استشراق – استغراب
كذلك تعرَّضت لفظة «الشرق» في أعقاب الفتوحات العربية الإسلامية لتغيير آخر في معناها، أو إذا شئنا دقةً أكثر، تعرَّضت لاتِّساعٍ في نطاق مدلولها. فقد انطلق الفاتحون، في ذلك الوقت، من شبه الجزيرة العربية لا ناحية الشمال والشرق فحسب، بل ناحية الغرب كذلك، وزحفوا في غضون عشراتٍ من السنين إلى مصر وشمال أفريقيا حتى بلغوا المحيط الأطلسي. واستوطن الإسلام قطاع بلدان شمال أفريقيا دينًا وتعرَّب السكان تدريجيًّا، وهم الأقباط في مصر والبربر غربها. ومنذ ذلك الحين تعتبر مصر وبلدان شمال أفريقيا ضمن الشرق، ويختص الاستشراق، وإن كان اسمه — الاستشراق — يُفترض أنه يختص، بالبلدان الشرقية دون غيرها.
ومهما يكن من أمر، فإن الاسم لا يبيِّن بوضوحٍ مستقيمٍ المقصود منه بالضبط، والمهم هو الموضوع ذاته. والموضوع ذاته يفتح مجالًا آخر للتفكير.
الاستشراق في ألمانيا حاليًّا، وفي العالم الأوروبي الحديث كله، مادة علمية معترف بها من الجميع. ولا حاجة بها — وإن قل عدد المشتغلين بها — إلى البرهنة على أنها مادة علمية جديرة بالوجود، فقد تم لها هذا، وتوشك أن تكون ممثَّلة في كل جامعة من الجامعات بكرسي رسمي يشغله أستاذ. ثم هناك عدد عظيم من وظائف المدرسين والمعيدين في تخصص الاستشراق، إلى جانب الأساتذة، ويعني هذا أن الناشئة من المستشرقين يَلقَون ما يؤمِّن مستقبلهم من الناحية المالية نوعًا ما. ونحن جميعًا، المتمتعين بهذه النظم، نعترف شاكرين بأن المجتمع ممثَّلًا في الحكومات والمجالس النيابية يضع تحت تصرفنا الإمكانيات اللازمة لإجراء بحوث الاستشراق، وللحفاظ على نشاطنا التعليمي في هذا المضمار. ويسرنا أن نرى كل عام أفرادًا من الحاصلين على شهادة إتمام الدراسة الثانوية يدفعهم اهتمامهم بالمادة، وتحفزهم موهبتهم اللغوية إلى الاتجاه لدراسة العلوم العربية أو الإسلامية أو أي فرع من أفرع الاستشراق الأخرى، ويحدوهم الأمل في أن يتمكنوا في المستقبل، بطريقة أو بأخرى، من المشاركة في هذه الدراسات مشاركة المنتجين. وما تطلبه الدولة والمجتمع منا، معشر المستشرقين، هو بصفة عامة العمل بوصفنا مدرسين وباحثين متخصصين. أما التصرُّف في أمر الموضوعات الخاصة التي ينصب عليها الدرس والبحث فمتروك لنا، ونحن نعرف كيف نقدِّر هذه الحرية، ونبذل جهودنا لنرُد على هذه الثقة التي حُيِّينا بها، بالقيام بما يحققها من عملٍ مخلصٍ ساعٍ إلى الهدف المرجوِّ في مهنتنا. وعملنا على مستوى العلماء يسعى إلى هدف بعينه هو: اختراق الأفق الفكري الذي تفرضه البيئة حولنا، وإلقاء نظرة إلى عالم الشرق، لكي نتعلم من الكيان الغريب علينا كيف نُحسِن فهم إمكانيات الوجود الإنساني، وكيف نحسن بهذا فهم ذاتنا نحن في نهاية المطاف.
ولا بأس من أن ننتهز هذه الفرصة فنثير سؤالًا، ولو من ناحية المبدأ، هو السؤال عن إمكانية أن ينشأ في الناحية الأخرى، أي في العالم العربي الإسلامي، اتجاه للبحث، شبيه بالدراسات الإسلامية عندنا، ولكن في الوجهة المقابلة، يهدف إلى دراسة تاريخ الفكر في العالم المسيحي الغربي وتحليله بطريقة علمية. ويمكن أن يطلق على مثل هذا الاتجاه في البحث — إن أُخِذ مأخذ الجِد وأُرسيَتْ له قواعده الثابتة بوصفه نظامًا — علم الغرب أو باختصار «الاستغراب». وقد دعا الدكتور محمد رحبار في المؤتمر الإسلامي العالمي الذي انعقد في لاهور في ديسمبر ١٩٥٧م-يناير ١٩٥٨م، بحماس إلى هدف من هذا القبيل، ولكنه لقي معارضة شديدة. ولنترك هذه النقطة العويصة الحساسة وشأنها الآن، ونكتفي بتقرير أن الحكم الذي يكوِّنه الناس في البيئات الإسلامية عن العالم المسيحي الغربي، حكم ما زال يشوبه — في أغلبه — لون الدفع والمشاحنة الشديد، ثم بتقرير أن هناك أيضًا مسلمين مثقفين كثيرين يكنون للعالم المسيحي الغربي تقديرًا موضوعيًّا. فلنأمل أن يكون اتجاه هؤلاء في المستقبل مدرسة، وأن تنتشر بالتدريج صورة موضوعية لعالم الغرب بين الجماهير الواسعة للشعب وبين رجال الدين المسلمين وبين المتخصصين وغير المتخصصين! فإن هذا من شأنه أن يؤدي إلى تحقيق تفاهم أوسع بين العالمين اللذين ظلا منذ فجر العصر الوسيط قرونًا طوالًا يقفان أحدهما من الآخر موقف العداء.