الحلم
اشتهر معاوية بعد الدهاء بالحلم، وأجمع مؤرخوه من مادحيه على وصفه بهاتين الصفتين، وقد أفرد ابن أبي الدنيا وأبو بكر بن عاصم تصنيفًا في حلمه، وقال قبيصة بن جابر: «صحبت معاوية فما رأيت رجلًا أثقل حلمًا، ولا أبطأ جهلًا، ولا أبعد أناة منه.» وردد المؤرخون كلمة قبيصة هذه وزادوا عليها كلمات بمعناه لغيره من عشرائه ورواة أخباره.
ولم يفخر معاوية بصفة كما كان يفخر بحلمه … كان يفاخر خاصته بالدهاء بينه وبينهم، ولكنه لم يفخر قط بالدهاء علانية كما كان يفخر بالحلم والأناة، ولا غرابة في ذلك من جميع الوجوه، فما من رجل على نصيب من الدهاء يعلن دهاءه ويفخر به، وهو يستطيع أن يخفيه ويموهه بالنصيحة والصراحة، ومن صنع ذلك فهو كالصائد الذي يكشف حبالته للقنيصة، وهي خليقة ألا تقع فيها إذا انكشفت لعينها.
ووجه آخر من وجوه الجهر بالحلم، وتذكير الناس به عند معاوية أنه كان حريصًا على التحبب إلى الناس؛ لأنه ينتزع سلطانه ويعلم أن الناس لا ينطوون على الحب لمن ينتزع السلطان، إن لم يكن نخوة وأنفة فحسدًا وغيرة، أو إعراضًا عن الغاصب إلى من هو أولى بالسلطان في رأي أصحاب هذا الرأي وإقبالًا على مستحقه عندهم بغير نزاع.
سئل: «أي الناس أحب إليك؟ قال: أشدهم تحبيبًا لي إلى الناس»، وغني عن القول أن الصفح عن المسيء مع القدرة على البطش به من أقرب الوسائل إلى كسب ولائه، وكسب ولاء غيره ممن يسمع بالخبر ويحمده، ولم يكن معاوية ولا شيعته يقصرون في إذاعة كل خبر فيه مأثرة من مآثر العفو والأناة، والبر بكل مسيء من أولئك الذين كانوا يتطاولون عليه بالمساءة في أول عهده بالملك على الخصوص، ولم يكن عدد هؤلاء المسيئين بالقليل …
كان يقول: إني لأرفع نفسي أن يكون ذنب أعظم من عفوي، وجهل أكبر من حلمي، وعورة لا أواريها بستري، وإساءة أكثر من إحساني.
وكان يقول في مجالسه: «لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت.» وسأله بعضهم: كيف ذلك؟ فقال: «كنت إذا شدوها أرخيتها، وإذا أرخوها شددتها …»
وحد الحلم عنده ألا يكون في العدوان والتطاول مساس بملكه وسلطانه، أغلظ له رجل فأكثر، فقيل له: أتحلم عن هذا؟ فقال: «إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا.»
ووجه آخر غير هذه الوجوه كان من دواعي اللهج عند معاوية بفضيلة الحلم قبل غيرها من الفضائل، التي كان في وسعه أن يلهج بها كالعطاء والتدبير وعلو الهمة، وما إلى ذلك من المناقب التي يسلم له بها الأنصار، ولا يجحدها كثير من الخصوم.
كان الحلم دعاية سياسية في خصومته مع علي بن أبي طالب بما اشتهر به من فضائل الشجاعة والأمانة والتقوى.
كان الحلم صفة من أعز صفات الرئاسة عند الأمة العربية، وما نحسبها غالت قط بمحمدة من محامد الرئاسة مغالاتها بالحلم وقرينه «الحكمة» …
وربما مدحوا الكرم والشجاعة فأكثروا فى مديحهما إكثارهم فى القول المعاد من قبيل تحصيل الحاصل …
فأما الحلم فقد كانوا يغالون في الثناء عليه؛ لأنه محمدة يطلبونها في الرؤساء ولا تجري مجرى الصفات المبذولة لسائر المتصفين، ولما اختلف علي ومعاوية لم يكن أحد ينكر على علي شجاعته وتقواه، وسابقته إلى الإسلام وقرابته من رسول الله، فإذا شاء معاوية أن يوازيه بصفة من صفات الرئاسة؛ فتلك هي الحلم دون غيره، ودعواه فيها أنه هو صاحب الرأي والحلم والحزم، وأن عليًّا صاحب الشجاعة والصلاح، وقد شاعت الموازنة بينهما بهذا المعنى على ألسنة الدعاة من حزب معاوية، وكاد أن يقبلها الناقدون لعلي من حزبه لاشتداده في الحق الذي لا مثنوية فيه، وأمسك معاوية على كل لجاجة في أمر التقوى والصلاح؛ ليقول كلما نافس عليًّا وابنه الحسن: إن لم أكن خيركم فأنا خيركم لدنياكم.
فالحلم عند معاوية وسيلة من وسائل التحبب إلى الناس، ووسيلة من وسائل الدعاية السياسية يعزز بها حجته، ولا يستطيع أن يفخر بصفة غيرها في مقام المفاضلة بينه وبين الرجل الذي سلم له المنصف والمكابر بفضيلة الشجاعة، وفضيلة التقوى.
لا جرم كان في أخبار حلمه إفراط ومجاوزة للمألوف من أمثاله، وكان من أهله من يثور لإفراطه هذا، ويحس الهوان في عزته لما يحتمله صاحب الأمر كله في دولتهم من الجرأة عليه وعليهم، وكان يزيد — ابنه وولي عهده — أشد هؤلاء الثائرين سخطًا على أبيه، يقول له كلما راجعه: «أخاف أن يعد ذلك منك ضعفًا وجبنًا …» فيقول له: «أي بني! إنه لا يكون مع الحلم ندامة ولا مذمة، فامضِ لشأنك ودعني ورأيي.»
ومما يدل على أن الفخر بالحلم دخل في دعاية الخصومة بين معاوية وعلي خاصة؛ أننا لا نسمع به بعد تأسيس الدولة، ولا يفخر به أحد من الأمويين غير الفرع المؤسس لدولتهم في إبان النزاع الأول على الخلافة.
فالمعلوم أن بني أمية فرعان: فرع حرب، وفرع أبي العاص. وإلى حرب ينتمي أبو سفيان وابنه معاوية، وإلى أبي العاص ينتمي مروان بن الحكم ومن خلفه من ذريته، وفي مقدمتهم ابنه عبد الملك وحفيده سليمان بن عبد الملك.
•••
فالمفاخرة بالحلم إنما كانت تجري على لسان معاوية، ولم تجرِ بعده على لسان المروانيين حين تأسست الدولة الأموية، واستغنى القائمون بها عن مقابلة فضائل علي بن أبي طالب بفضائل «سياسية» يرجحون بها أنفسهم في ميزان الخصومة.
كان معاوية يقول: إذا لم يكن الأموي حليمًا، فقد فارق أصله وخالف آباءه …
وكان يقول: «يا بني أمية! فارقوا قريشًا بالحلم، فوالله لقد كنت ألقى الرجل في الجاهلية فيوسعني شتمًا وأوسعه حلمًا، فأرجع وهو لي صديق، إن استنجدته أنجدني وأثور به فيثور معي، وما وضع الحلم عن شريف شرفه، ولا زاده إلا كرمًا.»
وكان المتقربون إليه يذكرونه حلم أبي سفيان إذا أنكروا منه سورة النقمة والغضب، وقيل له بعد مقتل حجر بن عدي: أين غاب عنكم حلم أبي سفيان؟ فكان يقول: حيث غاب عني حلماء قومي، وحملني ابن سمية فاحتملت، وقال للسيدة عائشة حين سألته مثل هذا السؤال: لم يكن معي رشيد …
ولا شك أن معاوية قد أقام فخره بالحلم على سمعة قديمة في بيته بين بيوت بني أمية؛ لأن هذا الفخر لا يُخلَق بين يوم وليلة في البلاد العربية، التي تذكر وراثاتها وتعيدها ولا تخاطب بها من يجهلها، ومن المشهور أن حرب بن أمية أصلح بين قريش وهوازن في حرب الفجار الثانية بعد اقتتال يسير، وأن ابنه سفيان كان يتأنى، ولا يتهجم في خصومات الجاهلية وخصومات الإسلام، ولا يمتنع مع هذا كله أن يكون الفخر بالحلم من دعايته السياسية عند تأسيس الدولة، والحاجة إليه في المفاضلة بين المتنازعين بمناقب الحكم والرئاسة، وقد سكت عنه الأمويون على عهد الفرع الآخر منهم وهو فرع المروانية؛ لأنهم لم يحتاجوا إليه في منازعاتهم، بل كان منهم من يفخر بالفتك، ويسرع إلى الغضب ويرهب المخالفين له بسرعة البادرة إليه.
وليست كل هذه الوقائع — مع ذلك — بصالحة للاستدلال بها على حلم معاوية، ولو بعد ثبوتها باختلاف أو بغير اختلاف.
فمنها ما تعرض فيه للإساءة مستدعيًا لها مستعدًّا لها في مجال التبسط والمزاح، والعالم الإسلامي لم يتعود بعدُ طغيان الملك، ولم يتعود ملوكه أن يسوموا الناس الصبر على ما يكرهون، ولا يترقبوا منهم رد الكلام بمثله في كل مقام …
وما نظن معاوية كان مخاطبًا بذلك الخطاب رجلًا يوصف في عصرنا هذا بأنه من «آكلي النار»، ثم لا يترقب منه جوابًا كجوابه، ولعله كان يرضيه أن يسمع منه تسليمًا واستكانة، فيطمئن إلى غلبته ورسوخ سلطانه، ولكنه — ولا ريب — لم يغب عن ذهنه أن جارية أهل لأن يسمعه ما سمع، وأن يطرفه بتلك الطرافة اللاذعة التي لا يأباها كثير من الناس، وهي طرافة الجواب السريع المتوقع ممن يحسن رد الكلام بمثله في هذا المقام …
وأشبه بهذا المقام حواره مع الزرقاء بنت عدي خطيبة صفين حين ذكرت في مجلسه بعد سنوات، فأرسل إليها يستدعيها، فقالت للرسول: إن كان أمير المؤمنين جعل الخيار لي فإني لا أذهب، فلما شدوا عليها في الذهاب دخلت المجلس، وفيه: عتبة بن أبي سفيان، والوليد، وسعيد بن العاص، وعمرو بن العاص. فهش لها ورحب بها، ثم سألها: أتدرين فيم بعثت إليك؟
قالت: وأنَّى لي بعلم ما لم أعلم … لا يعلم الغيب إلا الله …
فسكت هنيهة، ثم قال: ألست أنت الراكبة الجمل الأحمر في صفين تحضين الناس بين الصفين على القتال؟
قالت: نعم! …
قال: فما حملك على ذلك؟
قالت: يا أمير المؤمنين، مات الرأس وبُتِر الذَّنَب، ولن يعود ما ذهب، والدهر ذو غير، ومن تفكر أبصر، والأمر يحدث بعده الأمر.
قال: صدقت، أتحفظين كلامك يومئذ؟
قالت: لا والله، أُنسِيتُه.
قال: لكني أحفظه، ولله أبوك حين تقولين: «أيها الناس! ارعوا وارجعوا، إنكم أصبحتم في فتنة، غشيتكم جلابيب الظلم، وجارت بكم عن قصد المحجة، فيا لها فتنة عمياء، صماء، بكماء، لا تسمع لناعقها، ولا تسلس لقائدها، إن المصباح لا يضيء في الشمس، والكواكب لا تنير مع القمر، ولا يقطع الحديد إلا الحديد.»
واسترسل في قول الرواة يعيد عليها كلامها إلى أن قال: والله يا زرقاء … لقد شركت عليًّا في كل دم سفكه.
قالت: أحسن الله بشارتك وأدام سلامتك، فمثلك بشَّر بخيرٍ وسرَّ جليسَه …
قال: أويسرك ذلك؟
قالت: نعم …
قال معاوية: والله لوفاؤكم بعد موته أعجب إليَّ من حبكم في حياته، اذكري حاجتك …
قالت: يا أمير المؤمنين، آليت على نفسي لا أسألن أميرًا أعنت عليه أبدًا …
ولكنه على هذا أجزل لها العطاء وأرضاها.
فقالت: بخير يا أمير المؤمنين، قال: غيَّرك الدهر، قالت: كذلك هو ذو غير، ومن عاش كبر، ومن مات قبر.
قال عمرو بن العاص: هي والله القائلة يا أمير المؤمنين:
وقال مروان: هي والله القائلة يا أمير المؤمنين:
وقال سعيد بن العاص: هي والله القائلة:
فقالت بكارة: نبحتني كلابك يا أمير المؤمنين … وأنا والله قائلة ما قالوا، لا أدفع ذلك بتكذيب، وما خفي عليك مني أكثر، فامضِ لشأنك، فلا خير في العيش بعد أمير المؤمنين …
فضحك معاوية، وقال: ليس يمنعنا ذلك من برك، اذكري حاجتك، قالت: أما الآن فلا …
ويتم الرواة روايتهم فيقولون: إنه قضى حوائجها وردَّها إلى بلدها …
•••
كان عنده زيد بن عمر بن الخطاب، وأمه بنت علي أم كلثوم، فنال بسر بن أرطأة من الإمام، فما أمهله زيد أن قام إليه فعلاه بالعصا وشج رأسه، فلم يزد معاوية على أن قال لزيد: عمدت إلى شيخ قريش وسيد أهل الشام فضربته؟ ثم التفت إلى بسر، فقال: تشتم عليًّا على رءوس الناس وهو جده وابن الفاروق، ثم تراه يصبر على ذلك؟!
وغير بعيد أنه كان يترك جلساءه يتحرشون بذوي اللسن من العلويين ليضحك مما ينالهم كما يفعل ذوو السلطان في كل زمن وكل أمة، فربما كانت سخريتهم بالأنصار أمتع لهم من صد الخصوم، وقد يطلقون بعضهم على بعض؛ ليسخروا منهم جميعًا إن لم يكن لهم خصوم يعرضونهم للسخرية طائعين أو كارهين.
•••
أناس من ذوي السلطان المحدث يعلمون هوان أقدارهم مع بني هاشم وآل النبي وصفوة قريش، ويلذ لهم أن ينعموا بالسلطان وأن «يجتروا» تلك النعمة حيثما وسعهم اجترارها في حضرة وليهم، وعلى مسمع من السادة الأعلين الذين غلبوا على ذلك السلطان، وإن ولي الأمر نفسه ليحب ذلك ولكنه يعلم أنه مركب غير مأمون، وأن الموتورين إذا سمعوا ما يكرهون فردوه بمثله فما في وسعه أن يواجه العالم الإسلامي كل يوم بشهيد من آل البيت … فسبيله أن يصطنع المخالفة لجلسائه، وأن يحذرهم مغبة اللهو بهذه الملهاة، ولا أمان فيها من لسن القوم وأنفتهم التي لم تخذلهم قط في مقام المناظرة والتحدي من زمن قديم، فإن أصيب جلساؤه فعليهم وزر عملهم، وليس لهم أن يطالبوه بالاقتصاص لهم من أمر قد اختاروه على خلاف رأيه، وإن سلم أولئك الجلساء فقد شفوا صدره من أولئك الموتورين.
•••
إلى أن قال في رواية الرواة: «فلتكونن منهن بحيث أعددت ليلة الهرير للهرب فرسك، وكان أكبر همك سلامة حشاشة نفسك، ولولا طغام من أهل الشام وقوك بأنفسهم وبذلوا دونك مهجهم … ورفعوا المصاحف مستجيرين بها وعائذين بعصمتها لكنت شلوًا مطروحًا بالعراء … وما أقول هذا لأصرفك عن عزيمتك، ولا لأزيلك عن معقود نيتك، ولكنها الرحم تعطف عليك، والأواصر توجب صرف النصيحة إليك.» فقال معاوية: لله درك يا بن عباس، ما تكشفت الأيام منك إلا عن سيف صقيل ورأي أصيل، والله لو لم يلد بنو هاشم غيرك لما نقص عددهم ولو لم يكن لأهلك سواك لكان الله قد كثرهم.
•••
وإن دواعي الشك في مثل هذا الحديث لكثيرة، لولا أن التلفيق فيه أعسر من أن يتاح لكل راوية يضع الكلام على كل لسان، ولا يبالي أين موضعه من القائل والمجيب.
وأي فائدة كبرى كان يفيدها معاوية لو سمع من ابن عباس كلمة تفتح الباب للتفرقة بينه وبين سائر الهاشميين العلويين؟ أي فائدة كان يفيدها لو رأى من دهاء ابن عباس أنه يمهد لنفسه عند السلطان الجديد، ولا يزيد على التشفع لغيره من سائر أهل البيت؟
إن غرابة هذه القصة هي التي ترجحها وتضعف الشك فيها، فإنها إن وقعت لن تقع إلا على غرابتها …
إنها غريبة من معاوية إلا أن تكون مقصودة لغير ظاهرها مع رجل له ظاهر وباطن يستطلع بهذه المفاجأة، ولا يستطلع بغيرها، وقد يبدو منه ما تنكشف به جلية الموقف بينه وبين سائر بني هاشم، وكل بني هاشم غير عبد الله بن عباس فظاهرهم وباطنهم لا يختلفان إذا سمعوا مثل ذلك النذير …
هذا أو تكون نفثة من نفثات الكظم تنطلق منه حيث يقدر الأمان مع رجل يخفي باللسان ما لا يضمره الجنان.
•••
وأمثال هذه الردود الخشنة جميعًا لم تكن في ذلك العصر مما يستكثر في مناسباتها، وقد سمعها معاوية — أو سمعها جلساؤه معه — متوقعة مستثارة، ولم يتعود الناس يومئذ أبهة الملك وطاعة العبيد للسادة، ولم يتعود الأمير كذلك أن يسوم الناس سكوتًا في موضع القول، وإغضاء في موضع الأنفة، وإنما كان الأمير خليفة يتشبه بالخلفاء الراشدين في حق الطاعة، ولم يعدُ أحد من هؤلاء الخلفاء أن يخاطب إنسانًا بما يسوءه، ثم يستكثر عليه أن يجيبه بمثل خطابه، فهذه «هرقلية» لم يتعودها الرعاة ولا الرعايا، ولم يكن في طاقة معاوية أن يروض رعاياه عليها دفعة واحدة، فإذا تمهل فيها آونة بعد آونة، فإنما يكون التمهيل بمثل ذلك الصبر على كره أو على اختيار.
ومن الوقائع التي رويت عنه، وقائع يلتبس فيها الحلم وبطء الغضب وطول الروية والأناة، ومنها ما يتلقى فيه الإساءة أو الوعيد على البعد، ويتسع له الوقت قبل الإجابة عنها بما يُروِّي فيه النظر ويرتضيه.
عدا عبيد لمعاوية على أرض ابن الزبير؛ فكتب إليه ابن الزبير: «أما بعد يا معاوية، إن لم تمنع عبيدك من دخول أرضي وإلا كان لي ولك شأن.»
وقيل: إن معاوية أطلع ابنه يزيد على كتاب ابن الزبير، وسأله: ما ترى؟ فقال له يزيد: لتنفذن إليه جيشًا أوله عنده وآخره عندك يأتوك برأسه.
فجاءه الجواب من ابن الزبير يقول فيه: «وقفت على كتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، فلا عدم الرأي الذي أحله من قريش هذا المحل والسلام …»
ومن الإساءات ما لا خطر له؛ لأنه من غير ذي شأن كشأن ابن الزبير، ولكنه يغضب العربي؛ لأنه يمس الحرمات كتشبيب عبد الله بن حسان برملة بنت معاوية إذ قال:
فغضب يزيد وأغرى كعب بن جعيل بهجاء الأنصار فأبى، ودله على الأخطل فنظم قصيدته التي يقول منها:
وأوشكت أن تكون فتنة؛ إذ دخل النعمان بن بشير على معاوية محنقًا وحسر عن رأسه وهو يقول له: هل ترى يا معاوية لؤمًا؟ … فقال: بل كرمًا وخيرًا، فما بالك؟ … فأعاد عليه أبيات الأخطل وتوعده بأبيات يقول منها:
وتنم القصة بما قيل عن طلب معاوية للأخطل، وتهديده إياه بقطع لسانه لولا شفاعة يزيد الذي أغراه بالهجاء.
وفي رواية من هذه الروايات الكثيرة أن التشبيب إنما كان بأخت معاوية، وأن يزيد دخل على أبيه فذكر له قول عبد الرحمن بن حسان:
فقال له: وما علينا يا بني من طول ليله وحزنه؟ أبعده الله …
قال يزيد: وإنه ليقول:
فقال أبوه: وما علينا من ظن أهله؟
قال يزيد: وإنه ليقول:
قال معاوية: صدق يا بني، هي كذلك.
قال يزيد: وإنه ليقول:
فضحك معاوية وقال: ولا كل ذاك … ثم حذر ابنه قائلًا: ليس يجب القتل في هذا ولكننا نكفه بالصلة …
وزعموا في بعض روايات القصتين أن معاوية أرسل في طلب الشاعر، وأبلغه أن هندًا أخت رملة تعتب عليه؛ لأنه لا يسويها بأختها، وأراد بذلك أن يشبب الشاعر بهند فيعلم الناس أنه كاذب في كل ما نظم، وأنها أقاويل الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون.
بل هو الذي أفحش في هجاء المهدي وهجاء نساء بيته، وذهب يخبط بالمهايجة والتحريض بين بني أمية وبني العباس، وما استباح المهدي عقابه إلا بتهمة الزندقة والإلحاد، وما أمر إلا بأن يضرب ضرب التلف؛ ليقال في ذلك: إنه إنما أريد به الضرب فمات.
وهذا بشار وذاك عبد الرحمن بن حسان.
ففي وزن الرجال وتمحيص الأخلاق وفهم الطبيعة الإنسانية — أي: فهم الإنسان — لا جدوى من التعويل على ألفاظ الصفات، ولا بد من الرجوع إلى الوقائع وما لها من الأثر الطبيعي في الضمير، وما ينم عليه هذا الأثر من خليقة نفسية أو ملكة عقلية.
وهذه الوقائع التي رويت عن معاوية تبدي لنا منه صفة لا شك فيها، وهي طول الأناة وبطء الغضب، وليست هي بالصفة التي ترادف الحلم كما يفهم لأول وهلة، إذ كثيرًا ما يكون بطء الغضب شيئًا «سلبيًّا» يدل على امتناع الغضب طبعًا أو قلة الاستعداد له في الخلقة، ولا تكون الفضيلة أبدًا «شيئًا سلبيًّا» قوامه غياب أثر من الآثار النفسية وكفى.
فليس معنى الشجاعة — مثلًا — تجرد الطبع من الشعور بالخوف؛ لأن الإنسان الذي يقدم على الخطر وهو لا يشعر به، يندفع اندفاع الجماد ولا فضل له في اندفاع لا يكلفه الغلبة على خوف يساوره في ضميره.
•••
وليس معنى الكرم تجرد الطبع من الشعور بقيمة المال أو قيمة المنحة المبذولة؛ لأن من يتصرف في شيء لا قيمة له عنده، كمن يتصرف في التراب والهواء، وما إليهما من مبذول العطاء.
وليس معنى العفة تجرد الطبع من الشعور بالشهوات؛ لأن من لا يشتهي لا يطلب ولا يقاوم الإغراء، ولا تحسب له عفة.
وليس معنى الحلم تجرد الطبع من الشعور بالغضب؛ لأن التجرد من هذا الشعور قد يأتي من بلادة في الطبع وركود في حركة النفس، ومقابلة العوامل الطبيعية بما يناسبها من الانفعال.
وإنما الحلم أن يغضب الإنسان وأن يحكم غضبه بإرادته؛ إيثارًا لأمر يفوق الغضب في قيم الأخلاق …
فمن الحلم أن يأنف الإنسان من الاستسلام للغضب؛ لأنه يرتفع بكرامته أن تصيبها إساءة المسيء.
ومن الحلم أن يصفح الإنسان عن الإساءة؛ إيثارًا للخير وعطفًا على المسيء كما يعطف الأب الرحيم على الولد الجاهل بما يصنع في حق أبيه.
ومن الحلم أن يقمع الإنسان غضبه؛ لأنه يملك زمام نفسه، ويوازن بين العواقب فيختار أسلمها للناس عامة، وإن يكن أسلمها له في ذات شأنه وشئون ذويه …
ولا بد من التفرقة هنا بين الحلم إيثارًا للنفع القومي، وبين الحلم إيثارًا للسلامة وعملًا بطبيعة «الأنانية» وحب الذات.
فليس من الحلم أن يضرب الضعيف، فلا يرد الضربة بمثلها؛ لأنه يعلم أنه سيتلقى أضعافها ممن هو أقدر منه وأقوى على إيذائه، وإنما يقال عن هذا: إنه جبن أو رضا من المعتدى عليه بأهون الشرين.
ولا يكون الحلم أبدًا عجزًا عن مجاراة الغضب أو امتناعًا للشعور به؛ لأن الفضيلة لا تقوم على عجز أو امتناع، ولكنها تقوم على إرادة تملك الاختيار بين الخطتين …
•••
وجملة القول في هذه الصفة أن الحليم هو الذي يملك الغضب ولا يملكه الغضب، وكلما اشتد الغضب واشتدت القدرة عليه؛ كان ذلك أبين عن الحلم وأدل عليه، وكلما ارتفع السبب الذي من أجله يتغلب الحليم على غضبه كان ذلك أرفع لقدره، وأرجح لوزنه في ميزان الفضيلة، فمن يحسم الغضب حرصًا على منافع الناس أحلم وأكرم ممن يحسم الغضب حرصًا على منافعه العاجلة أو الآجلة؛ ومن يحسم الغضب لأنه يشمل الناس بحبه وعطفه أحلم وأكرم ممن يحسم الغضب؛ لأنه يحب نفسه ويقدم حبها على كل حب لغيره.
أو كما قال النابغة الجعدي:
ومن كلام الأحنف بن قيس — أحد مشاهيرهم بالحلم: «رب غيظ قد تجرعته مخافة ما هو أشد منه.»
وهو القائل: «لا تكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان …»
وسألوه: ما الحلم؟ … فقال: «قول إن لم يكن فعل، وصمت إن ضر قول …»
•••
وروى العقد الفريد أن هشام بن عبد الملك سأل خالد بن صفوان: بم بلغ فيكم الأحنف ما بلغ؟ فقال: إن شئت أخبرتك بخلة، وإن شئت بخلتين، وإن شئت بثلاث …
قال: فما الخلة؟
قال: كان أقوى الناس على نفسه.
ثم قال عن الخلتين: إنه كان موقَى الشر ملقى الخير، وعن الثلاث: إنه كان لا يجهل ولا يبغي ولا يبخل.
وأستاذ الأحنف في الحلم قيس بن عاصم المنقري كان مشهورًا بالإقدام كشهرته بالحلم والإغضاء عن الذنب كبيره وصغيره، وبلغ من حلمه أنه صفح عن ابن أخيه الذي قتل ابنه، وقد أوثقه من ود أن يبطش به لساعته، فما زاد على أن قال له مؤنبًا: «بئس ما فعلت، نقصت عددك، وخنت عشيرتك، وأسقطت مروءتك، وأشمت عدوك، وأسأت قومك … وأنت الذي كنا نرجو لعظائم الأمور.» ثم واسى زوجته أم القتيل وأجزل لها الدية من ماله، وحسم بذلك شرًّا مستطيرًا في القبيلة لا يجعله عنده أخطر من شر الثكل إلا الحلم الراجح، والقلب الكبير، والنظر البعيد.
•••
ويمر بنا مثل من الأمثلة الصالحة لتقويم الروايات، ورواتها بصدد الأخبار التي نقلها صاحب العقد الفريد عن الحلم والحلماء، ومنهم الأحنف ومعاوية …
فابن عبد ربه ينقل لنا أن الأحنف سئل: من أحلم … أنت أم معاوية؟ فقال: تالله ما رأيت أجهل منكم، إن معاوية يقدر فيحلم وأنا أحلم ولا أقدر، فكيف أقاس عليه أو أدانيه؟
فإذا سمع السامع المتعجل هذا فحري أن يتقرر لديه رجحان معاوية في الحلم بشهادة الرجل الذي يُضرَب به المثلُ في حلمه، وأي شهادة عسى أن تكون أصدق من هذه الشهادة؟!
وما هي إلا معاودة لحظة في السؤال والجواب حتى يتقرر على خلاف ما تقدم أن السؤال كان لا يحتمل جوابًا غير ذلك الجواب، لو أنه سؤال ما كان ينبغي أن يتوجه للأحنف، ويترقب سائله أن يقول له: بل أنا أحلم من معاوية! … وقد كان الأحنف خاصة يرى من عرف الحلم أن يستصغره، وأن يقول عن نفسه كما نقل صاحب العقد قبل ذلك بسطر واحد: لست حليمًا ولكنني أتحالم.
•••
ولو أن الأحنف قال برأيه ذاك اعتقادًا ولم يقل به تواضعًا أو تحالمًا؛ لكان على خطأ لا يخفى عند النظرة اليسيرة في أسباب تفضيله معاوية على نفسه … فما هي القدرة التي كانت مطلوبة من الأحنف في مقامه؟ لقد كان يكفيه أن يقدر على كلمة لا يعجز عنها أحد، وكان يكفيه أن يمسك تلك الكلمة فيكون أقوى الناس على نفسه كما وصفه خالد بن صفوان، وأما الملوك فالمطلوب منهم أعمال لا يقدرون عليها في كل وقت ولا مع كل أحد، إلا أن يكون المقصود بالقدرة طياشة جامحة تخبط ما تشاء بغير مبالاة، وليس قصارى الحليم أنه غير الطياش وغير الخابط الذي لا ينظر إلى عقباه.
ويوزن الراوي في روايته هذه، فلا نجهل موقع الهوى فيما يشاع عن حلم معاوية، ويسر انتقال الإشاعة من قائل إلى قائل ومن ناقل إلى ناقل، فما في هوى الأندلسيين لبني أمية من خفاء ودولتهم الأولى أموية في أساسها. وابن عبد ربه نفسه حفيد لسالم القرطبي مولى هشام بن عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، وأقل ما يقال في نقل ابن عبد ربه لكلمة الأحنف أنها تزكية لرأس الدولة الأموية رحب بها ووافقت هواه.
ونعود إلى تاريخ معاوية فيما قاله وفيما سكت عن قوله منذ نشأته الأولى، فلا نجد فيه أثرًا واحدًا لطبيعة الغضب التي تُمتحَن بها فضيلةُ الحلم كما امتحنت في نفس الرجل الحزين في صدمة الثكل، وهو المقتحم المغوار في الجاهلية والإسلام.
ونخال أن التاريخ لم يحفظ لنا غير حادث واحد يفتح لنا مغاليق هذه الخليقة في طوية الرجل، فإنها في الحق لغز لا يكفي لحله مجرد القول بالحلم أو الغضب المكبوت أو بطول الأناة، وإنما يحله علم النفس الحديث على النحو الوحيد الذي يعطينا منه معنى مفهومًا على وجه من الوجوه …
ذلك الحادث هو مقتل حجر بن عدي وأصحابه لغير ضرورة عاجلة، ولا مصلحة آجلة، فما كان له من خطب غير أنه واحد من أولئك الذين قال فيهم معاوية: إنه لا يحول بينهم وبين ألسنتهم؛ لأنهم لا يحولون بين بني أمية وملكهم، فإن كان لا بد من إسكاته فقد يسكته أن يحملوه إلى مكان لا يلقى فيه من يستمع إليه.
•••
ودهش الناس لهذه المقتلة الجزاف، واهتز لها العالم الإسلامي هزة عنيفة أورثته مبغضة لدولة بني أمية من تلك المبغضات التي كمنت وطالت حتى نُسِيَت أسبابها وبقيت نوازعها، وظل شبح الشهيد الوقور يساور معاوية إلى يوم وفاته، فجاء في رواية ابن سيرين: «إن معاوية لما حضرته الوفاة، جعل يقول: يومي منك يا حجر طويل.»
ولا يحاط بعوارض الفزع التي ألمت بالعالم الإسلامي من جراء هذه المقتلة الباغية، ولكنها قد تتمثل في عارض واحد يدل على كثير، فإن الخبر الذي ذاع عن تسيير حجر وأصحابه إلى دمشق لم يكد يصل إلى السيدة عائشة بالحجاز حتى أوفدت عبد الرحمن بن الحارث يتشفع فيه وفي صحبه، وهي لا تنسى أن أعوان معاوية قتلوا أخاها محمدًا شر قتلة، ولا يخفى عليها غلو حجر وأصحابه في حب علي وشيعته، وبينها وبين العلويين من الجفوة ما هو معلوم.
وفي رثاء حجر تقول هند بنت زيد الأنصارية:
ومعذرة معاوية هذه خليقة أن تدعونا إلى تصديق الوصية، التي أوصاه بها أبوه حين سافر إلى الشام، فقد يستكثر على معاوية أن يؤمر بمراجعة أبيه في كل كبيرة وصغيرة قبل أن يحدث بينه وبين أحد أمرًا في خصومة أو قطيعة، وقد يستكثر عليه أن يصفعه صافع، فلا يقتص لنفسه حتى يسأل أباه ويترقب الجواب منه، فإذا كان الرجل يرتضي من معاذيره أن يقوده ابن سمية فينقاد؛ لأنه لم يجد حوله رجلًا رشيدًا، فليس بالكثير أن يؤمر بمراجعة أبيه في شتم شاتم وضرب ضارب، وهو في مقتبل الشباب قبل الولاية وقبل الخلافة.
ولسنا نفهم من ذلك أن معاوية كان في حكم القاصر في شبابه وكهولته، ولكننا نفهم أن أباه كان يعرفه، وكان يعرف أنه لا يحتكم إلى طبيعة تغضب من الأمور بمقاديرها.
حدَّث صاحب العقد الفريد في الجزء الأول عن أبي حاتم عن العتبي قال: «قدم معاوية من الشام وعمرو بن العاص من مصر على عمر بن الخطاب، فأقعدهما بين يديه وجعل يسائلهما عن أعمالهما إلى أن اعترض عمرو في حديث معاوية، فقال له معاوية: أعملي تعيب وإليَّ تقصد؟! هلم تخبر أمير المؤمنين عن عملي وأخبره عن عملك، قال عمرو: فعلمت أنه بعملي أبصر مني بعمله، وأن عمر لا يدع أول هذا الحديث حتى يصير إلى آخره، فأردت أن أفعل شيئًا أشغل به عمر عن ذلك، فرفعت يدي فلطمت معاوية، فقال معاوية: إن أبي أمرني ألا أقضي أمرًا دونه، فأرسل عمر إلى أبي سفيان، فلما أتاه ألقى له وسادة، وقال: قال رسول الله ﷺ: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه، ثم قص عليه ما جرى بين عمرو ومعاوية، فقال: لهذا بعثت إليَّ؟ أخوه وابن عمه، وقد أتى غير كبير، وقد وهبت ذلك له.»
وصاحب العقد — على هواه الأموي — يسوق هذه القصة في سياق الثناء، ولسنا نفهم من ذلك أن أباه كان يعرف، وكان يُعرف أنه لا يحتكم إلى طبيعة تغضب من الأمور بمقاديرها، وأنه إذا غضب يتغاضب بالرأي والاختيار فيخطئه التقدير.
وموقفه مع حجر وأصحابه ظاهرة نفسية معهودة في الطبائع التي تُصدَم، فتقبل الصدمة وتحذر من الاندفاع، ولكنها إذا تركت بلا صدمة تردها لم تعرف حدود الارتداد، ولا تأبى أن تستسلم للاندفاع.
تلك الظاهرة من مورثات طبيعة المطاردة في الإنسان وفي الحيوان أو السبع من قبله … فقد علم المراقبون لطبائع الحيوان أن المطاردة عنده تقوم على حركات متتابعة، ولا تقوم على حركة واحدة، فإذا لمح الحيوان من خصمه أنه يجفل منه أخذ في الهجوم، وإذا عدا خصمه أمامه أخذ في العدو وراءه، وإذا أدركه ولم يجد منه مقاومة تمادى في صرعه وافتراسه، ولعله لو وقف أمامه رابط الجأش من مبدأ الأمر لم تتنبه فيه حركة الهجوم، فحركة المطاردة، فحركة اللحاق والافتراس، وعرف صادة الأسود — وهي أخطر السباع — أنها تتردد إذا واجهها الإنسان ثابت النظر، راسخ القدمين.
•••
وقد دخل حجر على معاوية، ومعاوية ينتظر منه صدمة يتبعها حذر فانتباه لواجب الحلم والأناة، فلما دخل حجر محييًّا له بالإمارة وزال الحاجز الأول؛ زالت معه الحواجز الأخريات، ولم يعلم الرجل أين يكون الوقوف …
ونظن أن هذه الخليقة قد أوشكت أن تبرز في طوية معاوية من وعيه الباطن إلى وعيه الظاهر، ومن ذاك قوله: «إذا شد الناس شعرة أرخيتها، وإذا أرخوها شددتها.» أو قوله: «إذا طرتم وقعنا، وإذا وقعتم طرنا.» أو قوله لزياد: «كن أنت للشدة ولأكن أنا للين.»
فهو يتلقى وحي طبيعته من الصدمة التي تلقاه، فإن لم تكن صدمة فهناك الحيرة التي لا تخرجه منها طبيعة تلوذ بالغضب على قدرة، فلا تقف حيث ينبغي لها الوقوف، ولو كان للغضب عنده أثره المطبوع لانتظر الناس حلمه حيث يغضبون، وانتظروا غضبه حيث يحلمون، وكثير من أمثال هذه الخليقة تلقاه بيننا كل يوم، فيقول القائل عن الرجل من أصحابها لو أنك شددت عليه لأرضاك وحمدت أثر الشدة عليه!
ويستدعينا ختام هذا الفصل تفرقة أخرى كالتفرقة بين الحلم وامتناع الغضب، وهي التفرقة بين الطموح إلى الزعامة والصولة، والطموح إلى الشرف الاجتماعي والوجاهة السياسية.
فالطموح إلى الزعامة والصولة مزاج حيوي يدخل في تركيب البنية، ويدفع صاحبه كما تدفعه وظائف الجسد، فلا يستريح أو يقود الأمم قيادة الزعامة، ويصول بعظمة الرئاسة والعلو على الأقران والأتباع.
والطموح إلى الشرف الاجتماعي تقليد من تقاليد المجتمع يحرص عليه من توارثوه حرصهم على الحطام، وبسطة العيش ووجاهة الأسرة والبيت، ويغلب عليه أن يكون تراثًا متخلفًا من الآباء للأبناء يغض من الأبناء أن يتخلوا عنه، ويروا غيرهم في مكانه.
ولا يلزم من الطموح إلى الشرف الاجتماعي أن يكون صاحبه مطبوعًا على الصولة والعلو، وطلب الطاعة والخضوع، وقد يلجأ صاحبه إلى المداورة واللين والخضوع لهذا والمصانعة لذاك؛ ليحتفظ بالتراث الذي صار إليه أو يرجو أن يصير إليه.
•••
ونحن في قرانا نشهد المثال على كل من النموذجين في كل قرية وكل إقليم، فبينا يستميت «بيت العمدة» في استبقاء وجاهته، ويلين من أجل ذلك للحاكم وصاحب الأمر وأعوانه على المكانة الموروثة، ينهض رجل آخر مطبوع على الأنفة والصولة، فيستطيل على تلك المكانة، وينازع في تلك الوجاهة، ولا يستريح إلا إذا أمر وتحدى وملك زمام العزة بالمقال والفعال …
وبنو أمية عامة، ومعاوية خاصة من أصحاب «المظهر الاجتماعي»، وليس فيهم غير القليل النادر من أصحاب الطموح إلى الزعامة والصولة، كما تكون في بنية المزاج وتركيب الخلق والجسد، وقد صبر معاوية على ألوان من الخضوع في طلب وجاهته السياسية لا يصبر عليها كثير من عامة الناس؛ لأنه يطلب تلك الوجاهة بتقليد وراثي، ولا يطلبها بنزعة غلابة في الطبيعة والتكوين.
واحتاج أن يقول مرة كما جاء في الطبري مسندًا إلى سعيد بن سويد: «ما قاتلتكم لتصوموا، ولا لتصلوا ولا لتحجوا ولا لتزكوا، قد عرفت أنكم تفعلون ذلك، ولكن إنما قاتلتكم لأتأمَّر عليكم.»
وهي قولة لم يقلها أحد غيره من المطبوعين على الصولة والزعامة؛ لأنهم لا يحتاجون إليها؛ ولكنه قالها لأنها جثمت على صدره لطول ما صبر على مجابهة هذا ومصانعة ذاك، وتذكير المذكرين إياه أنه لم يملكهم عنوة ولا فتحًا، بل ملكهم المشارطة والاتفاق … فنفَّس عن صدره بتلك الكلمة، ولم يحدث من غيره أنه شعر بالحاجة إلى تنفيس كذلك التنفيس.
•••
كان حلمه امتناع غضب، وكانت همته تقليد وراثة وحلية وجاهة … وقد قال مرة أو مرات: «إن السلطان يغضب غضب الصبي ويأخذ أخذ الأسد …»
ولكنه حين غضب غضبته الآبدة في مقتل حجر وصحبه لم يغضب غضب الصبي وحسب، بل التمس العذر، مجفلًا من غضبته، فلم يفتح عليه بغير عذر الصبي بين يدي الفقيه.