نظرة إلى الوراء ونظرة إلى الأمام
إذا نظر الإنسان نظرة إلى الوراء؛ إلى النشريات الكثيرة التي صدرت في الحقبة الأخيرة باللغة الألمانية في ميدان الدراسات الإسلامية والدراسات العربية، راعَه ضخامة ما أُنجِزَ من عمل وما هو بسبيل الإنجاز. كل دراسة تعتمد على علم متعمق وجهد صُلب وتنطق بحب عظيم للمادة التي تتخذها موضوعًا لها. ويحق للإنسان أن يفرح بما تم، ويخطئ الإنسان إن أخذه الغرور والزهو، والأحرى به أن يتواضع ويفكر في حدود المعرفة البشرية. كل دراسة في هذا الميدان هي في حقيقتها جزء صغير أو ضئيل في كلٍّ كبير، مكانه في البُعد، في المستقبل، ولا سبيل إلى بلوغه، بل إلى الاقتراب منه على أحسن الأحوال إلا بخطًى صغيرة. وينبغي على العالِم أن يعيد النظر في موقفه من حين لآخر ويتمثل ضخامة المادة التي عليه أن يحيط بها والمدوَّنات الثانوية التي زاد حجمها زيادة تجعل من المحال أن يُلِم بها، ويسأل نفسه: ألم يَهْوِ إلى لون من العزلة، وألم توشك دراساته المتخصصة أن تصبح هدفًا لذاتها؟
لا شك أن البحث العلمي العميق وحده هو الذي يأخذ بيدنا إلى أمام، ولا شك أننا لا نستطيع أن نجعله مقبولًا من كل إنسان سائغًا لكل فم. هذا إلى أن العالِم مضطر اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى الكَلَف بالثغرات، أعني إلى الاهتمام بمراكز ثقل معينة، وإلى قبول الاكتفاء من الميادين الأخرى بما يكتفي به غير المتخصص فيها من علم. ولكن لا بد أن تكون مراكز الثقل التي يوجه إليها اهتمامه مراكز ثقل حقًّا وصدقًا، ولا ينبغي أن تكون مجرَّد غرائب وعجائب، والفيصل في الأمر هو تقدير ما إذا كانت المعلومات والآراء التي يرجو الحصول عليها نتيجة لبحثه تبشر، في غير كثير من التنكب، وفي وقت معلوم معقول، بثمرة تفيد جماعة أوسع من إخوانه البشر.
وقد يُؤتَى المتخصص في هذه الحالة — المتخصص في العلوم الإسلامية أو المتخصص في العلوم العربية — فرصة تعريف جمهور كبير بميدان نشاطه العلمي مباشرة بمحاضرة عامة يلقيها عليه أو كتيب مبسط يصنفه له، فعليه أن ينتهزها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وألا يتشبث بوجهة نظر الفن للفن التي تقادم عهدها. ونحن — معشر المستشرقين — نتمتع بميزة الجلوس في مكانٍ ذي نافذة نطل منه على الشرق الساحر الجذاب. والآخرون على حق عندما ينتظرون منا أن نعرِّفهم من حين لآخر بالعالم الذي نحيط به علمًا، ولو سلكنا في ذلك سبيل كتاب مؤقت. وسنجد في الاهتمام الواعي لجمهور المستمعين الكبير الذي نُلقي عليه ما نصُفُّ من محاضرات، وفي الاستجابة المدهشة لجمهور القارئين الواسع المنتشر الذي ندفع إليه ما نصُفُّ من كتب، ما يعوض الجهد الذي نبذله في صب العلم المتخصص في قالب مبسط يفهمه العامة.
وهناك آمال وتمنيات تختلج في أنفسنا في أمر توسيع الاستشراق الألماني وتطويره، فنحن، على قدر ما أتبين، مفتقرون في الوقت الحاضر إلى عالِم متخصص في عملية الإصلاح والتجديد التي تتناول الشريعة الإسلامية، وخاصة ما يتصل منها بالأحوال الشخصية. وإذا كان لدينا الآن تمثيل قوي حاليًّا للبحوث الخاصة باللهجات في الدراسات العربية، فإن عدد الأبحاث التي تتناول تاريخ الأدب لا يزال قليلًا نسبيًّا، ولا يزال البحث في الأدب العربي الحديث في بدايته لم يتجاوزها إلا قليلًا. وهناك طائفة كبيرة من الموضوعات والمشكلات الهامة تتطلب المزيد من الجهد، ولدينا جيل جديد مؤهل نابِه مستعد للعمل، والدلائل كلها توحي بأن أفرع علوم العربية والعلوم الإسلامية ستستمر في الازدهار والنماء بالجامعات الألمانية في المستقبل أيضًا.
وقد يؤدي استقلال الدراسات الإسلامية وتحولها إلى مادة قائمة بذاتها، مع التطور الجديد الذي شمل الدراسات العربية، إلى تغييرات في نظام تمثيل هذه الدراسات بالجامعات في وقت قريب. فالدراسات الإسلامية (وتتوسطها اللغة العربية لغةً رئيسية) تفرعت من الدراسات الساميَّة، وأدى هذا إلى ما جرت عليه العادة حتى الآن، من قيام أستاذ كرسي الدراسات الإسلامية بتمثيل مادة الدراسات الساميَّة أيضًا، أو على العكس، من اشتراط تضلع المستشرق من الدراسات الساميَّة أولًا ليشغل كرسي الاستشراق، وليمثل الدراسات الإسلامية بصفة توشك أن تكون إضافية فقط. كان يُطلب من أستاذ الإسلاميات إذن معرفة اللغات العربية والفارسية والتركية، وعلاوة عليها معرفة العبرية والسريانية والآرامية والحبشية، يعني معرفة ست لغات شرقية شرطًا أساسيًّا لشغل المنصب. ومن البديهي أن الإثقال الشديد في الصعيد اللغوي (بما في ذلك القيام بالتدريس اللغوي في القسم) أدى إلى المساس بالدرس والبحث فيما يتعلق بميدان الدراسات الإسلامية خاصة. لهذا يبدو من الضروري أن تُتخَذ خطوات لتصفية ما لا بد من تصفيته. فإن الأستاذ الذي يمثل مادة الدراسات الإسلامية يملأ بها وقته كله، والأفضل ألا يُكلَّف بتدريس السريانية والآرامية والإثيوبية، أو أية لغة ساميَّة أخرى (غير اللغة العربية). على أن هذا الفصل يحمل في طياته صعوبات تهدد من الناحية العلمية بزيادة، إن لم يكن بمضاعفة، عدد كراسي الاستشراق. وربما أمكن الالتجاء إلى تخصيص كراسي الاستشراق القائمة حاليًّا، خاصة بالجامعات المتجاورة؛ هذا للدراسات الإسلامية يقوم عليه أستاذ في الإسلاميات، وذاك للدراسات الساميَّة يقوم عليه أستاذ في الساميَّات. ولكن هذه كلها أفكار وإمكاناتُ تطوير تشير إلى مستقبل بعيد. وإذا كنا نعبر عنها هنا، فقصْدُنا من هذا أن نبيِّن أن الدراسات الإسلامية (باللغة العربية لغة أساسية) قد استقلت تمامًا وأصبحت مادة قائمة بذاتها، وأنه يُستحب أن يركز الأستاذة الجامعيون الذين يختصون بهذه المادة، جهدهم كله مستقبلًا في هذا الميدان من الدرس والبحث، وهو ميدان له أهميته، وله تشعباته الكثيرة.