الذين يأكلون أمهم!
في العادة، كانت الدولة في مصر حين يتعرَّض وجودها لأزمة أو خطر كانت تُعلن على الفور الأحكام العرفية وتمنَع التجول وتحتل الشوارع والميادين بالأمن المركزي والعربات المصفحة، ولكننا هذه المرة نُواجه خطرًا من نوع آخر، هو الخطر علينا كشعب وأمة، خطرٌ علينا في الحاضر وعلى كل من سيأتي بعدنا من أولاد وأجيال؛ ذلك هو الخطر الماحق الذي تتعرَّض له أمُّنا الزراعية مصر، الخمسة ملايين فدان اليتيمة التي يَعيش عليها خمسة وأربعون مليون إنسان، والتي لا تزال تُشكِّل الكيان الأساسي للحياة في مصر، هذه الأرض ليست معرَّضة لأزمة فقط مثلما كانت تتعرَّض الدولة، ولكنها معرَّضة لكارثة ماحقة تُصيب الشعب والدولة، بل والوجود المصري بأكمله.
هذه الأرض الآن تُحرق، أجل هناك طابور خامس من المجرمين يحرق أثمن ما نَمتلكه، طميَ النيل العظيم، الذي لن — أُكرِّر — لن يأتينا شيء منه بعد الآن، يُحرَق هذا الطمي ليُصنَع منه طوب أحمر، وتُقطَع أجزاء أخرى من الأرض الزراعية المنتجة لتُقام عليها بيوت، وهذا يَحدث على أوسع نطاق، مَن يمتلكون النقود يفعلون هذا، وحتى الفلاحون الذين يذهبون إلى البلاد العربية ويعودون بقليل من النقود حُلمهم الوحيد إقامة بيت من الحجر على قطعة جديدة من أرض قريتهم أو كَفرهم الزراعي، وبزيادة عدد العاملين في البلاد العربية وعدد المُستفيدين من سياسة الانفتاح، أصبح الطلب على الأرض الزراعية كمَكان لإقامة منزل أو عمارة أو مصنع هائلًا، وبالتالي أصبح الطلب على الطوب الحجري مجنونًا، وهكذا نشأت حركة إجرامية بمعنى الكلمة لشراء «الطمي»؛ وذلك بتجريف الأرض، أي اقتطاع المتر الأعلى أو أحيانًا المترَين، أي بالضبط القشرة الطميية المسئولة عن خصوبة أرض مصر، وتحويلها إلى قمائن، وتوريدها لمصانع الطوب المنتشر كالوباء في أنحاء الدلتا والصعيد.
ولنُدرك مدى فداحة العملية، فإن سعر فدان الأرض الطميية إذا اشتريتَه لتَمتلكه، فإنك لا تدفع فيه أكثر من ستة أو سبعة آلاف جنيه، أمَّا إذا اشتراه صاحب مصنع طوب ليُجرِّف المتر الأعلى منه فقط فإنه يشتري ذلك المتر العلوي بعشرين وأحيانًا بخمسة وعشرين ألف جنيه، ويَترك لك فدان الأرض لتمتلكه ما شئت، فإنه إمَّا أن يتحوَّل إلى بركة، وإمَّا أن لا يعود يصلح للزراعة مُطلَقًا. وعملية التجريف تجري رغم القانون الهايف الذي يَحكم بالغرامة فقط على جنحة التجريف، العملية تجري ليلًا في معظمها، وبواسطة عصابات لدَيها عمال كثيرون، بحيث في ليلة أو ليلتين يتمُّ كل شيء وتُكشَط الطبقة القابلة للزراعة من آلاف الفدادين، وتتحوَّل إلى حجر أصم يُباع بأسعار رهيبة. وليس هذا هو المهم؛ إن الكارثة الثانية أنه سيقتطع بحجمه وبالمنزل الذي سيبني به مساحة زراعية أخرى، آلاف الفدادين أيضًا، سِرًّا وبالرشوة، وبالاغتصاب تتحوَّل هي الأخرى إلى أرضٍ غير قابلة للزراعة.
ومنذ بضع سنوات، تلقَّيت من البنك الدولي تقريرًا خطيرًا يُنبِّه لهذا الخطر، ويؤكِّد أن الكم المتآكل بالطريقة الراهنة من الأرض الزراعية أكثر بكثير من الكم المُستصلَح، بحيث إن أرضنا الزراعية، ثروتنا، مُمكن أن تتقلَّص إلى النصف تمامًا بحلول عام ٢٠٠٠، والحق أنه ليس تُجَّار الطمي ومجرموه وسفاحو الأرض هم وحدهم المدانون، إن حكوماتنا المتعاقبة بعماها التقليدي وانعدام بصيرة أجهزتها وسياساتها قد أسهمَت في هذا لحدٍّ كبير؛ فلقد قرأت مقالًا عظيمًا للدكتور حسين مؤنس في مجلة النور، ينعي فيه على المصريين أنهم يلتهمون أرضهم الزراعية التهامًا، وكيف تحوَّلت الدائرة الزراعية التي كانت تورد الخضر والفاكهة حول القاهرة إلى مساكن تبدأ بالعشش وتَنتهي بالقصور، وقامت مدن المهندسين والصحفيين والضباط وأساتذة الجامعات، وامتدَّ العدوان إلى ميت عقبة والأرض الكائنة خلف سكة حديد الصعيد، والتُهمت في هذه العملية ثلاثمائة ألف فدان في محافظة الجيزة فقط، فما بالك بالأرض التي التُهمت من القليوبية، وأنا لا أفرح أبدًا وأنا أرى الأرض الكائنة بجانبي الطريق الزراعي تحتلُّها المنشآت وتعلو مبانيها وكأنها تضعُ إصبعها في عين كلِّ متألم من التهام أرضنا، أمِّنا، حياتنا.
إنَّ الخطر أكبر بكثير جِدًّا مما نتصور، أكبر من كل التوسُّلات والإجراءات التي قمنا ونقوم بها إلى الآن، وإذا كان العدوان على حقل بترول في البلاد البترولية يُعتبَر جريمة قد تَصِل عقوبتها في حالة التخريب إلى الإعدام باعتبار البترول ثروتهم القومية هناك، فإني أَعتبر أن العدوان على الأرض الزراعية في مصر أخطر من العدوان على حقل بترول، فهو آجلًا أو عاجلًا سيَنضَب، أمَّا العدوان على الطمي الذي عشنا عليه سبعة آلاف عام وندَّخره لنحيا عليه سبعة أو مائة أخرى، فإنه جريمة بكل معنى الكلمة.
كما أطالب وعلى الفور بمصادرة أكوام الطمي المكوَّمة بجوار مصانع الطوب، ودفع تعويضات مناسبة عنها، فهي مهما كانت ستكون أرخص من استصلاح فدان صحراء أو شراء مسمدات صناعية.
بل أطالب بإغلاق جميع مصانع الطوب «الطميي» في مصر فورًا، ورصد ملايين الجنيهات لإقامة مصانع عاجلة للطوب الطفلي والرملي والأسمنتي، وإني متأكد أن الدكتور يوسف والي وزير الزراعة سيَسعد بكلماتي هذه، ولكني لن أكتفيَ بسعادته، وسأُطابه بأن يرتدي ملابس الميدان ويقود معركة الدفاع عن أرضنا، وسيَعتبِر كل مِنَّا نفسه جنديًّا في هذه المعركة … يا سارقي الطمي، ومجرِّفي الأرض، وحارقي أرضنا لتكسبوا مالًا حرامًا هو طعامنا وطعام أبنائنا، أفيقوا؛ فإن جريمتكم لو تبينتموها لاقشعرَّت أبدانكم هولًا، ولأنني أعرف أن النصيحة لن تجدي، وأنهم سكارى بمكاسبهم لا يُفيقون ولن يُفيقوا، فإني أطلب من الدولة ومن الشعب أن نقضي على فئران الأرض وقارضيها تمامًا.
أمَّا تحويل الأرض الزراعية إلى أرض مبانٍ، وبشاعة الفساد في استخراج تصريحات بهذا ووجوب مقاومته مقاوَمة الطاعون، فإني أطلب فورًا أن تجنِّد الدولة كافة أجهزتها ومؤسساتها وتُغيِّر من القانون تغييرًا جذريًّا، بحيث يرفع عقوبة الشاري والبائع والموظَّف الذي أعطى التصريح، واعتبارها كجريمة تجريف الأرض خيانة عظمى، فكيف نُعاقب من يَنكص في الحرب بتهمة الخيانة العظمى، والحرب لن تَفعل سوى احتلال عسكري، ولا نُعاقب من يخون الأرض والشعب عن عمد وسبق إصرار وترصُّد بطريقة يَستأصل معها وجودنا نفسه ولا يحتلُّه فقط؟
هل أنا أؤذن في مالطة؟!
أم أن مالطة خَرِبة فعلًا ولا حول ولا قوة إلا بالله؟!