موقف معاوية من قضية عثمان
كل خبر من أخبار العصر لازم مطلوب لفهم تاريخه وأعمال رجاله، ولكن الأخبار المقدمة على غيرها في حوادث العالم الإسلامي التي أفضت إلى قيام الخلافة الأموية، إنما هي الأخبار التي لها مساس بموقف معاوية من عثمان قبل مقتله وبعد مقتله، والمبايعة لعلي بالخلافة في الحجاز.
فبغير هذه الأخبار التي تكشف عن موقف معاوية لا يستطيع المؤرخ أن يتثبت من حقيقة البواعث التي كمنت وراء الحوادث والحروب والخصومات، ولا يستطيع أن يعرف ما هو صحيح منها، وما هو مصطنع من تدبير السواس والدعاة.
فما هي حقيقة المسائل التي أثارت معاوية على علي، وجنحت به إلى سلوك المسلك الذي اختاره هو ومعاونوه؟ ماذا منها قد حدث فعلًا، وماذا منها لم يحدث، وقيل: إنه حدث للانتفاع به في الدعاء ورد الادعاء … وفي الاتهام ورد الاتهام؟ أو ماذا منها قد حدث فعلًا وحرفه الدعاة إلى غير وجهته وأولوه بغير معناه؟ وماذا من تلك الحوادث جميعًا كان خليقًا أن يتغير لو تغير الموقف، وتغيرت النيات والمساعي؟
كل أولئك مرهون بالنفاذ إلى حقيقة موقف معاوية من عثمان قبل مقتله، وبعد مقتله، ومبايعة علي بالحجاز.
وكل ما وصل إلينا من أخبار ذلك الموقف يدل على شيء واحد لا محل فيه للخلاف الطويل بين الناظرين إليه من الوجهة التاريخية الخالصة، وهو عمل معاوية لنفسه في كل مطلب طلبه من عثمان، وكل نصيحة أسداها إليه، وكل مشورة أشار بها عليه، فليس في هذه المطالب والنصائح أو المشورات شيء قط تجرد من منفعة ينظر إليها معاوية في حاضره أو مصيره، وكل ما عدا ذلك فقد يكثر فيه الخلاف، ويؤول فيه التأويل.
كان معاوية في عهد الفاروق قانعًا بعطائه السنوي وهو ألف دينار، وكان الولاة والرعية لا يشكون إجحافًا ولا محاباة فيما يرجع على أرزاق العمال الكبار والصغار ومنهم الولاة، فلما انقضى عهد الفاروق كثرت الشكوى من تقسيم هذه الأرزاق، ومن إيثار بعض الولاة بالولايات لقرابتهم من الخليفة، وكانت هذه الشكوى إحدى الدعايات التي تذرع بها المشاغبون للثورة التي تفاقمت حتى ذهبت بحياة عثمان.
•••
ولم يكن معاوية يجهل هذه النقمة الفاشية في الولايات، ولكنه على ذلك كتب إلى عثمان يطلب زيادة عطائه، ويطلب غير ذلك أن يقطعه الأرض التي قتل أصحابها من الروم أو تركوها، وهاجروا إلى بلاد غير البلاد المفتوحة من أرض الدولة البيزنطية، وتعلل له بكثرة وفود الأمصار والرسل، وأن هذه الضياع المتروكة لا يؤخذ عليها الخراج، ولا تحسب من أموال أهل الذمة كما جاء في تاريخ ابن عساكر، وكانت هذه الضياع وأمثالها تُلحَق ببيت المال، ويُنفَق منها على المصالح العامة ومعونة المعوزين وذوي الحاجات، فلما أذن له عثمان بزرعها والانتفاع بثمراتها؛ حبسها على نفسه وعلى آل بيته وخدامه وأعوانه في سياسته، وعمد إلى كل معترض عليه وعلى إنفاقه لهذه الأموال في غير وجوهها، فأقصاه عن الشام وأرسله إلى حيث يشاء من البلاد الإسلامية الأخرى لا يعنيه أن يصنع الشاغبون ما يصنعون في غير ولايته، وهو يعلم أنهم سيشغبون على عثمان حيث ذهبوا، وأن عثمان يلقى من الفتنة ما هو حسبه في جواره.
ولما خرج الشاغبون بالفتنة من الكوفة إلى الشام بأمر عثمان كتب عثمان إلى معاوية، كما جاء في ابن الأثير: «إن نفرًا قد خُلِقوا للفتنة؛ فأقم عليهم وانههم، فإن آنست منهم رشدًا فأقبل، وإن أعيوك فارددهم علي.»
فلقيهم معاوية وزجرهم وأغلظ لهم، ثم أتاهم بعد ذلك؛ فقال لهم: «إني قد أذنت لكم فاذهبوا حيث شئتم لا ينفع الله بكم أحدًا ولا يضره، ولا أنتم برجال منفعة ولا مضرة، فإن أردتم النجاة فالزموا جماعتكم ولا يبطرنكم الإنعام، فإن البطر لا يعتري الخيار، اذهبوا إلى حيث شئتم فسأكتب إلى أمير المؤمنين فيكم.»
وكتب إلى أمير المؤمنين يهوِّن له من شأنهم ويقول عنهم: إنهم «ليسوا لأكثر من شغب ونكير.»
وعلى اختلاف الروايات في تنقل هذه الفئة بين الكوفة والشام، وفيما قالوه وقيل لهم، لم يتغير موقف معاوية في جميع هذه الروايات، وهو موقف الرجل الذي لا يبالي بعد أمانه على ولايته أن تنجم الفتنة حيث نجمت، وأن يبتلى بها الخليفة بنجوة منه.
وقد تفاقم الخطب ونظر الخليفة المحصور حوله يطلب الرأي من ذوي الرأي بين خاصته وخاصة المسلمين، واجتمع عنده رهط منهم يومًا أشاروا عليه بما بدا لهم، ثم خرجوا فأمسك عثمان بابن عباس، فقال له: يا بن عمي ويا بن خالتي، إنه لم يبلغني عنك في أمري شيء أحبه ولا أكرهه، وقد علمت أنك رأيت بعض ما رأى الناس، فمنعك عقلك وحلمك من أن تظهر ما أظهروا، وقد أحببت أن تعلمني رأيك فيما بيني وبينك، فأعتذر … قال ابن عباس: يا أمير المؤمنين، إنك قد ابتليتني بعد العافية، وأدخلتني في الضيق بعد السعة، ووالله إن رأيي لك رأي من يجل سنك ويعرف قدرك وسابقتك، ووالله لوددت أنك لم تفعل ما فعلت مما ترك الخليفتان قبلك، فإن كان شيئًا تركاه؛ لأنه ليس لهما، علمت أنه ليس لك كما لم يكن لهما، وإن كان ذلك لهما فتركاه خيفة أن ينال منهما مثل الذي نيل منك، تركته لما تركاه له، ولم يكونا أحق بإكرام أنفسهما منك بإكرام نفسك.
قال عثمان: فما منعك أن تشير عليَّ بهذا قبل أن أفعل ما فعلت؟ … قال ابن عباس: وما علمي أنك تفعل ذلك قبل أن تفعله؟ … قال: فهب لي صمتًا حتى ترى رأيي.
وخرج ابن عباس وبقي معاوية فسأله عثمان، فأجاب كما جاء في الإمامة والسياسة: «الرأي أن تأذن لي بضرب أعناق هؤلاء القوم، قال: من؟ قال: علي وطلحة والزبير … قال عثمان: سبحان الله! … أقتل أصحاب رسول الله بلا حدث أحدثوه ولا ذنب ركبوه؟! قال معاوية: فإن لم تقتلهم فإنهم سيقتلونك … قال عثمان: لا أكون أول من خلف رسول الله في أمته بإهراق الدماء.
قال معاوية: فاختر مني إحدى ثلاث خصال!
قال عثمان: ما هي؟
قال عثمان: أرزقهم من أين؟
قال: من بيت المال.
قال عثمان: أرزق أربعة آلاف من الجنود من بيت مال المسلمين لحرز دمي؟ لا فعلت هذا.
قال: فثانية.
قال: وما هي؟
قال عثمان: سبحان الله! … شيوخ المهاجرين وكبار أصحاب رسول الله وبقية الشورى، أخرجهم من ديارهم وأفرق بينهم وبين أهليهم وأبنائهم؟! لا أفعل هذا …
قال معاوية: فثالثة!
قال: وما هي؟
قال: اجعل لي الطلب بدمك إن قتلت.
هذه رواية الإمامة والسياسة، وفي سائر الروايات أن معاوية قال له غير ذلك: اخرج معي إلى الشام قبل أن يهجم عليك ما لا تطيقه، قال: لا أبتغي بجوار رسول الله بدلًا.
•••
تلك جملة الآراء التي أشار بها معاوية على الخليفة، وما من رأي منها إلا والنفع فيه ثابت لمعاوية غير ثابت لعثمان، وربما كان في معظمها ما يضره ولا يجديه.
فليس قتل علي وطلحة والزبير بالأمر الهين الذي يدفع الشر عن الخليفة، وليس هو بالخطة التي يختارها معاوية لنفسه لو كان في موضع عثمان، وقد أعفى معاوية نفسه من التضييق على صعصعة ورهطه، كما ضيق عليهم عبد الرحمن بن خالد، فليس من خطته التي يختارها لنفسه، ويحمل تبعتها على عاتقه أن يقتل ثلاثة من أقطاب الصحابة كعلي وطلحة والزبير، كما أشار على عثمان، وإنما يبوء عثمان تبعتها ويترك الأمر من بعده لمعاوية بغير منافس ينافسه عليها، بعد مقتل الثلاثة الذين كانوا مرشحين لها عند أهل الحجاز وأهل الكوفة وأهل مصر، أما أهل الشام فهم في ولايته لا يعرفون أحدًا غيره ينافسه باسمهم عند اختلاف المختلفين، وليس ثمة مختلفون إذا نفذ القضاء في الأقطاب المقتولين.
وأما الإشارة على عثمان بإقامة أربعة آلاف من خيل الشام يحرسونه، فهو تسليم للحجاز إلى يدي معاوية في حياة الخليفة وبعد حياته، فلا يقدر أحد على بيعة فيه غير البيعة التي يرضاها، ولا تقع هذه البيعة أصلًا لمن يستجيب لها أو لا يستجيب.
والخروج من المدينة إلى الشام مع معاوية ينقل العاصمة إلى دمشق، ويجعل القول الفصل بعد موت الخليفة لصاحب القول الفصل فيها، وما من أحد قط ينتفع من العمل بهذه النصائح غير معاوية في جميع الحالات.
•••
وقد نقل الرواة والمؤرخون عن كل ناصح أنه أشار على عثمان بترك خطة من خططه في السياسة العامة، ولم ينقل مثل ذلك عن معاوية في جليل من الأمر ولا يسير، ولم يقف مثل موقفه غير مروان بن الحكم الذي لا يملك أن ينهى عثمان عن شيء؛ لأنه كان سبب الشكوى وصاحب التبعات جميعًا في كل مأخذ من مآخذ الثوار على العهد كله والسياسة بجملتها، فإذا كان سكوت مروان عن النصح بالتغيير مفهومًا متوقعًا فمثل هذا السكوت من معاوية لا يفهم إلا على وجه واحد، وهو أنه يعفي نفسه من تبعة النصيحة ليملي للخليفة فيما يرضاه، ويعلم أن التغيير النافع يصيبه في مقدمة الولاة المحسوبين على العهد كله، وقد كان يتعهد للخليفة بكفايته أمر الشام ويسأله أن يفرض على الولاة الآخرين مثل ذلك اليوم … فإن لم يقدروا مثل قدرته كان حقًّا له أن يخلفهم أو ينفض يديه من العمل والمشورة.
وأثبت ما ثبت من منفعة معاوية بتلك المطالب التي عرضها على الخليفة في شدته — مطلبه أن تكون له ولاية الدم بعد مقتله، فإنه بمثابة ولاية العهد بإذن صاحب الأمر، إذ كان القصاص إنما يتولاه القائم بالشريعة حيث تقام حدود الدين، ولم يكن عثمان ليخشى عليه القتل من فرد يعتدي عليه غيلة فيكون عمل ولي الدم أن يقتاده إلى الحاكم القائم بالشريعة، ولكنه خشي عليه القتل من جماعات ثائرة لا يتولى إدانتها والقصاص منها غير صاحب سلطان أقوى من سلطانها، وسلطان من تؤيده وتطيعه على شرطها، فإذا كان معاوية قد طلب ولاية الدم بعد مقتل عثمان؛ فقد طلب ولاية العهد وفارقه وهو يعلم أنه مقتول.
•••
وأيًّا كان القول في السروات الآخرين، فواجب معاوية واضح لا لبس فيه، وليس مما يقيله من هذا الواجب أن الخليفة أبى عليه إقامة جيش دائم إلى جواره يرزقه من بيت المال، فإن عمل الجيش الدائم غير عمل النجدة العاجلة، ولا يلام والي الشام على نجدة عاجلة بعد أن طلب الخليفة النجدة من الولاة، ولو أنه كان يلام على ذلك، لكان اللوم أهون عليه من ترك الخليفة لقاتليه يسفكون دمه، وهو معتذر بأمر صدر إليه في حال غير هذه الحال.
لقد كان ذوو الجرأة من المعارضين لعثمان يلقون معاوية بهذا اللوم، كلما أخذهم باللوم؛ لأنهم لم ينصروه، ومن هؤلاء أبو الطفيل عامر بن وائلة الصحابي كما جاء في تاريخ الخلفاء للسيوطي:
قال له معاوية: ألست من قتلة عثمان؟ قال أبو الطفيل: لا … ولكنني ممن حضره فلم ينصره.
قال: وما منعك من نصره؟
قال: لم تنصره المهاجرون والأنصار.
فقال معاوية: أما لقد كان حقه واجبًا عليهم أن ينصروه.
فقال أبو الطفيل: فما منعك يا أمير المؤمنين من نصره ومعك أهل الشام؟
فقال معاوية: أما طلبي بدمه نصرة له؟
فضحك أبو الطفيل ثم قال: أنت وعثمان كما قال الشاعر:
ووقعت الواقعة ومات الخليفة قتيلًا، وذهب معاوية يطالب بدمه وينكر على عليٍّ بيعته؛ لأنه لا يسلمه قتلة عثمان، ممن يذكرهم إجمالًا أو يسمِّيهم بأسمائهم، وآل الأمر كله بعد حين إلى معاوية يصنع بهؤلاء ما يشاء، فلم يأخذ واحدًا منهم بجريرة مشهودة ولم يحاسب أحدًا على جريرة مستورة تتطلب الإشهاد، وكان يلقى الرجل منهم فلا يزيد على أن يسأله كما سأل أبا الطفيل: ألست من قتلة عثمان؟ ثم يصرفه في أمان، وقد يسكت عن سؤاله ويصرفه مزودًا بالعطاء.
•••
ولم يخفَ هذا الموقف الذي لا خفاء به على أبناء عثمان وبناته، فإنهم كانوا يرون معاوية فيلقونه بالبكاء ويذكرون أباهم؛ ليذكروه بدمه المطلول ووعده بالثأر له، ثم سكوته عن الثأر بعد أن أمكنه منه ما لم يكن في إمكان أحد من المطلوبين به في رأيه.
فالمطالبة بدم بعثمان إنما كانت قضية قائمة حين كانت لازمة للتحريض على علي وبث الدعوة والتمكين لمعاوية، فلما تمكن واستطاع ما لم يكن في وسع عليٍّ أن يفعله سكت عن الثأر وحديثه، إلا ما كان من قبيل الحوار العقيم في المجالس، وقبل من نفسه العذر ضعيفًا هزيلًا، ولم يكن يقبله قويًّا معززًا بالواقع والبينة ممن لا لوم عليه.
•••
ذلك أيسر ما يقال عن حقيقة الموقف من قضية عثمان ومطالبة معاوية بدمه، وكل ما فعله معاوية من نصرة عثمان قبل مقتله وبعده، فهو ثابت النفع لمعاوية غير ثابت النفع لعثمان، ولا نجري وراء النيات وإن كان للمؤرخ حق في النظر إليها قد يحمد منه حيث لا يحمد من القضاء، فإن المؤرخ مطالب بتقويم أقدار الرجال، وتفسير أسرار الحوادث والتعريف بالأخلاق والضمائر، ولا ضر من استقصائه لما وراء الظواهر والدعوات، بل الضرر كل الضرر أن يأخذ بالظواهر والدعوات دون استقصاء.
وقضاء التاريخ في موقف معاوية من عثمان أنه موقف يسقط كثيرًا من التهم التي كان يكيلها لخصومه، ويسقط كثيرًا من الأعذار التي كان ينتحلها لنفسه، ويوجب على المؤرخ أن ينفذ من وراء التهم والمعاذير إلى تفسير واحد لوقائع الثورة التي ثارها معاوية باسم عثمان، فإن أصدق البواعث لها أنها ثورة في طلب الملك أعوزتها الحجة، فالتمستها من مقتل الخليفة الشهيد.