النشأة والتكوين
ولد معاوية لأبوين عريقين قويين، أخبارهما عندنا قليلة متقطعة، ولكنها من نوع الأخبار التي تدل باللمحة العارضة، ويغني القليل منها عن الكثير في وصف الطبائع والأخلاق، فنعرف منها أي رجل وأي امرأة كان أبواه من الرجال والنساء.
من أنباء الجاهلية عن النساء أن هند بنت عتبة أم معاوية كانت من نساء الأسر التي تعودت أن تستشير بناتها في أمر زواجهن، وقد خطبها اثنان، فقال لها أبوها: «أما أحدهما ففي ثروة وسعة من العيش؛ إن تابعته تابعك، وإن ملت عنه حط إليك، تحكمين عليه في أهله وماله.
ونعلم من كلام هند هنا أنها امرأة قوية الأنوثة يرضيها أن تكون زوجة لرجل جدير بالمهابة والطاعة، ولا يرضيها أن يكون زوجها لعبة في يديها مطواعًا لأمرها.
ولم يرد في أخبار هند خبر غير هذا إلا كان فيه إبانة عن جانب من جوانب هذه الأنوثة القوية، ربما بلغ في بعض أحوالها مبلغ الوحشية، ولكنه على هذا يظل وحشية أنثوية تشاهد من ضراوة الإنسان، كما تشاهد من ضراوة الحيوان.
•••
ولم تنسَ هند حزنها على رجالها في حضرة النبي عليه السلام؛ إذ جاءته مع غيرها من النساء يأخذ عليهن عهد البيعة.
قال صلوات الله عليه: تبايعنني على ألا تشركن بالله شيئًا، ولا تسرقن … إلى أن قال: ولا تزنين.
قالت: يا رسول الله … هل تزني الحرة؟
ثم قال: ولا تقتلن أولادكن.
فقالت: أما الأولاد فقد ربيناهم صغارًا وقتلتهم يوم بدر كبارًا، فأنت بهم أعلم.
وإن سؤالها: «هل تزني الحرة؟» لَمِنْ تلك الأخبار التي قلنا: إنها تدل باللمحة العارضة، ويغني القليل منها عن الكثير.
إنه سؤال يدل على الأنفة من الزنى؛ لأنها كرامة جاه، ولأن الزنى خلة من خلال الإماء والسبايا، لا تعهد في الحرائر الكريمات، فالأنفة من الضعة هنا أكبر من الإعراض عن الرذيلة، وقصتها مع زوجها — إهانتها بتهمة الزنى — لا تقبل عندها الغفران ولا تقنعها البراءة منها، وإن شهد بها من تقبل شهادته في الجاهلية، ولا يطلبون على البراءة حجة أقوى عندهم من تلك الشهادة.
وقصة الكاهن هنا تسقط بحذافيرها، ويبقى من خبر هند مع زوجها أنه اتهمها، فأنفت أن تعود إليه بعد أن أراد هو أن يعيدها؛ لأنها تغضب لكرامتها أن تعيش مع رجل ينزلها دون منزلتها من حرائر النساء.
وينقل عنها في أسانيد متعددة أنها بشرت بسيادة معاوية على قومه، فقالت: ثكلته إن لم يسد إلا قومه.
•••
قال الشافعي فيما رواه الطبري: «قال أبو هريرة: رأيت هندًا بمكة كأن وجهها فلقة قمر، وخلفها من عجيزتها مثل الرجل الجالس، ومعها صبي يلعب، فمرَّ رجل فنظر إليه فقال: إني لأرى غلامًا إن عاش ليسودن قومه، فقالت هندٌ: إن لم يَسُدْ إلا قومه فأماته الله … وقال محمد بن سعد: أنبأنا علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف، قال: نظر أبو سفيان يومًا إلى معاوية وهو غلام، فقال لهندٍ: إن ابني هذا لعظيم الرأس، وإنه لخليق أن يسود قومه، فقالت هند: قومه فقط؟ ثكلته إن لم يسد العرب قاطبة … فلما ولى عمر يزيد بن أبي سفيان ما ولاه من أمر الشام، خرج إليه معاوية، فقال أبو سفيان لهند: كيف رأيت؟ صار ابنك تابعًا لابني … فقالت: إن اضطربت خيل العرب فستعلم أين يقع ابنك …»
وربما تناثرت الأخبار في كتب الأدب والتاريخ بغير هذه الأحاديث عن هند بنت عتبة زوج أبي سفيان وأم معاوية، ولا حاجة إلى نقلها أو تلخيصها جميعًا؛ لأنها تتفق في صفة هند بالوسامة والجسامة والاعتداد بالنفس والحسب، وإنما توافق ما نسميه اليوم «بالشخصية» الملحوظة بين ذويها وقومها، وليست من عداد الزوجات والأمهات المنسيات في الغمار، كما كان سائر النساء في بيئتها.
والقصة التي بدأنا بها هذا الفصل تبدي لنا أبا سفيان في حياته البيتية على صورة لم تذكر في قصة أخرى، فنعلم أنه سيد بيته، كما كان سيد عشيرته «وأنه شديد الغيرة لا يرفع عصاه عن أهله.»
وبقية القصة الأخرى تبدي لنا أبا سفيان في صورة من صور الحياة البيتية، يقول من شاء: إنها حياة تقدير، ويقول من شاء: إنها حياة تقتير.
وكان أبو سفيان شاهدًا، فقال: أما ما أصبت منه فيما مضى فأنت منه في حل، أما كلام عتبة — في غير ما تقدم من صفات أبي سفيان — فهو من المشهور المتردد في أنباء الجاهلية والإسلام، فقد كان سيدًا «موسعًا عليه، منظورًا إليه في الحسب الحسيب والرأي الأريب، مِدْره أرومته وعز عشيرته …» كما قال عتبة في تخييره لبنته بين الرجلين.
•••
فمعاوية إذن ينتمي إلى أبوين قويين في عشيرة قوية، ولعله ورث من جانب أمه أكثر مما ورث من جانب أبيه؛ فهو أشبه بها في تكوين جسمه، وأشبه بها في وسامة ملامحه، وأشبه بأصولها المعروفة في خلق الأناة وبطء الغضب، وإيثار المطاولة والمراوغة على المعارك والحروب.
فأبوها عتبة كان قائد قريش في وقعة بدر، وكان رأيه الذي أصرَّ عليه، ولم يثنه عنه غير إجماع مخالفيه أن تنصرف قريش من غير قتال، وأن يتركوا كل رجل منهم ومن المسلمين يرجع إلى عشيرته، وينظروا ما عسى أن يكون من شأنهم جميعًا بعد ذلك.
وقد يرى بعض الناظرين في الوراثة أن المرأة التي اشتهرت باسم «آكلة الأكباد» لم ترث الأناة وبطء الغضب من أبيها، ولم تورث ابنها هذه الخليقة فيما أورثته من خلائقها.
وإنه لرأي فيه نظر، أو هو جدير بالنظر، فإن هذه الضراوة ليست من تلك الأناة …
ولكننا حريون أن نذكر أن «الغيظ» غير الغضب في دخيلته وفي مدَّته وأجله …
فقد يشتهر الإنسان بأنه من أهل «الغيظ» ولا يشتهر بأنه من أهل الغضب، وقد يزول الغضب لساعته، ويبقى الغيظ سنوات في طوية صاحبه.
هذا فيما ينطوي عليه الشعوران.
وغير هذا أن لوعة المرأة على رجالها تخالف لوعة الرجل على أقرانه، وأن شفاء الغل بأكل كبد القتيل جماح أنثوي لا يضارعه جماح مثله في الرجال، فلعلها في طول الأناة كأبيها أو كابنها، ولكنها في مثل هذه اللوعة لا تشبه هذا ولا ذاك، ولا يشبهها هذا ولا ذاك.
•••
ويجوز مع هذا كله أن يكون معاوية وارثًا بعض الخلق من جده لأمه وغير وارث هذا الخلق منها؛ لأن الوراثة قد تنقطع بين الجنسين، فتكون الخليقة الموروثة في الجدود ولا تكون في الأمهات.
أما الوراثة التي لا شك فيها، فهي وراثة تكوينه الجسدي من أمه، وهي وراثة طالما أشار إليها معاصروه وذكروا فيها اسم أمه، ولم يذكروا اسم أبيه، وقد ترهل من فرط الجسامة في كهولته، ولم يكن لأحد من السفيانيين مثل هذا الترهل في الكهولة أو الشباب.
وعلاقة هذا التكوين بأخلاقه وأعماله تتضح من سياسته كلها في أيام الخلافة وأيام الولاية من قبلها، فإذا صدق عليها وصف غالب عليها، فوصف السياسة «الجالسة» التي تدير وتدبر وتترك المساعي والزحوف للعاملين المأمورين.
وروى الطبري بإسناده عن ابن عمرو أنه قال: «ما رأيت أحدًا أسود من معاوية.» وسئل: ولا عمر؟ فقال: «كان عمر خيرًا منه، وكان معاوية أسود منه.»
ونقل عن العوام بن حوشب أنه كان يقول: «ما رأيت أحدًا بعد رسول الله ﷺ أسود من معاوية: قيل: ولا أبو بكر؟ فقال: كان أبو بكر وعمر وعثمان خيرًا منه وهو أسود.»
وهذا السؤدد ليس بالغريب من سمات رجل ورث السيادة من أبويه، وناط بها حقه وحق عشيرته في الرئاسة، ودارت مساعيهم وظواهرهم وبواطنهم كلها على هذا السؤدد، وعلى الغيرة عليه جيلًا بعد جيل.
•••
وقدمنا أن هندًا كانت تعافُ الزنى أنفة ولا تعافه ورعًا ونزاهة، ولا نخطئ إذا فهمنا من بعض كلام أبي سفيان أنه كان يتورع عن الكذب بين من يعلم كذبه؛ لأنه يأبى لمروءته أن يصغره أحد لكذبه، وإن لم يعلن ذلك بلسانه، وهكذا قال حين سُئل في بلاد الروم عن النبي — عليه السلام — فإنه سمع سائله يحذره من الكذب، فأنف أن يكذب على مسمع من شهود سكوت!
ومدار الطموح كله في نفس معاوية على هذه الخصلة التي جعلت تراث القوم كله رهينًا بمزاياهم الاجتماعية، وجعلت هذه المزايا كلها رهينة بمظاهر الرئاسة والسيادة.
ونحن نعرف ما تعلمه في صغره مما كان يعلمه في كبره؛ إذ لم تجرِ عادة الرواة والمؤرخين في الجاهلية بالتحدث عن الأطفال الصغار، إلا ما جاء عرضًا في أثناء الكلام عن آبائهم وكبارهم، ولا استثناء في ذلك لأبناء الأسر والبيوتات، ومن ترشحهم أحسابهم لمكان الرئاسة بعد بلوغهم مبلغ الرجال، ولعله لم يكن إهمالًا من الرواة والمؤرخين واستصغارًا لأمر أولئك الأطفال، وإنما كان سكوتًا منهم عن أمر معلوم على وجه التعميم يشترك فيه الناشئة من أبناء البيوتات جميعًا، ولا ينفرد فيه أحد منهم بتعليم خاص لوظيفة خاصة.
وقد تعلم معاوية القراءة والكتابة والحساب، وتتفق الأخبار على كتابته للنبي — عليه السلام — ولا تتفق على كتابته للوحي، ولا على حفظه لآيات من القرآن تلقاها من النبي، كما كان كُتَّاب الوحي يتلقون الآيات لساعتها، والأرجح أنه لم يكن معروفًا بحفظ شيء من كتابة الوحي في أيام جمع القرآن الكريم، ولو علم عثمان — وهو من ذوي قرابته — أن عنده مرجعًا من المراجع يثوب إليه؛ لرجع إليه كما رجع إلى غيره.
•••
وتعليم معاوية فيما عدا ذلك من سماع أشعار العرب وأمثالهم، والإلمام بأخبار أيامهم، كتعليم غيره من علية قومه، إلا أنه كان على شغف خاص بالاستماع إلى سير الملوك، ووقائع الأمم وأطوال الدول الغابرة، وربما قرئت له هذه السير من كتب يونانية أو فارسية يقرؤها له من يعرف لغاتها، وقد سمع بعبيد بن شرية الجرهمي، وعلم أنه يعي تواريخ التبابعة والأكاسرة، فأرسل يستقدمه من صنعاء، وأمره بكتابة ما وعاه من تلك التواريخ، فألف له كتاب «الملوك وأخبار الماضين» … وهو أول كتاب يحدث عن فحواه.
•••
ومن ردوده المحفوظة رده على الإمام علي حين دعاه إلى البيعة يقول فيه: «… لعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك وأنت بريء من دم عثمان، كنت كأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين، ولكنك أغريت بعثمان المهاجرين وخذلت عنه الأنصار، فأطاعك الجاهل وقوي بك الضعيف، وقد أبى أهل الشام إلا قتالك حتى تدفع إليهم قتلة عثمان، فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين، ولعمري ما حجتك عليَّ كحجتك على طلحة والزبير؛ لأنهما بايعاك ولم أبايعك، وما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل العراق؛ لأن أهل العراق أطاعوك ولم يطعك أهل الشام … وأما شرفك في الإسلام وقرابتك من رسول الله ﷺ وموضعك من قريش فلست أدفعه …»
•••
•••
أيها الناس، إن من زرع قد استحصد، وقد طالت عليكم إمرتي حتى مللتكم ومللتموني، وتمنيت فراقكم وتمنيتم فراقي، وإنه لا يأتيكم بعدي إلا من هو شر مني، كما لم يأتكم قبلي إلا من كان خيرًا مني، وإن من أحبَّ لقاء الله أحب الله لقاءه … اللهم إني أحببت لقاءك فأحبب لقائي.
ودخل عليه عمرو بن العاص فرآه يرقص إحدى بناته، وكأنه لمح منه تعجبًا لفعله، فنظر إليه وهو يقول: هذه تفاحة القلب.
وندر بين معاصريه من النابهين من لم تنسب إليه أبيات من الشعر تصح أو لا تصح في النقل والرواية.
وقد نسب إلى الحسن بن علي — رضي الله عنه — أنه عيَّره أبياتًا كتب بها إلى أبيه يحذره من الإسلام، وهي:
والحسن أحق أن يتحرى ما يحفظه وما ينسبه، وما كان معاوية على مبعدة من أبيه فيكتب إليه، ولا كان من دأب معاوية أن ينصح أباه، وقد عاش إلى آخر أيامه يشاوره ولا يبرم أمرًا دونه، وهي — بعد — أبيات ليست من نفس الشعر في صدر الإسلام، ولكنها تشبه المقطوعات التي فاضت بها الكتب الموضوعة في حرب صفين، وتكاد تلقي في روع القارئ أنهم في ذلك العهد لم يفوهوا بسطر من النثر إلا ومعه سطر منظوم.
ومن قبيل هذه الأبيات أبياته التي قيل: إنه بعث بها إلى ابن الزبير مع رسالة يدعوه فيها إلى مبايعة يزيد بولاية العهد، وهي:
فليس هذا الشعر من نسق عصره، ولا من عادات رجاله في مقام كهذا المقام، ولكن الأمر الذي يعهد فيهم مع روايتهم للشعر والمثل أنهم يستشهدون بالأبيات في موضعها، ويتأسون بها في موقعها، وكذلك قيل: إن معاوية ذكر أبيات ابن الأطنابة ساعة فراره من المعركة ليلة الهرير؛ فعاوده الثبات وجعل يترنم بها ويسمعه من حوله يعيد منها:
وقيل: إنه تمثل شعرًا وهو يجود بنفسه، فقال:
ثم قال:
وقيل غير ذلك مما لا داعي للشك فيه إذا كان محصوله كله أنه كان يحفظ الأشعار والأمثال، ويستشهد بها في مواطنها على سنة نظرائه من العرب أجمعين.
ولنا — بعد — أن نفهم أنه نشأ في الجاهلية نشأة أبناء الأسر وأصحاب الرئاسة الموروثة، وتعلم ما يتعلمونه، وتدرب على دربتهم التي ألفوها، إلا أنه كان إلى تربية التجارة والتدبير أدنى منه إلى تربية الفروسية والنضال، فلم يؤثر عنه من فعال الفروسية بعد بلوغه مبلغ الرجال فعل يميزه بدربة خاصة على فنونها المعهودة في زمنه كالمسايفة، وإصابة الهدف، والسبق على متون الخيل، والصمود للأقران في المبارزة، ولعل تربيته الفروسية لم تزد على القدر الضروري الذي يعاب الجهل به، ولا يبرز إلى مكان التنويه والتمييز.
وهذا القسط من التربية كافٍ لسروات الجاهلية من العاملين في مثل عمله وعمل أبيه، وهو تدبير التجارة القرشية، وحمل اللواء لحمايتها، والاستعانة بمن يصلحون لحراستها، ويذبون عنها بالسلاح إذا وجب الذب عنها.
أما بعد الإسلام فهذه التربية، أو هذه النشأة، تقترن بسؤال آخر عن نصيبه من فقه الدين والثقافة الإسلامية، ويكاد يدعو الأمر هنا إلى سؤال غير هذا السؤال في أمر الدين من أساسه، فإن أناسًا من الغلاة قد شككوا في إسلامه، بل جزموا بإسلامه على دخلة ومداهنة، فهل كان لهذا الشك من مسوغ في عمله، أو كلامه بعد إسلامه مع أبيه في عام الفتح كما هو معلوم؟
•••
لقد تأخر إسلامه كما تأخر إسلام أبيه، فأسلما معًا في عام الفتح وهو في نحو الثالثة والعشرين، وليس هذا التأخر بموجب للشك في عقيدته؛ لأنه يحدث في كل دين وفي كل دعوة، وينقسم الناس في جميع الدعوات الدينية والفكرية إلى مبادرين ومترددين ومتلبثين متلكئين لا يستجيبون لها إلا مع آخر مستجيب، ولا يندر بعد ذلك أن يكون المتأخر أصدق إيمانًا، وأثبت عقيدة من المبادر المتقدم، وليس من الجائز أن تتخذ العادة المطردة في الاستجابة للدعوات حجة على نقيضها؛ فما كانت الدعوات قط إلا هكذا أو لا تكون.
•••
قال وقد اعتزم لقاء النبي — عليه السلام — ما فحواه: «فلقيت خالدًا فقلت: ما رأيك؟ قد استقام المنسم والرجل نبي، فقال خالد: وأنا أريده، قلت: وأنا معك … وكنت أسن منهما فقدمتهما لأستدبر أمرهما، فبايعا على أن يغفر لهما ما تقدم من ذنوبهما، فأضمرت أن أبايعه على أن يغفر لي ما تقدم وما تأخر، فلمَّا بسط يده قبضت يدي، فقال عليه السلام: ما لك يا عمرو؟! قلت: أبايعك يا رسول الله، على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي، قال: إن الإسلام والهجرة يجبان ما كان قبلهما، فبايعته، ووالله ما ملأت عيني منه ولا راجعته بما أريد حتى لحق ربه؛ حياء مني.»
وقلنا قبل ذلك: «ومن سيرة عمرو بعد إسلامه نعلم أنه كان يتعبد، ويتصدق ويستغفر من ذنوب وقع فيها، ويقيم الصلاة، ويسرد الصوم، ويعيش بين ذويه مسلمًا، وكلهم مسلمون.»
ويقال في معاوية كل ما يقال في عمرو مع اختلاف الطبائع، وبقاء لوازمه أو ملازماته في أعمق أعماق الطوية على غير وعي من صاحبها؛ حيث يستوحيها مع العقيدة في أعماله الظاهرة وسرائره الخفية.
ومن حيل الطبع في العلاقة بينه وبين ربه أنها لا تخرج عن وحي سليقته في العلاقة بينه وبين الناس.
كان حريصًا على أن يبرئ ذمته، ويلقي تبعته بما وسعه من حيلة وحول، وهكذا كان اجتهاده في نفي التبعة عنه بين يدي الله.
انظر مثلًا إلى حيلة طبعه حين أراد أن يبرأ إلى الله من أخذ البيعة بعده لابنه يزيد، قال في إحدى خطبه: «اللهم إن كنت إنما عهدت ليزيد لما رأيت في فضله فبلغه ما أملت وأعنه، وإن كنت إنما حملني حب الوالد لولده، وإنه ليس لما صنعت به أهلًا، فاقبضه قبل أن يبلغ ذلك.»
وكأننا به يسائل نفسه بعد ذلك: «ماذا بقي من التبعة عليَّ في عقابيل هذه البيعة؟ غاية ما أرعى به حق الله في أمر ولدي الذي أحبه أن أسأل له الموت إن كان غير أهل لولاية العهد بعدي، فإن كان الله قد أبقاه ولم يقبضه، فقد صنعت ما يستطيعه والد يظن بينه وبين نفسه أنه قدم حب ولده على رعاية حق الله.»
ومن حيل الطبع في خطبته الأخيرة قوله: «إن من أحبَّ لقاء الله أحبَّ الله لقاءه، اللهم إني أحببت لقاءك فأحبب لقائي.»
حجة مقبولة عند الله؛ مخلوق يحب أن يلقى خالقه، فالله يحب أن يلقاه.
واختلاف طبائع الناس في الدين على غير وعي منهم لا معنى له إلا أنهم يتدينون على حسب طبائعهم، وليس معناه أنهم يناقضون الدين ولا ينطوون في بواطنهم عليه.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال: إن معاوية يعلم من فقه دينه ما لا بد أن يعلمه رجل كتب للنبي، وحضر مجالسه، وحضر عهده كله، وعهد خليفته من بعده، ومرت به الأقضية التي فصل فيها ولاة الأمر على مسمع منه، وراجع الفقهاء من الصحابة فيما أشكل عليه بعد ذلك من أشباه تلك الأقضية، فهو على نشأته الجاهلية والإسلامية لم يقصر في معارف دينه ودنياه عن الطليعة بين نظرائه من السادة الأمويين والقرشيين.