بداية الاستشراق
كل مَن يشتغل بالاستشراق، حتى ولو بجزء صغير منه، يحس بالامتنان
لتراث الاستشراق ويعترف بالشكر للجهود العلمية التي بذلها آخرون قبله،
علماء فرادى، أو أجيال كاملة من العلماء. والميدان العلمي، الذي وهب
أمثالنا أنفسهم له، ميدان يختص بعالَم، لا نتصل نحن به بصلة الانتماء،
وما كنا لننفذ إليه، إن لم نكن نحتكم بين أيدينا على مُعِينات معينة
تمكننا من توسيع آفاقنا، ومن إلقاء نظرة إلى ذلك العالم الغريب علينا.
ولو اقتصر أمر الصعوبات في ذلك المسعى على الصعوبات اللغوية، لكَفَت
عائقًا لا يُقهر، إن لم تكن هذه المعِينات بين أيدينا. فنحن بحاجة إلى
كتب في قواعد اللغة وإلى قواميس لنشق بها طريقنا إلى اللغة العربية
واللغة الفارسية واللغة التركية، وهي لغات لم نلم بأدنى طرَف منها في
المدارس. لم تنشأ كتب النحو والقواميس هذه مرة واحدة، بل جاءت ثمرة
جهود مضنية بذلتها الأجيال المتعاقبة. وترتبط بصعوبة تعلم اللغات
المشار إليها صعوبةٌ أخرى؛ إذ ينبغي على طالب هذه اللغات أن يحاول أن
يشق طريقه إلى التعرُّف على العالم الفكري الذي تجسَّم في التعبير
الأدبي لهذه اللغات، وخاصة اللغة العربية، والذي أصبح هذا التعبير
الأدبي سجلًّا له. ولا يمكن أن يتم هذا إلا بالاعتماد على كتب علمية
قام بتأليفها علماء متخصصون سابقون استندوا فيها إلى أعمال مَن سبقوهم.
وهكذا كلما نفذنا إلى المادة وتوغلنا فيها، تبيَّنا بوضوح أكبر، أن كل
عالم من العلماء يبني على أساسٍ مِن نتائج بحوث سلفه، يتبناها تارةً،
وتارةً يُكمِلها ويحسِّنها، وأن النتائج التي نتوصل نحن إليها، نتائج
غير نهائية، بل نتائج تنتظر أن يتجاوزها ما سيقوم به الجيل التالي من
بحث (إن لم يكن الجيل نفسه). أو نوجز فنقول: إنَّ كل شيء في حركة
متصلة؛ كل عالِم يكمل البناء على أساسٍ أرساه آخرون سبقوه. وعلم
الاستشراق — كما هو بين أيدينا اليوم — نتيجة نشاط أجيال عديدة من
العلماء.
ومع ذلك فلا بدَّ أن الاستشراق قد بدأ بوصفه علمًا يومًا ما. فمتى
كان ذلك؟ وما هي القوة الدافعة التي كَمَنَت وراء ذلك؟
إذا نظر المرء إلى الوراء؛ إلى تاريخ تطور الاستشراق، ولم يتردَّد في
التبسيط رغبة في زيادة الوضوح، فإنه يستطيع أن يقول: إن بداية الدراسات
العربية والإسلامية ترجع إلى القرن الثاني عشر. ففي عام ١١٤٣م تمت
ترجمة القرآن، لأول مرة، إلى اللغة اللاتينية بتوجيه من الأب بيتروس
فينيرابيليس رئيس دير كلوني، وكان ذلك على أرض إسبانية. وعلى الأرض
الإسبانية، وفي القرن الثاني عشر أيضًا، نشأ أول قاموس لاتيني عربي.
وفي القرن الثالث عشر والقرن الرابع عشر بذل ريموندس لالوس — المولود
في جزيرة ميورقة — جهودًا كبيرة لإنشاء كراسي لتدريس اللغة العربية،
وكان قد تعلم اللغة العربية على عبدٍ عربي. وكان الهدف من هذه الجهود
في ذلك العصر وفي القرون التالية هو التبشير، وهو إقناع المسلمين
بلغتهم ببطلان الإسلام واجتذابهم إلى الدين المسيحي. ويمكن الاطلاع على
هذا الموضوع بتفصيلاته في الكتاب الكبير الذي وضعه نورمَن دانيِل باسم
«الإسلام والغرب» (١٩٦٠م، الطبعة الثانية ١٩٦٣م).
١ كان موقف الغرب المسيحي في العصر الوسيط من الإسلام هو
موقف الدفع والمشاحنة فحسب. صحيحٌ أن العلماء ورجال اللاهوت في العصر
الوسيط كانوا يتصلون بالمصادر الأولى في تعرُّفهم على الإسلام، وكانوا
يتصلون بها على نطاق كبير، ولكن كل محاولة لتقييم هذه المصادر على نحو
موضوعي نوعًا ما، كانت تصطدم بحكم سابق يتمثل في أن هذا الدين المعادي
للمسيحية لا يمكن أن يكون فيه خير. وهكذا كان الناس لا يولون تصديقهم
إلا تلك المعلومات التي تتفق مع هذا الرأي المتخَذ من قبل، وكانوا
يتلقفون بنهَمٍ كل الأخبار التي تلوح لهم مسيئة إلى النبي العربي وإلى
دين الإسلام.
وعلى هذا الاعتبار تختلف المراحل الأولى للدراسات العربية والإسلامية
اختلافًا جوهريًّا عما نفهمه اليوم — أو على وجه أدق: منذ منتصف القرن
التاسع عشر تقريبًا — من هذين العلمين. فنحن، معشر المستشرقين، عندما
نقوم اليوم بدراسات في العلوم العربية والعلوم الإسلامية لا نقوم بها
قط لكي نبرهن على ضعة العالم العربي الإسلامي، بل على العكس، نحن نبرهن
على تقديرنا الخاص للعالم الذي يمثله الإسلام ومظاهره المختلفة، والذي
عبَّر عنه الأدب العربي كتابة. ونحن بطبيعة الحال لا نأخذ كل شيء ترويه
المصادر على عواهنه دون أن نُعمل فيه النظر، بل نقيم وزنًا فحسب لما
يثبت أمام النقد التاريخي أو يبدو كأنه يثبت أمامه. ونحن في هذا نطبق
على الإسلام وتاريخه، وعلى المؤلفات العربية التي نشتغل بها، المعيار
النقدي نفسه الذي نطبقه على تاريخ الفكر عندنا، وعلى المصادر المدوَّنة
لعالمنا نحن. وإذا كانت إمكانات معرفتنا محدودة — وهل يمكن أن تكون إلا
كذلك؟ — فإننا نؤكد بضمير مطمئن أننا في دراساتنا لا نسعى إلى نوايا
جانبية غير صافية، بل نسعى إلى البحث عن الحقيقة الخالصة. أما الرأي
المضاد لذلك، والذي نشره عالِم الأزهر الأستاذ البهي في كُتيِّبه الذي
صدر أخيرًا باسم «المبشرون والمستشرقون في موقفهم من الإسلام»، فنحيط
به علمًا ونحن هادئو البال (انظر مناقشة هذا الكتيب بقلم محمد يحيى
هاشمي، حلب، في: “Die Welt des Islams”, N. S. 8,
1962-63).