مقدمة المؤلف
في صيف عام ١٩٣٠م أتيحت لي فرصة القيام من جامعة هايدلبرج، حيث كنت مضطلعًا بالدراسات الشرقية، بزيارة تيودور نولدكه (١٨٣٦–١٩٣٠م) في مدينة كارلسروهه القريبة، لزيارة أستاذ الاستشراق الجليل الذي حظي بتقدير عالمي في مادته.
كانت هذه الزيارة خبرة جد مؤثرة في نفس الزائر الذي لم يكن قد بلغ الثلاثين من عمره بعد، والذي لم يكن قد بدأ — إلا منذ قليل — في توسيع أفق علمه وتخصصه، وفي انتهاج طريق علمية مستقلة لإنمائه؛ إذ أوقفته أمام عالم هرِمٍ بلغ من العمر أكثر من ثلاثة أضعاف ما بلغ هو، ومكَّنته من التناقش معه في أمور العلم. كان نولدكه آنذاك، وهو في الرابعة والتسعين، يعاني طبعًا من طائفة من العلل الجسمانية، ولكنه كان من الناحية العقلية نشيطًا يقظًا على نحو يثير الدهشة، وكان يدخل عن طيب خاطر في مناقشة موضوعات خارجة عن ميادين تخصصه واهتمامه ذاتها. وكان يضمر وراء كل كلمة من كلماته ذلك الضرب من صفاء الفكر الإنساني الذي يقنع المستمع إلى عَالِمٍ، بصدقها منذ البداية.
لقد أحسست في هذا اللقاء كأني واحد من طلاب العلم خرج طلبًا للعلم، ليؤدي فروض الاحترام لشيخ ذائع الصيت، وليتصل عن طريقه بتقاليد العلم وتراثه صلة مباشرة شخصية.