مقدمة المترجم
مؤلف هذا الكتاب الأستاذ الدكتور رودي بارت عالم جليل كرَّس حياته لخدمة علوم العربية وعلوم الإسلام، وصنَّف فيها عددًا كبيرًا من الدراسات العميقة سدَّ بها ركنًا هامًّا في مكتبة الاستشراق. وحسبنا أن نذكر ترجمته للقرآن التي عكف على ترجمتها عشرات السنين، وأخرجها تباعًا بين عام ١٩٦٣م وعام ١٩٦٦م، تلك الترجمة التي تشهد بتبحره في لغة الضاد، وبفهمه الواسع لمعاني الكتاب الكريم. أما أعماله الأخرى فنشير منها إلى كتاب له عن النبي محمد ﷺ، وإلى دراسة الرواية الشعبية المصرية «سيف بن ذي يزن»، وإلى دراسة في قصص الهوى في الأدب العربي القديم، ودراسة في أدب المغازي، وفي الثقافة الإسلامية بالعصر الوسيط، وفي صلة الإسلام بالثقافة الإغريقية.
والكتاب الذي ترجمناه له ونقدمه للقارئ العربي يعرض صورة لتطور الدراسات العربية والدراسات الإسلامية في الجامعات الألمانية منذ منتصف القرن التاسع عشر على وجه التقريب. ولهذا فإننا نستطيع، دون تورُّط في خطأٍ أو مبالغةٍ، أن نعتبره تكملة بطريقة أخرى للدراسة القيمة التي ألفها الأستاذ الدكتور: يوهان فوك بعنوان: «الدراسات العربية في أوروبا (مجموعة دراسات في علوم العربية والسامية وعلوم الإسلام، أخرجها ريشارد هارتمَن وهِلموت شيل)، ثم تناولها من جديد بالزيادة والتوسيع ونشرها في عام ١٩٥٥م في لايبتسج باسْم: «الدراسات العربية في أوروبا منذ البداية إلى مطلع القرن العشرين». على أنه لا ينبغي أن يفوت علينا أن الأستاذ بارت شمل بكتابه مجالًا أوسع، فهو لا يكتفي بالدراسات العربية، بل يضم إليها الدراسات الإسلامية بأفرعها المختلفة.
وقد تعرض المؤلف في أجزاء من الكتاب لموضوع هام هو: مدى تقبُّل أهل الشرق لدراسات المستشرقين. والرأي عنده أن دراسات المستشرقين تقابَل بالشك والريبة، واستشهد بكتاب صغير للدكتور محمد البهي بعنوان: «المبشرون والمستشرقون ومواقفهم من الإسلام». والحقيقة أن الاستشراق ارتبط في بدايته — كما يقرر الأستاذ يوهان فوك في كتابه المشار إليه — بالحركة الصليبية، وأنَّ المستشرقين الأُوَل كانوا يعتبرون عملهم نوعًا من الكفاح ضد الإسلام والعروبة. وكذلك ارتبط الاستشراق في أوقات بعينها — وفي كتاب الأستاذ رودي بارت نفسه أمثلة على ذلك — بالاستعمار. ولهذا فلا ينبغي أن يكون من المستغرب أن يوجد بين المسلمين والعرب اتجاه يقوم على الارتياب والتشكك في نوايا المستشرقين. على أننا لا ننكر الاهتمام الكبير الذي حظي به المستشرقون الذين تتسم أعمالهم بالموضوعية العلمية في الشرق. وليس أدل على ذلك من تلك العبارة التي قدَّر بها الأستاذ الدكتور طه حسين المستشرقين وأعمالهم: «كيف يُتصور أستاذٌ للأدب العربي لا يُلِم بما انتهى إليه الفرنج المستشرقون من النتائج العلمية المختلفة، حين درسوا تاريخ الشرق وآدابه ولغاته؟ وإنما يُلتمَس العلم الآن عند هؤلاء الناس» (من كتاب «الأدب الجاهلي»، انظر مَجلة العربي العدد ١٠٢، ص ١٤٤ و١٤٥ و١٤٦).
أما أعمال المستشرقين في مجال الدراسات الإسلامية، فهي أعمال لها أهميتها الكبرى، ولكن المسلمين ينظرون إليها نظرة تختلف عن الأعمال التي ينشئها العلماء المسلمون، فالإسلام بالنسبة للمسلمين ليس علمًا فحسب، ولكنه قبل كل شيء آخر دين. ولا بدَّ أن نسجل بالإنصاف جهود المستشرقين الجادين غير المغرضين حتى في مجال الدراسات الإسلامية نفسها. ونحيل القارئ مرة ثانية إلى مجلة العربي السابقة الإشارة إليها.
والرأي عندنا أن الأعمال الكبرى لكبار المستشرقين ينبغي أن تُنقل بصفة منتظمة إلى اللغة العربية، حتى يُفيد منها الباحثون. حقيقةٌ أن عددًا من هذه الأعمال قد ترجم ونشر بالفعل، ولكن ما بذل في هذا الميدان من جهد قليل. ويفيد الكتاب الذي نقدمه هنا في التعريف بأعمال المستشرقين الألمان، ونحن بحاجة إلى كتب مماثلة تعرفنا بأعمال المستشرقين في جامعات البلاد الأخرى في شتى بلاد الدنيا.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أسجل شكري للأستاذ الدكتور رودي بارت على تفضله بمراجعة ترجمتي لكتابه، وعلى مقترحاته المتعددة التي أفدت منها.
وبعد انقضاء ما يقرب من نصف قرن على الترجمة التي صدرت في القاهرة في مايو ١٩٦٧م تناولتها هنا بالمراجعة والتصحيح والتجديد في هذه الطبعة الجديدة المتقنة.
القاهرة: ٢٠١٠م