عصر التنوير وعصر الرومانتيكية
تطوُّر الدراسات العربية
لم يتَّبع تطوُّر الاستشراق من مراحله الأولى في العصر الوسيط إلى
مرحلة التحوُّل النهائي إلى علم قائم على النقد التاريخي، طريقًا
مباشرة مستقيمة، ولم يتم للاشتغال بالشرق وبمحمد وبالدين الذي نشره
التحرُّر من طريقة البحث اللاهوتية المبنية على الدفع والمشاحنة إلا في
العصر الحديث وتدريجيًّا. ولكن الجهود التي بُذِلَت لإنصاف عالَم الشرق
ورسْم صورة له مستمَدة من المصادر تعرَّضت من حين لآخر لاتجاهات اعترضت
سبيلها، أو غطت عليها وأدت إلى تشويه صورته. كان من بين ممثلي حركة
التنوير مَن رأوا في النبي العربي أداة الله ومشرِّعًا حكيمًا ورسولًا
للفضيلة وناطقًا بكلمة الدين الطبيعي الفطري مبشرًا به. وصحب هذا
الاتجاه تحمس رومانتيكي لكل ما هو شرقي، فلا عجب أن يكون لأنطوان جالان
(١٦٤٦–١٧١٥م) تأثير بالغ الشدة على جماهير غفيرة من القراء بالترجمة
الأولى التي أنشأها لمجموعة القصص والحكايات العربية العظيمة «ألف ليلة
وليلة» وجعلها مناسبة للذوق الفرنسي في ذلك العصر. وقد أثرت على يوهان
فولفجنج فون جوته، في القرن التالي، تأثيرًا متنوع الجوانب، كما أثبتت
كاتارينا مومزن أخيرًا في بحوثها التفصيلية. أما اللقاء المثمر بحقٍّ
الذي تم لجوته مع الشرق، فيرجع إلى يومِ اتصل بقصائد الشاعر الفارسي
حافظ في ترجمة هَمَر بورجشْتَل. يقول جوته في كلمة دوَّنها بيومياته
عام ١٨١٥م: «كان لزامًا عليَّ أن أقف موقف المنتج، لأني إن لم أفعل، ما
كنت أستطيع أن أصمد أمامه؛ أمام هذه الظاهرة القوية، ولقد كان تأثيرها
في نفسي شديدًا حيًّا، شدةً وحيويةً بالغتين. كانت الترجمة الألمانية
بين يديَّ، وكان عليَّ أن أجد فيها دافعًا يدفعني إلى المشاركة فيها.
وانطلق من وجداني كل ما كان كامنًا أو معتمِلًا فيه أشياء تشبه المادة
والمعاني التي اطلعْت عليها، انطلق بدرجة من العنف شديدة جعلتني أحس في
نفسي حاجة ملحة إلى أقصى حد تدفعني إلى الهرب من العالم الواقعي الذي
يتهدَّد ذاته سرًّا وجهرًا، الهرب إلى عالم خيالي يترك لرغبتي وقدرتي
وإرادتي مهمة الاشتراك السعيد فيه.» وكانت ثمرة هذا اللقاء ما نجده بين
دَفتي «الديوان الغربي الشرقي». هذا الكتاب الذي أحَبَّه الكثيرون من
مبجلي الشاعر العظيم واعتبروه ثمرة من أعظم الثمار وأثمنها، والتي جادت
به قريحته المنوعة الجوانب. والمرء إذا اطلع على الجزء الذي ألحقه جوته
بالديوان وأسماه «مذكرات ومقالات»، تبيَّن كيف جمع جوته بهِمَّةٍ كل ما
نما إلى خبرته من معلومات عن عالم الشرق، وكيف ناقشها ومحَّصها بقوة.
أما أن الديوان العربي الشرقي «يصح أن يسمى بالعهد الأعظم لبحوث الشرق»
كما قال هانس هاينرش شيدر (١٨٩٦–١٩٥٧م) في كتابه
Goethes Erlebnis des Ostens١ مصطنعًا عبارة بلاغية، فأمْرٌ لا يوجَد بالديوان ما يمكِّن
من استنتاجه. كان الدافع إلى إبداع الديوان هو النموذج الفارسي المتمثل
في الشاعر حافظ، ولكن الديوان رغم تسميته بهذا الاسم الشرقي، لا يزيد
ولا ينقص عن أن يكون حوارًا شعريًّا لجوته مع نفسه، وليس له في أساسه
علاقة بالاستشراق. إذا أردنا أن ننسب شاعرًا ألمانيًّا إلى الاستشراق،
فالأمثل أن نذكر فريدرش روكرت (١٧٨٨–١٨٦٦م)، الذي كان يجد القوافي
الألمانية بسهولة فائقة، والذي ترجم — تحت اسم
Verwandlungen des Abu Seid von
Serug — مقامات الحريري ترجمة أدبية أمينةً أمانةً
تعطي للقارئ الألماني انطباعًا مقابلًا لما يعطيه الأصل العربي من
انطباع. لهذا فإن Verwandlungen des Abu Seid von
Serug يُعتبر بحقٍّ عيِّنة من الأدب الألماني الذي
بلغ الكمال في شكله، ويُعتبر إلى هذا، عملًا من أعمال
الاستشراق.
قلنا: إن تطوُّر الاستشراق لم يتبع طريقًا مباشرة مستقيمة، ولم يتشكل
بوصفه علمًا إلا عندما تأكد استعداد الناس للانصراف عن الآراء السبقية،
وعن كل لون من ألوان الانعكاس الذاتي، وللاعتراف لعالم الشرق بكِيانه
الخاص الذي تحكمه نظمه الخاصة، وعندما اجتهدوا في نقل صورة موضوعية له
ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. وليس من الممكن تحديد الفترة التي بدأ
فيها مثل هذا الاتجاه الجديد على وجه الدقة. فإذا وضعنا بقصد التبسيط
«منتصف القرن التاسع عشر»، فإننا نعني بهذا فقط أن الصفة العلمية
بالمعنى الحديث ظهرت في هذا الوقت على الاستشراق بوضوح أكثر من ذي قبل.
ولكن النية المتجهة إلى فهم الموضوعات فهمًا موضوعيًّا، كانت موجودة
قبل ذلك بكثير، وجودًا يمكن إثباته بالأدلة والشواهد، وكانت أوضح ما
تكون في مجال الدراسات اللغوية، ودراسات اللغة العربية خاصة، بالمعنى
الضيق لهذه الانطلاقة. فقد كان تعلم اللغة العربية وتعليمها يقتصران
على التمكن من وقائع مجرَّدة خالصة، ولم يكن الاختلاف في الأمور
الدينية، وما يتبعه من خطر تشويه المضمون، يظهر إلا بعد التمكُّن من
اللغة، وانتهاج سبيلها إلى الثقافة العربية الإسلامية الغريبة
المدوَّنة. (وهذا هو السبب الذي يظل من أجله المستشرقون العاملون في
الصعيد اللغوي بمنأًى عن هجوم الرأي العام العربي الإسلامي في أيامنا
هذه، في حين أن المستشرقين العاملين في صعيد الدراسات الإسلامية
يُتَّهمون بسوء النية في أحوالٍ ليست بالنادرة). من أساتذة العربية
الأول نذكر بالثناء: الهولندي توماس أربنيوس (١٥٨٤–١٦٢٤م) الذي نَشَر
في عام ١٩١٣م كتابه Grammatica Arabica
(النحو العربي)، وهو أول عرض منهجي للغة العربية الفصحى بقلم مؤلف
أوروبي. وقد ظل هذا الكتاب طوال قرنين من الزمان يُعَدُّ الكتاب الأوحد
لتعليم اللغة العربية، وتعددت طبعاته، وترجمه ي. د. ميشائيليس في عام
١٧٧١م إلى اللغة الألمانية. أما العالم الفرنسي سيلفستر دي ساسِّي
(١٧٥٨–١٨٣٨م) فكان عالمًا رفيع القدر، وكان له تأثير يفوق تأثير
أربنيوس بكثير، وكان يعمل منذ ١٧٩٥م أستاذًا للغة العربية في المدرسة
الخاصة للغات الشرقية الحية المنشأة حديثًا في باريس. كان كتابه
Grammaire arabe (النحو العربي)
وكتابه Chrestomathie arabe (منتخب من
أدب العرب) الكتابين الأساسيين في الدراسات العربية بالمنطقة الأوروبية
كلها في حياته وبعد مماته، وظلا كذلك عشرات السنين. كان سيلفستر دي
ساسِّي، بالإضافة إلى ما قام به من نشريات، يعمل مدرسًا، أولًا وقبل كل
شيء، ويرجع إليه فضل تحوُّل باريس إلى مركز الدراسات العربية، وكعبة
أَمَّها التلاميذ والعلماء من مختلف البلاد، ليتعلموا على يديه. ذهب
إليه من ألمانيا، على سبيل المثال لا الحصر، جيورج فيلهلم فرايتاج
(١٧٨٨–١٨٦١م) مؤلف Lexicon
Arabico-Latinum (المعجم العربي اللاتيني) الذي لا
يزال يُستعمل إلى اليوم. وجوستاف فلوجل (١٨٠٢–١٨٧٠م) الذي نشر القرآن،
ونشر فهرسًا لآيات القرآن، وكتاب الفهرست لابن النديم، وكتاب كشف
الظنون لحاجي خليفة. وهاينرش ليبرشت فلايشر (١٨٠١–١٨٨٨م) الذي نقل
فرعًا من شجرة مدرسة العربية الباريسية إلى لايبتسج. واشتهر فلايشر
بملاحظاته النقدية وإضافاته التي كان يخص بها المؤلفات التي ظهرت في
موضوعات الدراسات العربية، وكان له في ذلك المضمار فضل كبير، فأخرج
مقالاته Beiträge zur arabischen
Sprachkunde (مقالات في علم اللغة العربية) التي
تدور حول كتاب النحو العربي لدي ساسي، وأخرج دراسات تتعلق بمصنف دوزي
المسمى Supplément aux dictionnaires
arabes (ملحق للقواميس العربية). هذه المقالات
وغيرها من المقالات التي جاد بها يراعه في ميدان الدراسات العربية،
والتي تكون ثلاثة مجلدات من «المقالات الصغيرة» سيُعاد طبعها قريبًا،
مما يدل على مدى الأهمية التي ما زالت تتسم بها إلى اليوم. كذلك أخرج
طبعة دقيقة من تفسير البيضاوي ما زالت تُستعمل إلى يومنا هذا. هذا إلى
أن فلايشر قام بعمل تنظيمي مشكور؛ إذ اشترك اشتراكًا حاسمًا في تنظيم
المستشرقين الألمان عام ١٨٤٥م في «الجمعية الشرقية الألمانية»، تلك
الجمعية العلمية التي أصدرت مجلة باسمها، اكتمل لها الآن ١١٥ عددًا،
كما أصدرت «دراسات في علم الاستشراق» وأثرت في عصرنا الحاضر تأثيرًا
خِصبًا هائلًا، حتى إنه لا يمكن الآن تصوُّر تاريخ الاستشراق في
ألمانيا بدونها. وكان فلايشر، كما كان دي ساسِّي من قبله، أستاذًا
جامعيًّا أولًا وقبل كل شيء آخر. فلما مات نهض بتراث المدرسة العربية،
بلايبتسج، ألبرت زوتسين (١٨٤٤–١٨٩٩م)، ثم أوجُست فيشر (١٨٦٥–١٩٤٩م)،
وكان أوجست فيشر تلميذًا لهاينرش توربِكه (١٨٣٧–١٨٩٠م) الذي مات
مبكرًا، وكان في زمانه تلميذًا لفلايشر.٢
١
لايبتسج ١٩٣٨م، انظر ص٧٤. والنص الذي استشهدنا به قبل ذلك من
الكتاب نفسه ص١١.
٢
التاريخ المكتوب بعد اسم أحد المؤلفين هو تاريخ ميلاده إذا
كان على قيد الحياة، أو تاريخ ميلاده ثم وفاته إذا لم يكن على
قيد الحياة. أما التاريخ المكتوب بعد عناوين الكتب فهو تاريخ صدروها. (مترجم)