب الصخر، وبأظافرهم ينتزعون لقمة العيش لهم ولعَشرة ملايين مصري يَعيشون بما يرسلونه.
نحن نعرف هذا، ولكننا لا نُخاطب فقط أولئك «الكادحين»، إننا نُخاطب وبالدرجة الأولى أولئك الذين لديهم فائض من أموال يستثمرونها في بلاد أخرى (ضمانًا لعدم المساس بها أو احتمال المساس بها إذا استُثمرت في مصر). إنَّ أي إحصاء سطحي كفيل بإظهار أن هناك مصريين فتح الله عليهم وأصبحوا يَملكون ويُديرون ملايين، بل ولهم نفوذ اقتصادي كبير في البلاد التي يعيشون فيها، والسؤال هو: إذا كان جزء كبير من اقتصاد إسرائيل يقوم على تبرُّعات يهود العالم، يدفعونها وهم يَعرفون أنها تُستعمَل للعدوان، فما بالك وبلادنا في حالة دفاع عن النفس، ضد الأزمة وضد العدوان وضد ظروف قاسية رهيبة لوت عنق المواطن وحوَّلته إلى كائن خرافي يبحث عن النَّجاة الفردية بأي طريق. إن وضعًا اقتصاديًّا كهذا كفيل بفرط عقد الشعب، وشل الوجود الجماعي والعمل الجماعي من أجل إنقاذ مصر، وتحويل المُواطن الكادح إلى مجرد آكل عيش ومدافع عن بقاء لا يُهمه من أين ولا كيف تأتي النقود؛ فالأفواه مفتوحة وشبح الأزمة مخيِّم.
(٢) ولكن … قبل أن نأخذ
ولكن …
إذا كُنَّا تحدَّثنا عن واجبات المُغتربين …
فإن لهؤلاء المغتربين حقوقًا على الدولة.
إننا لا نفعل شيئًا أبدًا من أجل هؤلاء الناس، ونتركهم لقمةً سائغةً للمُقاولين ومصاصي الدماء، تخنُقُهم عبرات الكبرياء الجريحة والإهانات التي تلحق بهم، ولا من مدافع عنهم أو يقف بقوة من أجل حمايتهم من الاستغلال والاستبداد. إني أعرف مدرِّسًا مصريًّا انتحر في إحدى البلاد لأنه أُهين ولم يجد من يتصدَّى لمن أهانوه.
لا بُدَّ أن يكون من صميم عمل السفير، ولا أقول حتى القنصل، السفير بنفسه في أي بلد عربي أن يُقيم أوثق الروابط مع الجالية المصرية، وأن يُطالِب بحقِّهم في نادٍ، وحقِّهم في التكتُّل دفاعًا عن أنفسهم ضد أي ضرر يَلحق بأحد منهم.
ولترتفع كرامة المصري في كل مكان يعمل به، فهو أخلص من يعمل وأشرف مَن يبذل الدم والعَرق في سبيل كل دولار أو دينار أو ريال سيناله.
إنَّ علينا أن نأخذ العمالة المصرية في الخارج مأخذًا جادًّا جِدًّا، علينا أن نَدرُس ونُحصي بالضبط عدد من يعملون بالخارج ونوع أعمالهم وتخصُّصاتهم، حتى لو احتجنا لأحدهم استقدمناه كخبير «غير أجنبي»، ودفعنا له أجر الخبير الأجنبي؛ فهو أولى، وقلبُه هو اللصيق بقلوبنا ومصلحتنا، بل قبل أي قرش نتلقَّاه من المصريين في الخارج.
علينا أن نبدأ بالعطاء.
فهو ليس مجرد عطاء.
إنه استثمار حقيقي في كنز وجودنا الأصيل، المواطن المصري في الداخل أو في الخارج.