المرحلة التالية لتطور الدراسات الإسلامية حتى العقد الرابع من القرن العشرين
ملاحظة تمهيدية
ولكني أود أن أخرج فيما يلي على هذه العادة؛ لأن حديثي يدور حول الوضع الراهن للاستشراق الألماني، أو على الأقل يتخذه له هدفًا. ولهذا بات من الضروري أن يتناول اتجاهات ومنجزات المستشرقين الذين على قيد الحياة الآن. وليست المهمة بطبيعة الحال مهمةَ إصدار أحكامٍ قيمية أو مهمةَ عقدِ امتحانٍ وتقديرِ درجات، بل المهمة تقتصر على سعينا إلى التعريف الموضوعي ما استطعنا إلى الموضوعية سبيلًا بمختلف النشريات التي شهدها ميدان الاستشراق.
وهناك صعوبة لا بدَّ من أخذها على علَّاتها، هذه الصعوبة تتلخص في أنني لن أستطيع الإشارة إلى العاملين في صعيد الاستشراق جميعًا بما يُحِق جهودهم ومنجزاتهم حقَّها، وفي أنني في أغلب الأحوال سأقتصر على تنبيهات قصيرة قلَّت سطحيتها أو عظُمت، وسأُغفل أشياء إما عن جهلٍ بها أو ربما عن سهو. لهذا أرجو زملائي جميعًا الذين سيطلعون على محاولتي هذه بعد تمامها، ويجدون أنني أسأت فيها إليهم، أن يصدقوني في أنني كنت على الأقل حسن النية في حديثي عنهم. أما الشباب من الزملاء الذين يهمني تقديرهم قدر ما يهمني تقدير الشيوخ، والذين يحفِلون لأسباب بديهية بالمدح والتقدير، فأرجوهم أن يفكروا في أن عملهم العلمي يحمل قيمته في ذاته، وأن تقديره لا يتم بالضرورة في هذا الكتاب بالإشارة على هذا أو ذاك النحو أو بالسكوت عنه. ولقد كنت وأنا في بداية عهدي بالسلك الجامعي لا أنظر لا إلى يمين ولا إلى شمال، بل أختار الأعمال التي كنت أنا شخصيًّا أعتبرها صحيحة هامة. وعندي من التفاؤل ما يجعلني أوقن بأن كل مستشرق صاعد ينجز شيئًا بحق سيصيب النجاح في النهاية.
وثمة صعوبة أخرى تتصل بالتحديد الزمني «العقد الرابع» من القرن العشرين، فقد بدا لي محققًا للهدف أن أشير في تقريري هذا إلى الوقفة التي تعرض لها تطور الاستشراق الألماني نتيجة لقيام حكم النازية، وأن أنهي بعام ١٩٣٣م مرحلة، لأبدأ مرحلة أخرى. وليس معنى هذا رسم خط قاطع فاصل بين المرحلة قبل هذا العام والمرحلة بعده. فالمستشرقون الذين عبَروا هذا الوقت العصيب دون أن يلحق بهم أذى، وكانوا قبل ١٩٣٣م ينشطون في المهنة وفي النشر، سيتناولهم هذا الفصل أو الفصل التالي الذي ينتهي إلى أيامنا حسبَ كوْن مركز الثقل في نشاطهم العلمي يقع بعد ١٩٣٣م أو قبله، أو يتناولهم الفصلان جميعًا.
تاريخ الأدب العربي لبروكلمَن ودائرة المعارف الإسلامية
كتاب «تاريخ الأدب العربي» الهائل لكارل بروكلمَن (١٨٦٨–١٩٥٦م) هو في الحقيقة كتاب أساسي في الدراسات العربية. وهو لا يقتصر على الأدب العربي وفقه اللغة العربية بالمعنى الضيق، بل يشمل كل ما كُتِبَ باللغة العربية من المدونات الإسلامية، ويصبح بهذا عُدة دارس العلوم الإسلامية التي لا محيص له عنها. وقد ظهر الجزء الأساسي من الكتاب في مجلدين عام ١٨٩٨م وعام ١٩٠٢م، ثم جاءت في الأعوام ١٩٣٧ و١٩٣٨ و١٩٤٢م المجلدات التكميلية الثلاثة الكبيرة. وظهر المجلدان الأول والثاني في عام ١٩٤٣ و١٩٤٩م في طبعة أخرى بعد تعديلهما ليتناسبا مع المجلدات التكميلية الثلاثة. والكتاب في مجموعه ليس تاريخًا للأدب بمعنى الكلمة، بل هو سجل للمصنفات العربية كلها سواء المخطوط منها والمطبوع، يكتمل بمعلومات عن حياة المؤلفين. ومادة الكتاب مرتبة زمنيًّا، ومقسمة إلى أربعة، ثم ستة، أجزاء؛ أولًا: الأدب القومي العربي من البداية إلى العصر الأموي. ثانيًا: الأدب الإسلامي باللغة العربية في العصر الكلاسيكي (من حوالي عام ٧٥٠ إلى حوالي ١٠٠٠م) والعصر الكلاسيكي المتأخر (من حوالي عام ١٠١٠ إلى حوالي عام ١٢٥٨م). ثالثًا: تدهور الأدب الإسلامي من حكم المغول إلى استيلاء السلطان سليم على مصر في عام ١٥١٧م. ومن ذلك التاريخ إلى الحملة النابليونية على مصر في عام ١٧٩٨م، يعالجه الجزء الثالث التكميلي. رابعًا: الأدب العربي الحديث فيما يقرب من ٥٠٠ صفحة. وتعْقُب هذا ٦٠٠ صفحة تقريبًا تضم سجلًا للمؤلفين ولعناوين الكتب. وقد رُتِّبَ المؤلفون والمصنفات الواردة في الأجزاء الستة حسب المادة، وطبقًا لأوجه نظر جغرافية وتاريخية. وقد أنشأ كارل بروكلمَن هذا العمل الجدير بالإعجاب بمفرده، ولم يكن هذا الكتاب هو كتابه الوحيد، فقد وهب العلم المتخصص مجموعة بأسرها من المؤلفات الكبيرة ذات الفائدة الجمة. ومن الممكن أن نفهم أن البيانات التي تضمنها «تاريخ الأدب العربي» لبروكلمَن بها هنَات في تفصيلاتها. ولكن مثل هذا العمل الضخم ما كان يمكن أن يخرج للوجود أبدًا إذا تحرَّى طريقة العمل الدقيقة البالغة الدقة، التي كانت تميز مستشرق توبنجن القديم، وناقد بروكلمَن الشديد كرستيان فريدرش زايبولد (١٨٥٩–١٩٢١م).
ومن البديهي أن تاريخ الأدب العربي لبروكلمَن في حاجة دائمة متجددة إلى الإكمال. وقد قام المؤلف نفسه بأول إكمال؛ إذ أضاف إلى كتابه ثلاثة مجلدات تكميلية تضم في مجموعها ٢٦٠٠ صفحة، بعد مرور ٤٠ إلى ٥٠ سنة من ظهوره. وقد مرَّت منذ ذلك الحين سنوات تزيد على العشرين، تكاملت فيها عناوين مصنفات كثيرة نتيجة لاكتشاف مخطوطات لم تكن معروفة، وظهرت فيها عناوين أخرى لم تكن موجودة من قبل، وصدرت من بعض المؤلفات طبعات أخرى لا بدَّ من الإشارة إليها. وقد قام المستشرق التركي المتخصص في الدراسات العربية فؤاد سزجين، وتلميذ هِلموت ريتر، الموجود حاليًّا في فرنكفورت، بالبحث المنظم في مجموعات المخطوطات العربية سنوات عديدة واكتشف آلافًا من المخطوطات، والمفروض أن تظهر نتيجة بحوثه في مجلدين باللغة الألمانية، يضافان بوصفهما ملحقين لكتاب بروكلمَن. هذا إلى أنه ظهرت في العام الماضي فكرة جميلة، مستقلة عن ذلك، تدور حول إمكانية إعادة نشر الكتاب كله في صورة جديدة تمامًا تقوم على أساسٍ من التعاون العالمي، ولكنها للأسف، تأجلت مؤقتًا.
وهناك مَعين آخر في الدراسات الإسلامية لا يقل أهمية عن «تاريخ الأدب العربي» لبروكلمَن، هو «دائرة المعارف الإسلامية». وتختلف دائرة المعارف الإسلامية عن كتاب بروكلمَن في أنها قامت من الأصل على أساس من التعاون العالمي، وأنها تمَّت على مرِّ السنين والأعوام. وقد اشترك في التخطيط لها اشتراكًا حاسمًا المستشرق سنوك هورجرونيه، وقام على التنفيذ خلَفُه على كرسي ليدن المستشرق أرنت يان فِنسِنك (١٨٨٢–١٩٣٩م)، واشترك لفيف من المستشرقين الألمان في كتابة عدد عظيم من المواد. واشترك في نشر الجزء الأول من الدائرة، الذي تم وظهر عام ١٩١٣م، من الجانب الألماني أرتور شاده (١٨٨٣–١٩٥٢م)، وريشارد هارتمَن (١٨٨١–١٩٦٥م). وفي الجزء الثاني الذي ظهر عام ١٩٢٧م هانس باور (١٨٧٨–١٩٣٧م)، ثم أرتور شاده وفيللي هيفننج (١٨٩٤–١٩٤٤م). واشترك فيللي هيفننج في مسئولية نشر الجزء الثالث والجزء الرابع والمجلد التكميلي، تلك المجلدات التي جرى العمل فيها في وقت واحد وخرجت في الأعوام ١٩٣٦ و١٩٣٧ و١٩٣٨م على التوالي. وأعد هيفننج سجلًّا عامًّا، ولكنه لم يُنشَر. وظهرت «دائرة المعارف الإسلامية» في المرة الأولى في ثلاث طبعات، طبعة ألمانية، وطبعة إنجليزية، وطبعة فرنسية. وكانت المقالات في غالبيتها بقلم المتخصصين في موضوعاتها، وكانت تترجم من لغتها الأصلية إلى اللغتين الأخريين. وقد بدآ بعد الحرب العالمية الثانية الإعداد لطبعة جديدة من دائرة المعارف يشترك فيها أيضًا لفيف من العلماء الألمان المتخصصين، وبدأت تظهر منذ عام ١٩٥٤م، للأسف في طبعتين فقط واحدة إنجليزية والأخرى فرنسية.
محمد والقرآن
تناولَتْ محمدًا والقرآن في المنطقة الألمانية في مائة العام الماضية أبحاثٌ وكتابات كثيرة، أشرنا فيما سبق منها إلى طبعة سيرة ابن هشام التي أخرجها فرديناند فوستنفلد (١٨٥٨–١٨٦٠م)، وإلى ترجمة جوستاف فايل لها (١٨٦٤م)، وأشرنا كذلك إلى طبعة تفسير البيضاوي التي أخرجها هاينرش ليبرشت فلايشر (١٨٤٦ و١٨٤٨م)، وإلى كتاب «تاريخ القرآن» لتيودور نولدكه (الطبعة الأولى عام ١٨٦٠م). وفي مطلع القرن العشرين خرج كتاب «طبقات ابن سعد» الذي يُعَد مصدرًا هامًّا للتاريخ الإسلامي المبكر بحافز من إدوارد زاخاو، وبتعاون من أويجين مينفخ، ويُوزِف هوروفيتس، وفريدرش شفاللي وآخرين. وقد اختصت رسالتان من رسائل الدكتوراه تفسير السيرة المحمدية بالدرس: رسالة ب. برونله «مفسرو ابن إسحق وحواشيهم» (١٨٩٥م)، ورسالة أرتور شاده (١٨٨٣–١٩٥٢م) «تفسيرات السهيلي وأبي ذر لقصائد أُحُد في سيرة ابن هشام» (١٩٢٠م). وأنشأ هوبرت جريمه (١٨٦٤–١٩٤٢م) كتابًا من جزأين «محمد» تحدث فيه عن حياة النبي العربي وعمله، ولكن حكمه كان خاطئًا، فقد اعتبر محمدًا مصلحًا اشتراكيًّا أولًا وقبل كل شيء آخر. على أن عرضه المنظم للفقه الإسلامي القرآني في المجلد الثاني من الكتاب، عرض قيم لا نزال نجد فيه نفعًا. ويختلف كل ما كتبه يوزف هوروفيتس (١٨٧٤–١٩٣١م) عن محمد والقرآن والتاريخ الإسلامي المبكر اختلافًا بيِّنًا عن آراء «جريمه» المتطرفة أحيانًا، فهوروفيتس يزن الأمور بميزان النقد والحرص، ويكتسب بهذا ثقةً لكتاباته. وتحتوي «بحوثه القرآنية» على طائفة كبيرة من الملاحظات والمعلومات الصائبة. والجزء الأول منها يعالج النصوص القصصية في القرآن (ويقسِّم كلامه إلى: عموميات وشكليات، أساطير رادعة، قصص الأنبياء والصالحين، النبوة في القرآن)، ويعالج الجزء الثاني الأسماء الأعلام في القرآن. وقد نشر مقالًا بعنوان «الأسماء الأعلام اليهودية في القرآن، مشتقاتها» في مجلة كلية الاتحاد العبري، المجلد الثاني، (١٩٢٥م، وأعيد طبعه عام ١٩٦٤م)، يحتوي على إضافات هامة تكمل هذا الجزء الثاني من كتابه.
وقد عالج نفر من تلاميذ هوروفيتس في رسائلهم موضوعات قرآنية، وموضوعات تتصل بالتاريخ الإسلامي المبكر، أنشأ يوهان فوك (١٨٩٤م): «محمد بن إسحق – دراسات في تاريخ الأدب»، وهي رسالة فيها عيوب تتصل بالنقل من المخطوطات، ولكنها سليمة من ناحية المادة، ونشر يوزف س. ريفلين «القانون في القرآن والعبادات والشعائر» عام ١٩٣٤م، وقد أشار ريفلين في مقدمة بحثه إلى عملين: «يسوع في القرآن» نسبة إلى ل. بخمن، و«الصلاة في القرآن» نسبة إلى ف. جويتاين، وهما بحثان من بحوث مدرسة هوروفيتس، يبدو أنهما لم يطبعا.
أما موضوع القرآن خاصة فقد عالجه في السنوات الأخيرة جوتهلف برجشتريسر (١٨٨٦–١٩٣٣م)، وتلميذه وخَلَفه أوتو برتسل (١٨٩٣–١٩٤١م). برجشتريسر حصل على الدكتوراه على يد أوجست فيشر بناء على رسالته «أدوات النفي والاستفهام وما إليها في القرآن» (١٩١٤م)، ونهض بعد وفاة فريدرش شفاللي باستكمال تعديل كتاب نولدكه «تاريخ النص القرآني»، وبإعادة كتابة الجزء الثالث من الكتاب على نحو جديد تمامًا، ومات قبل أن ينشره فنشره برتسل. وقد تناول في مقالات له نُشرت بالمجلات أو قُدِّمَت للمجامع موضوعات مثل: «قراءة الحسن البصري» (١٩٢٦م) قراءة القرآن في القاهرة (١٩٣٢ و١٩٣٣م)، والقراءات الشاذة في كتاب المحتسب لابن جني (١٩٣٣م). كذلك نشر طبعة كتاب ابن خالويه «مختصر شواذ القراءات» (١٩٣٤م)، و«طبقات القراء» لابن الجزري (١٩٣٥م، بفهارس من إعداد برتسل)، وقد تحدث برجشتريسر في منشورات مجمع العلوم البافاري عن «خطة لوضع هوامش نقدية للقرآن» (١٩٣٠م) تضم القراءات المختلفة، لا على أساس كتب القراءات، بل على أساس أقدم المخطوطات القرآنية. وقد تابع أوتو برتسل، بعد وفاة برجشتريسر، خطة الهوامش النقدية وتحدث عنها بالتفصيل فيما أسماه ﺑ «علم القراءات» بمجلة «إسلاميكا» في ذلك الوقت (١٩٣٤م). وجمعت المخطوطات القديمة التي أمكن الوصول إليها مصورة على أفلام نيجاتيف، جمعًا منظمًا في أرشيف، ولكن الأفلام التي جمعت ضاعت في الحرب العالمية الثانية، وصُرف النظر عن الموضوع.
التاريخ الثقافي والتاريخ السياسي
في الكتاب الذي أصدره فيلهلم أونكن بعنوان: «التاريخ العام في بحوث منفصلة» ظهر في عامي ١٨٨٥ و١٨٨٧م الجزآن المسميان «الإسلام في الشرق والغرب» تأليف أوجست موللر (١٨٤٨–١٨٩٢م)، واللذان يُعتبران حتى الآن المؤلَّف الشامل المفصل الوحيد الذي عالج التاريخ السياسي للإسلام. ولكن المطلع عليه يلاحظ عليه أنه كتاب أُلِّف وفاءً لطلب، فهناك أجزاء هامة تفتقر إلى الإعداد الأول والدراسة التمهيدية. وما كان يمكن لشخص واحد أن يدرس المادة الهائلة الدراسة الكافية ويقيِّمها ليكوِّن منها عرضًا تاريخيًّا شاملًا، وما كان للتأملات، مهما بلغت من طرافة الصياغة، أن تملأ ما بالكتاب من الفراغات. لهذا لقي كتاب كارل بروكلمَن (١٨٦٨–١٩٥٦م) «تاريخ الشعوب والدول الإسلامية» عندما صدر عام ١٩٣٩م الترحيب من كل جهة (صدرت منه طبعة ثانية عام ١٩٤٣م)، ويصل كارل بروكلمَن في كتابه هذا إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى فيشملها أيضًا، ولكنه عمومًا على حد اعتراف المؤلف نفسه «لا يزال من الأمور الشديدة المخاطرة اليوم أن يكتب الإنسان تاريخًا للشعوب والدول الإسلامية من البداية حتى العصر الحاضر؛ لأن المصادر اللازمة لعرضٍ من هذا النوع لم تُنشر بعدُ كلها، فضلًا عن معالجتها معالجة نقدية.» ويستعرض بروكلمَن كمية ضخمة هائلة من الوقائع مما يجعل القراءة متعبة مملة.
أما كتاب آدم ميتس (١٨٦٩–١٩١٧م) «عصر النهضة في الإسلام» — الذي نشره، بعد موت مؤلفه، هِرمَن رِكِندورف — فكتاب من نوع آخر يختلف عن نوع كتابَي أوجست موللر وكارل بروكلمَن، فهو عرض للثقافة الإسلامية في القرن العاشر الميلادي، يدَع فيه المؤلف المصادر نفسها تتحدث، ويعرف كيف يضم المعلومات التفصيلية الكثيرة التي يوردها بنظامٍ ويُصيغها في جُمل موجزة سائغة للقارئ، ويبدأ بالحديث عن «الدولة» و«الخلفاء» و«الأمراء» و«المسيحيين واليهود» و«الشيعة» و«الإدارة» و«الوزراء» و«المالية» ثم ينتقل إلى الحديث عن موضوعات أخرى تدل عليها عناوين الأبواب الآتية: «الأشراف»، «العبيد»، «العلماء»، «الفقه»، «القاضي»، «الأدب»، «الدين»، «الأخلاق»، «الرزق»، «المدن»، «الأعياد»، «إنتاج البضائع»، «الصناعة»، «التجارة»، «الملاحة النهرية»، «النقل البري»، «الملاحة البحرية». ولكن عنوان الكتاب لم يُختر اختيارًا موفقًا، والمقصود منه أن المجتمع الإسلامي في القرن العاشر أحدث نهضة في بعض العناصر الثقافية التي عُرفت في العصر قبل الإسلامي، وخاصة الهللينية منها.
وقد نشط في قطاع التاريخ مستشرق آخر هو «ريشارد هارتمَن» (١٨٨١–١٩٦٥م)، وتمثل نشاطه خاصة في مؤلفاته: «فلسطين تحت حكم العرب، ٦٣٢–١٥١٦م» (١٩١٥م)، «المقتطَفة التوبنجنية من تاريخ ابن طولون» (١٩٢٦م)، «في التاريخ الأول للخلافة العباسية الظاهرية بالقاهرة» (١٩٥٠م). وله تحليلان طريفان تعرَّض بهما لعالم الإسلام اليوم: «عالم الإسلام قديمًا وحديثًا» (١٩٢٧م) و«أزمة الإسلام» (١٩٢٨م). وينبغي أن نشير من بين مؤلفاته الأخرى إلى كتابه «دين الإسلام – مدخل» (١٩٤٤م) بصفة خاصة. وهناك في قطاع التاريخ أيضًا مؤلفات طريفة لجيورج ياكوب (١٨٦٢–١٩٣٧م) نشير إليها في هذا المقام، عالج فيها العلاقات بين الشرق والغرب في العصور الوسطى: «التجارة الاسكندنافية البلطيقية للعرب في العصور الوسطى» (١٨٨٧م)، «عربي من القرن العاشر يصف فولدا، وشلزفيج، وزوست، وباديبورن، ومدائن أخرى في الغرب» (الطبعة الثالثة ١٨٩٦م)، «تقارير عربية لمبعوثين إلى دواوين أمراء جرمان من القرنين التاسع والعاشر» (١٩٢٧م)، «تأثير الشرق على الغرب أثناء العصر الوسيط خاصة» (١٩٢٤م). أما فالتر بيوركمن (١٨٩٦م) فقد يسَّر استعمال صبح الأعشى للقلقشندي، ذلك الكتاب الضخم الذي يقع في ١٤ جزءًا، بملخص أعده باللغة الألمانية أسماه «فصول في تاريخ ديوان الإنشاء بمصر الإسلامية» (١٩٢٨م). واشترك باول كاله (١٨٧٥–١٩٦٤م)، وم. زوبرنهايم (١٨٧٢–١٩٣٣م)، ومحمد مصطفى في إخراج الأجزاء الأخيرة من تاريخ ابن إياس بين عامَي ١٩٣١ و١٩٤٥م، وهو كتاب مهم في تاريخ مصر في العصر الوسيط المتأخر (وزودته المستشرقة أنيماري شيمل بمجلد فهارس). ونشر إريش طوبف في عام ١٩٢٩م دراسة تفصيلية خاصة «تكوينات البلدان في الأجزاء العربية من تركيا منذ الحرب العالمية، طبقًا لنشأتها وأهميتها وقدرتها على الحياة».
وفي ميدان التاريخ التركي العثماني صنع فرانتس بابينجر (١٨٩١م) له اسمًا، وهو عالم متضلع من مادته، بنشرياته العديدة التي أهمها الكتابان المهمان المفصلان: «مؤرخو العثمانيين وأعمالهم» (١٩٢٧م) وهو كتاب أساسي في هذا الميدان، و«محمد الفاتح وعصره» (١٩٥٣م). ومن بين مقالاته القصيرة مقال مفيد جدًّا نُشِرَ ببعض المجلات هو «الإسلام في آسيا الصغرى» (١٩٢٢م). أما كتابا رودولف تشودي (١٨٨٤–١٩٦٠م) «الخلافة» (١٩٢٦م) و«الدولة العثمانية القديمة» (١٩٢٦م) فيستحقان التنويه رغم تواضع حجميها. ولا يتسع المقام للإشارة إلى النشريات الكثيرة التي ظهرت في العشرينيات والثلاثينيات عن تاريخ تركيا الحديثة.
أصول الدين – تاريخ العقيدة – تاريخ الفرق – تدين وتصوف
المؤلفات التي أخرجتها المطابع في السنوات الماضية خاصة بالحياة الدينية، التي هي الميدان الأوسط لظاهرة الإسلام، كثيرةٌ كثرةً لا يمكن معها الحديث إلا عن طائفة من بينها فقط.
ظهرت مجموعات من النصوص الدينية المستقاة من المصادر مترجمة إلى اللغة الألمانية، منها كتاب يوزف هيل (١٨٧٥–١٩٥٠م) المسمى «من محمد إلى الغزالي» (١٩٢٣م) وكتاب يوزف شاخت (١٩٠٢م) «الإسلام والقرآن» (١٩٣١م) الذي ظهر ضمن الطبعة الثانية للمطالعة في تاريخ الأديان التي نشرها ألفرد برتوليت. وقد ظهر حديثًا (١٩٦٢م) كتاب «عقائد الإسلام» من تأليف هِرْمَن شتيجليكر (١٨٨٥م) وهو عالم نمساوي في اللاهوت، يتحدث فيما يزيد على ٨٠٠ صفحة عن أصول الدين الإسلامي الحنيف حديثًا يشمل أفرعه المتشعبة، وينتهج أسلوبًا مدرسيًّا منظمًا صرفًا، دون أن يتعرض للمادة من أوجه نظر تاريخية مما يسهل على القراء فهمها. وهناك من تأليف هِلموت رِيتر (١٨٩٢م) «دراسة في تاريخ التدين الإسلامي» تضم إشادة مفصلة بالحسن البصري (١٩٣٣م)، وكتاب الغزالي «كيمياء السعادة. مترجم من مختارات عن المصادر الفارسية والعربية» (١٩٢٣م) الذي يُعتبر مدخلًا ممتازًا إلى أعمال الفقه الإسلامي العظيم. وقد أخرج هانس باور (١٨٧٨–١٩٣٧م) أجزاءً من مصنف الغزالي «إحياء علوم الدين» مترجمة إلى الألمانية ومشروحة، وهي: الكتاب الثاني وأسماه: «قواعد العقائد عند الغزالي» (١٩١٢م)، والكتاب السابع والثلاثون وأسماه: «النية والإخلاص والصدق» (١٩١٦م)، والكتاب الثاني عشر «النكاح» (١٩١٧م)، والكتاب الرابع عشر «الحلال والحرام» (١٩٢٢م). وقام تلميذه وخَلَفه هانس فير (١٩٠٩م) بمتابعة السلسلة فأخرج ترجمة وشرحًا للكتاب الخامس والثلاثين من مؤلَّف الغزالي باسم: «كتاب الغزالي في الثقة بالله» (١٩٤٠م). وهناك كتاب في مجلدين من تأليف ماكس هورتن (١٨٧٤–١٩٤٥م) عن «عالم الأفكار الدينية لدى المسلمين المثقفين في الوقت الحاضر» (١٩١٦م) و«عالم الأفكار الدينية لدى عامة المسلمين في الوقت الحاضر» (١٩١٧م).
وقد أخرج المستشرق هِلموت رِيتر، الذي نوهنا إليه من قبل، كتابًا هامًّا عن تاريخ الفرق الإسلامية. وهِلموت ريتر واحد من أهم القائمين بالدراسات الإسلامية ومن أوفرهم إنتاجًا. أما كتابه الذي نعنيه فهو طبعة «مقالات الإسلاميين» للأشعري (ظهر في جزأين عامي ١٩٢٩ و١٩٣٠م ومعه فهارس، وهي المجلدات رقم ١ «أ» و١ «ب» و١ «ج»، من سلسلة المكتبة الإسلامية — البيبليوتيكا إسلاميكا — التي يخرجها ﻫ. رِيتر بتكليف من الجمعية الشرقية الألمانية). وقد أمكن بفضل الاستناد إلى التقرير الموضوعي للأشعري تتبع خطوط تطور تاريخ العقيدة الإسلامية في العصر المبكر تتبعًا تفصيليًّا. كذلك أخرج رِيتر كتاب «فرق الشيعة» للحسن بن موسى النُّوبَختي أو على الأصح لأبي القاسم سعد بن عبد الله الأشعري القُمِّي (المجلد رقم ٤ من المكتبة الإسلامية، ١٩٣١م). أما رودولف شتروتمَن (١٨٧٧–١٩٦٠م) فقد تعمق في دراسة الفرق الإسلامية خاصة إلى أبعد حد، وخص بمقاليه الأولين الرائعين فرقة الزيديين الموجودة باليمن للآن: «مدونات الزيديين» (١٩١٠-١٩١١م) «دستور الزيديين» و«شعائر الزيديين» (١٩١٢م). ثم أتبعهما سلسلة طويلة من الأبحاث ومن الطبعات، خاصة لنصوص من دائرة الشيعة الاثناعشَريين والسبعيين والنُّصَيريين والفرق الأخرى، وتحليلات لها. نذكر منها «بيان مذهب الباطنية وبطلانه» من كتاب «قواعد عقائد آل محمد» لمحمد بن الحسن الديلمي (١٩٣٩م) و«نصوص العلم الرُّوحاني عند الإسماعيليين» (١٩٤٣م) و«مجموع الأعياد والدلالات عند النُّصَيريين لميمون بن القاسم الطبراني، كتاب أساسي في دراسة دولة العلويين السورية» (١٩٤٦م) و«تفسير إسماعيل للقرآن، الأجزاء من ١١ إلى ٢٠، مخطوط عربي أمبروزيانا ﻫ ٧٦» (١٩٥٥م) و«موضوعات باطنية فريدة عند النصيرية» (١٩٥٨م). وفي معرض حديثنا عن الكتب التي تعالج الفرق الإسلامية، ومن ثَمَّ، تعالج الخلاف الإسلامي الداخلي القائم، نشير إلى عمل يدور حول المدافعين المسلمين في العصر الوسيط، وحول موضوعات الخلاف والتشاحن بينهم وبين المسيحية، هو كتاب أردمن فريتش: «الإسلام والمسيحية في العصر الوسيط – دراسات في تاريخ التشاحن الإسلامي مع المسيحية باللغة العربية» (١٩٣٠م).
كان ألفرد فون كريمر، وإجناتس جولدتسهير، وسنوك هورجرونيه يعتبرون التصوُّف ضلعًا مهمًّا جوهريًّا في الإسلام، ثم جاء ريشارد هارتمَن (١٨٨١–١٩٦٥م) وأصدر دراسة خاصة عام ١٩١٤م «عرض القشيري للصوفية (الرسالة في علم التصوُّف)» بيَّن فيها الاتجاهات الفكرية لرجل يمثل صوفية معتدلة تتفق مع الإسلام الحنيف. ونشر جيورج روزِن كتابه «مثنوي الشيخ مولانا جلال الدين الرومي» (١٩١٣م) الذي قدَّم بنشره عيِّنات من العمل الشعري لواحد من الصوفيين الفارسيين البارزين. على أن أفضل دراسة للتصوُّف الإسلامي دراسة حاسمة ترجع إلى المستشرق الفرنسي الفذ، الذي كان يسترسل في التهويم أحيانًا، لُوِي ماسينيون (١٨٨٣–١٩٦٢م)، والذي أخرج كتبًا تُعتبر عُدة الطالب في الدراسات الإسلامية، حتى في الديار الألمانية، منها: «آلام الحسين بن المنصور الحلاج، شهيد التصوُّف الإسلامي، الذي أُعدِم في بغداد في ٢٦ مارس ٩٢٢م» (في مجلدين، ١٩٢٢م)، «دراسة في أصول المصطلحات الفنية للتصوُّف الإسلامي» (١٩٢٢م) و«مجموعة نصوص لم تُنشر من قبل خاصة بتاريخ التصوُّف في البلاد الإسلامية» (١٩٢٩م). ثم جاء ماكس هورتن (١٨٧٤–١٩٤٥م)، وكان قد أشار في عام ١٩١٠م في «مجلة الفلسفة العلمية وعلم الاجتماع» إلى وجود «أفكار هندية في الفلسفة الإسلامية»، وكتب في عام ١٩٢٨م في مجلة الجمعية الشرقية الألمانية — تحت عنوان فيه مبالغة وتكبُّر هو: «فحص فيلولوجي لمحاولات ترجمة نصوص صوفية للحلاج» — مقالًا نقَد فيه نتائج أبحاث ماسينيون، واعتبر الحلاج نفسه مفكرًا من الطراز البرَهْماني. وتولَّد من هذه الاعتبارات تشاحن مؤسف ربما لم تُتَحْ خلاله الفرصة دائمًا لفهم الأمور التي كان هورتن يقولها على الوجه الصحيح. ولريشارد هارتمَن رأي وسط، كأنه اتخذه قبل المعركة ليوفق بين اتجاهيها، نشره عام ١٩١٦م «في مسألة أصل الصوفية وبدايتها» يقول: إن عالم الأفكار والتصوُّرات الإسلامي ينبغي أن يُفهَم أولًا من خلال الإسلام نفسه، دون أن يعني هذا استبعاد التأثيرات الأجنبية المباشرة.
وأتى بعد جيورج روزن مستشرقون آخرون ترجموا في أعقابه عينات من القصائد الصوفية إلى الألمانية، منهم ماكس مايرهوف (١٨٧٤–١٩٤٥م) في «الصوفية الفارسية التركية» (١٩٢١م) وجيورج ياكوب (١٨٦٢–١٩٣٧م) في «الوحدة الصوفية – حنين وتحقق» (١٩٢٢م). وهِلموت رِيتر الذي ظهرت له في كتاب تكريم جيورج ياكوب (١٩٣٢م) ترجمة أدبية ممتازة للنشيد الأول من القصيدة التعليمية الصوفية العظيمة لجلال الدين الرومي، وفي كتاب تكريم رودولف تشودي (١٩٥٤م) «كلمات بايزيد البسطامي»، وفي مجلة «أُورينس» (١٩٥٢م) «الصوفية الإسلامية جدال مع الله». أما أهم عمل أنشأه رِيتر وأسهم به في دراسة الصوفية فهو كتابه العلمي الكبير «بحر الروح – الإنسان والدنيا والله في حكايات فريد الدين العطار» (١٩٥٥م)، ذلك الكتاب الذي يُعتبر بحقٍّ مَعينًا لا ينضب للأفكار الصوفية.
وهناك كتب ومقالات تعالج موضوع الطوائف الصوفية التي أخذت أهميتها تزداد تدريجيًّا في قلب العصر الوسيط والجزء المتأخر من العصر الوسيط، وموضوع الجماعات المشابهة لها، منها: بقلم هرمن تورننج «مقالات لفهم نظام الجمعيات الإسلامي على أساس بسط مداد التوفيق» (١٩١٣م) فيها تفصيلات دقيقة عن قبول المستجدين في طائفة من طوائف الدراويش، وبقلم باول كاله (١٨٧٥–١٩٦٤م) «في تنظيم طوائف الدراويش في مصر» (١٩١٦م)، وبقلم ريشارد هارتمَن «فتوة وملامة» (١٩١٨م)، وبقلم جيورج ياكوب (١٨٦٢–١٩٣٧م) «مقالات في فهم طائفة الدراويش البكتاشية» (١٩٠٨م) و«البكتاشية وعلاقتها بالظواهر المشابهة» (١٩٠٩م)، وبقلم ريشارد رويش «الإسلام في شرق أفريقيا مع مراعاة خاصة للجماعات الإسلامية السرية» (١٩٣٠م). وخص فرانتس تيشنر (١٨٨٨م) الفتوة، وهي تنظيم من الرجال يتابع أهدافًا إنسانية، بأبحاث مستفيضة وطبعات للنصوص، لا نستطيع أن نتعرَّض لها هنا بالتفصيل، ونكتفي بالإشارة إلى مقالتيه العامتين: «جماعات الفتوة الإسلامية – مشكلة نشأتها والخطوط الأساسية لتاريخها» (١٩٣٤م)، و«الفرسانية الإسلامية في وقت الحروب الصليبية» (١٩٣٨م).
الشريعة الإسلامية
رفع جولدتسيهر وسنوك هورجرونيه الفقه إلى درجة الموضوع الخاص الذي تبحثه الدراسات الإسلامية، وأدى هذا إلى نشاط في العالم المتخصص، بما فيه المنطقة الناطقة بالألمانية، وحركة نشر كبيرة. في عام ١٩١٠م ظهر «موجز الشرع الإسلامي على مذهب المدرسة الشافعية» في طبعة مجددة من طبعة ت. ف. يونِبول الأساسية الأصلية بالهولندية عام ١٩٠٣م. أما الدراسات الألمانية الأصيلة التي كتبها مستشرقون ألمان فنذكر منها: «قانون الأجانب الإسلامي حتى الاتفاقات الإسلامية الإفرنجية – دراسة قانونية تاريخية في الفقه» (١٩٢٥م) و«في بناء المؤلفات الفقهية الإسلامية» (١٩٣٥م) ﻟ فيللي هيفننج (١٨٩٤–١٩٤٤م). «في تطبيق الشريعة الإسلامية في القرن السادس عشر – التفسيرات الشرعية لشيخ الإسلام أبي السعود» أخرجها وترجمها وبحثها «باول هورستر» (١٩٣٥م). أما يوزف شاخت (١٩٠٢م) الخبير الأول في ميدان الشريعة الإسلامية في الوقت الحاضر، فقد بدأ دراساته المنوعة للفقه بطبعة من «كتاب الحِيل والمخارج» للخصاف (١٩٢٣م) و«كتاب الحِيل في الفقه» للقزويني (١٩٢٤م)، ثم نشر في مجلة «الإسلام» (١٩٢٦م) عرضًا عامًّا لمدونات الحِيل الفقهية: «المدونات العربية عن الحيل – دراسة في تطبيق الشريعة الإسلامية». كذلك نشر شاخت مقالات عن الموضوعات الآتية: «مهام البحوث في الشريعة الإسلامية» (١٩٢٨م)، «شريعة وقانون في مصر الحديثة – دراسة في موضوع اتجاه التجديد الإسلامي» (١٩٣٢م)، «نظرة اجتماعية في الشريعة الإسلامية» (١٩٣٥م). وفي عام ١٩٣٣م نشر شاخت: «مقتطفات القسطنطينية من كتاب الاختلاف للطبري». كذلك اشتغل جوتهلف برجشتريسر (١٨٨٦–١٩٣٣م) بمسائل الشريعة الإسلامية اشتغال العالِم المتعمق، وعبر عن آرائه فيها بصفة أساسية في مقالتين هامتين نُشرتا ببعض المجلات: «بداية التفكير التشريعي في الإسلام ومميزاته» (١٩٢٥م) و«في منهج البحث في الفقه» (١٩٣١م). وأخرج شاخت من مخلفات برجشتريسر الذي مات مبكرًا، مخطوط محاضرات منظمة ألقاها في الفصل الدراسي الشتوي (١٩٢٨-١٩٢٩م) عن المميزات الأساسية للشريعة الإسلامية، ونشره باسم: «المميزات الأساسية للشريعة الإسلامية، بقلم جوتهلف برجشتريسر» (في سلسلة الكتب التعليمية لقسم اللغات الشرقية ببرلين، ٣٥، ١٩٣٥م). ويبدأ الكتاب بتقرير معبِّر مؤثر: «الشريعة الإسلامية بمعناها الواسع الذي يشمل تنظيم الشعائر كذلك، هي المضمون الحقيقي للروح الإسلامية الأصيلة، وهي التعبير الحاسم عن التفكير الإسلامي، إنها النواة الجوهرية للإسلام على الإطلاق.»
الفلسفة والطب والعلوم الطبيعية والرياضة
لقيت الفلسفة الإسلامية منذ منتصف القرن التاسع عشر اهتمام المستشرق فريدرش ديتريتشي (١٨٢١–١٩٠٣م) الذي توفر عليها وأخرج ما يُسمى ﺑ «كتاب الربوبية لأرسطو» ومختارات من «رسائل إخوان الصفا»، و«الدولة النَّموذجية»، ورسائل أخرى للفارابي، وحاول أن يعرض «فلسفة العرب في القرن العاشر اعتمادًا على كتابات إخوان الصفا» (٨ مجلدات). وفي نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين كتب ل. شتاين «في ظهور الفلسفة الإغريقية لأول مرة بين العرب» (١٨٨٩م) و«استمرار الفلسفة الإغريقية والعالم الفكري عند العرب» (١٨٩٨م)، وكتب ي. بوللاك في «تطور الفلسفة العربية واليهودية في العصر الوسيط» (١٩٠٤م)، وكتب ز. هوروفيتس في «أثر الرواقية على تطور الفلسفة عند العرب» (١٩٠٣م) وفي موضوع «أثر الفلسفة الإغريقية على تطور الكلام» (١٩٠٩م). وتبعت هذه الدراسات محاولات لعرض تاريخ الفلسفة الإسلامية في مجموعها: «تاريخ الفلسفة في الإسلام» بقلم ت. ي. دي بور (١٩٠١م) ومن تأليف ماكس هورتن (١٨٧٤–١٩٤٥م) «النظريات الفلسفية للفقهاء المتأملين في الإسلام اعتمادًا على مصادر أصلية» (١٩١٢م) و«فلسفة الإسلام في علاقاتها بالنظريات الفلسفية بالجزء الغربي من الشرق» (١٩٢٤م)، كذلك قام هورتن بكتابة القسم الخاص بفلسفة الإسلام في الطبعة الحادية عشرة من كتاب «أوبرفيج» أساسيات تاريخ الفلسفة (في المجلد الخاص بفلسفة آباء الكنيسة والمتكلمين) الذي ظهر عام ١٩٢٧م وأُعيد طبعه عام ١٩٥١م. بالإضافة إلى هذه الأعمال، كتب هورتن مجموعة كبيرة من الدراسات المستقلة عن النظريات الفلسفية لنفر من الفلاسفة والمتكلمين، وتقريرات سنوية عن الكتب الجديدة في ميدان الفلسفة العربية وما إلى ذلك. كان ماكس هورتن يمتاز بقدرة إنتاجية عجيبة، ولكن أعماله لم تسبر الأغوار كما كنا نتمنى. ونحن نفتقد لديه، قبل كل شيء آخر، ترجمة الطرز الفكرية الكلامية التي يقدمها لنا من العصر الوسيط عن مصادرها إلى الطرز الفكرية في العصر الحاضر. وهناك فيما يعرض موضوعات كثيرة ينبغي أن يتناولها البحث التفصيلي الجزئي أولًا. وإذا انتقلنا إلى العصر الحديث وجدنا أعمالًا قيمة نشير من بينها إلى «مقالات في نظرية الذرات الإسلامية» (١٩٣٦م) بقلم زالمون بينس، و«نظرية الذرات في العصر الإسلامي المبكر» (١٩٣١م) تأليف «أوتو برتسل» (١٨٩٣–١٩٤١م)، و«نظرية الصفات الإسلامية المبكرة وأسسها الفلسفية وآثارها» (١٩٤٠م). ويصل برتسل، استنادًا إلى ما تحت يديه من مادة، وخاصة «مقالات الإسلاميين» للأشعري، إلى نتائج منها: أن النظرية الصفاتية الإسلامية المبكرة لا سبيل إلى وصلها بالفلسفة الإغريقية أو إلى تفريعها عنها، كما كان الناس يظنون بناءً على مصادر متأخرة.
على أن التراث الإغريقي العلمي قد أثَّر بصفة عامة تأثيرًا خارقًا للعادة في نشأة الثقافة العربية الإسلامية، وخاصة تلك الأعمال المختصة بالفلسفة والطب. وقد جمع موريتس شتاينشنايدر (١٨١٦–١٩٠٧م) شتات هذا الموضوع في «الترجمات العربية المنقولة عن الإغريقية» (١٨٨٩–١٨٩٦م، طبعة مكررة ١٩٦٠م). وهناك بقلم جوتهلف برجشتريسر «حنين بن إسحق ومدرسته» (١٩١٣م) وهي دراسة تشمل المترجَم الهام ومنهجه، و«حنين بن إسحق، في ترجمات جالينوس السريانية والعربية» أخرجها وترجمها جوتهلف برجشتريسر (١٩٢٥م)، وأخرجها مزودة باستكمالات مرة ثانية (عام ١٩٣٢م). أما يوليوس هيرشبرج (١٨٤٣–١٩٢٥م) فأخرج دراسات منها «الكتب الدراسية العربية في طب العيون» (١٩٠٥م). وأما ماكس مايرهوف (١٨٧٤–١٩٤٥م) فقد تتبع الطريق التي سلكها العلم الهلليني الإغريقي حتى وصل إلى العرب في «من الإسكندرية إلى بغداد – مقال في تاريخ التعليم الفلسفي والطبي عند العرب» (١٩٣٠م)، وشبيه به تقرير يوزف شاخت (١٩٠٢م) «عن الهللينية في بغداد والقاهرة في القرن الحادي عشر» (١٩٣٦م). وهناك بقلم ماكس مايرهوف أيضًا — وكان يعمل عشرات من السنين في القاهرة طبيبًا للعيون، وألَّف عام ١٩٢٨م «عشر دراسات في العيون» — سلسلة كبيرة من المؤلفات الصغيرة ومن المقالات المنشورة في المجلات تدور حول موضوعات طبية تاريخية، منها مثلًا: «نظرية أرسطو في النور عند حنين بن إسحق» (١٩١١م)، «في تاريخ الدواء المصري للعيون ششم» (١٩١٣م)، «كتاب عربي مجهول في طب العيون من القرن الحادي عشر» (١٩٢٨م)، «في علم العقاقير وعلم النبات لأحمد الغافقي» (١٩٣٠م)، «مقدمة لعلم العقاقير للبيروني» (١٩٣٢م)، «ابن النفيس ونظريته في الدورة الرئوية» (١٩٣٥م).
وقد اشتغل بالعلوم الطبيعية في الإسلام خاصة إيلهارت فيديمن (١٨٥٢–١٩٢٨م) ويوليوس روسكا (١٨٦٧–١٩٤٩م). ألَّف فيديمن عددًا هائلًا من المقالات الصغيرة تدور حول موضوعات مختلفة خاصة في ميدان الفيزياء والتكنيك (منها حوالي ٧٠ في تقريرات جلسات جمعية الفيزياء والطب في إرلنجن). واشترك مع فريدريش هاوزر في إخراج مؤلَّف كبير عن «الساعات في مجال الثقافة الإسلامية» (١٩١٥م). وألَّف روسكا طائفة من المقالات نُشرت بالمجلات، علاوة على دراسات مستقلة مختلفة منها: «خالد بن يزيد بن معاوية» (١٩٢٤م)، «جعفر الصادق – الإمام السادس» (١٩٢٤م)، «لوح الزبرجد – دراسة في تاريخ المدونات السحرية» (١٩٢٦م)، «كتاب الزاج والأملاح» (١٩٣٥م)، وترجمة ألمانية لكتاب الرازي «سر الأسرار» (١٩٣٧م). أما تلميذ روسكا، المستشرق باول كراوس (١٩٠٧–١٩٤٦م) الذي مات مبكرًا، فقد اشتغل في الميدان نفسه، وأخرج «جابر بن حيان – مقال في تاريخ الأفكار العلمية في الإسلام» (١٩٤٢-١٩٤٣م). وأما مارتن بلسنر (١٩٠٠م)، مؤلف كتاب «تدبير المنزل لبروسون الفيثاغوري المحدَث وأثره على العلم في الإسلام» (١٩٢٨م)، فقد كتب دراسةً عن «مواد جديدة في تاريخ لوح الزبرجد» (١٩٢٧م). وأخرج ألفرد زيجل (١٨٨٤–١٩٥٩م) «قاموس عربي ألماني لمواد عوالم الطبيعة الثلاثة التي ترد في مخطوطات الخيمياء العربية» (١٩٥٠م)، و«أسماء سرية في مدونات الخيمياء العربية» (١٩٥١م) و«فهرس مخطوطات الخيمياء العربية في ألمانيا» (١٩٥٦م)، وترجم زيجل، علاوة على ذلك، الأجزاء الخاصة «بطب النساء، وعلم الأجنة وصحة النساء» و«الكتب الهندية» و«الفصول التمهيدية» من كتاب فردوس الحكمة لعلي بن ربَّن الطبري (١٩٤١، ١٩٥٠، ١٩٥٣م).
أمَّا حديثنا عن الدراسات التي أُجريت في ميدان الرياضة والفلك فسيقل بكثير عن حديثنا عن الدراسات التي تمت في ميدان العلوم الطبيعية، وقد كان بدوره يلتزم الإيجاز. اشتغل في ميدان الدراسات الدائرة حول الرياضة والفلك عند العرب هاينرش زوتر (١٨٤٨–١٩٢٢م) خاصة، وخلَّف لنا دراسة شاملة هي: «الرياضيون والفلكيون العرب وأعمالهم» (١٩١٠م)، ثم تلاه كارل شُوي (١٨٧٧–١٩٢٥م)، وباول لوكاي (١٨٨٤–١٩٤٩م)، فنشر كارل شوي «في ظل الميل وجداول الظلال في علم الفلك العربي – مقال في حساب المثلثات عند العرب استنادًا إلى مخطوطات لم تُنشر» (١٩٢٣م) و«نظريات حساب المثلثات عند الفلكي الفارسي البيروني» (١٩٢٧م)، ونشر لوكاي مؤلفات نشير على الأقل إلى آخرها الذي ظهر بعد وفاته «علم الحساب عند جمشيد بن مسعود الكاشي ولمحات إلى التاريخ القديم للحساب» (١٩٥١م).
علم الآثار وتاريخ الفن
لعلم الآثار الإسلامية وتاريخ الفن الإسلامي حياتهما الخاصة يَحيَيانها بوصفهما عِلمين مستقلين، وإن اتصلا بصلاتِ تبادلٍ وثيقة أحدهما مع الآخر، وارتبطا بالدراسات الإسلامية بمعناها الواسع. وهما، إذا كانا حديثَي النشأة، لا يبلغان من العمر إلا عشرات قليلة من السنين، قد بلغا في هذه الفترة القصيرة ازدهارًا تامًّا، بفضل الكفاءة العلمية العالية والقدرة التنظيمية البارعة التي تميَّز بها العلماء الذين أنشئوهما وطوروهما. وقد لعب التحمس الشخصي هنا دورًا حاسمًا، كما هي الحال في كل عمليات الإنشاء الجديدة.
خرج الحافز الأول من السويسري ماكس فان بِرْشِم (١٨٦٣–١٩٢١م) الذي أسس علم النقوش العربية. ولكن فضل تأسيس علم الآثار العربية بحقٍّ يرجع إلى الرائدَين فريدرش زاره، وإرنست هِرتسفِلد، كما يرجع فضل دفع تاريخ الفن الإسلامي ورفعه في النهاية إلى مرتبة العلم القائم بذاته إلى إرنست كونِل، يعينه ويسانده في ذلك فِيلهلم فون بُوده (١٨٢٤–١٩٢٩م) الذي بذل الجهود لإنشاء قسم خاص مستقل للفنون الإسلامية بالمتاحف البرلينية.
نظَّم فريدرش زاره (١٨٦٥–١٩٤٥م) رِحلات مختلفة للتنقيب عن الآثار، من بينها رحلة اشترك فيها مع إرنست هرتسفلد، واتجهت إلى منطقة الفرات ودجلة، وتمكَّنت في جولتين من اكتشاف مقر العباسيين في سامراء، قبل أن تندلع نيران الحرب العالمية الأولى. ونُشرت نتائج هذه الحفريات بعد ذلك في ستة مجلدات، ظهرت الخمسة الأولى منها «حفريات سامراء» بين عام ١٩٢٣م وعام ١٩٣٠م، وظهر المجلد السادس «تاريخ مدينة سامراء»، بقلم إرنست هرتسفلد عام ١٩٤٨م. وكان فريدرش زاره محبًّا للآثار الإسلامية يهوَى جمعها، وقد عرض مجموعته على سبيل الإعارة في برلين عندما عُيِّن عام ١٩٠٤م رئيسًا شرفيًّا للقسم الإسلامي بالمتاحف البرلينية. وأسهم بصفته رئيسًا علميًّا في إقامة «معرض روائع الفن الإسلامي» الكبير وإنجاحه في ميونخ عام ١٩١٠م. وألَّف «رسومات رضا عباسي» (١٩٠٤م) الذي يبيِّن مدى اهتمامه واشتغاله بفن تصوير الرسومات الدقيقة عند الفرس، ونشر «مجلدات كتب عربية» (١٩٢٣م) به صور من مجموعته ومن المجموعات المحفوظة بالمتاحف، كذلك اهتم بفن السجاد والسيراميك والفن السلجوقي الدقيق وكتب عنها.
أمَّا إرنست هرتسفلد (١٨٧٩–١٩٤٥م) فكان معماريًّا أصلًا، وحصر نشرياته في مجال علم الآثار والطبوغرافيا (علم تخطيط الأرض). كتب مقالًا بعنوان «نشأة الفن الإسلامي ومشكلة مَشْتَى» (١٩١٠م) تناول فيه بالدرس البناء الذي وصلت واجهته إلى برلين كهدية من السلطان عبد الحميد وحفظت في متحف القيصر فريدرش ببرلين، واعتبره قصر أحد الخلفاء الأمويين المتأخرين. وكتب دراسة أخرى موضوعها «بحوث في الجغرافية التاريخية لمنطقة دجلة والزاب الصغير وجبل حرمين». أمَّا أهم عمل أدبي له فقد قدمه في الكتاب الذي أشرنا إليه من قبل عن حفريات سامراء. ولا بأس من أن ننوِّه إلى أن زاره وهرتسفلد اهتما كلاهما بآثار إيران وأثمر اهتمامهما بها الشيء الهام.
ثم يأتي إرنست كونل (١٨٨٢–١٩٦٤م) الذي أتاحت له رحلاته العديدة وأعماله في ميدان المتاحف معرفة مباشرة دقيقة بالفن الإسلامي وأفرعه المختلفة المتباينة المتعددة، وكان إلى هذا يتمتع بموهبة تنظيم آرائه العلمية ونتائج أبحاثه في مؤلفات جامعة كبيرة، وعرضها في شكل ميسور في متناول جمهور واسع من القرَّاء. وإليك نماذج من عناوين مؤلفاته الكثيرة، خاصة من تلك التي تفتح الأفق بصفة عامة: «التصوير الدقيق في الشرق الإسلامي» (١٩٢٢م)، «الفن المغربي» (١٩٢٤م)، «الفنون الإسلامية الدقيقة» (١٩٢٥م، طبعة ثانية ١٩٦٣م)، «رسوم هندية دقيقة» (١٩٣٧م)، «فن الخط الإسلامي» (١٩٤٢م)، «الزخرفة العربية. معنى وتحور زخرفة». (١٩٤٩م). وأسهم إرنست كونل بمقالات قيمة في الطبعة الثالثة من كتاب فيلهلم فون بوده «سجاد بلدان آسيا الدنيا في العصور القديمة» (١٩٢٢م، الطبعة الرابعة ١٩٥٥م). أمَّا كتابه الأخير «المشغولات العاجية الإسلامية». فهو جاهز للطبع.
ونحب في هذا المقام أن نشير إلى كتابين عامَّين مهمين لمؤلفَين آخرَين. كتاب إرنست ديتس «فن الشعوب الإسلامية» (١٩١٥–١٩١٧م)، وكتاب هاينرش جلوك وإرنست ديتس «فن الإسلام» (المجلد الخامس من تاريخ الفن للناشر بروبلين، ١٩٢٥م). وقد اضطلع هاينرش جلوك في الكتاب الأخير — «فن الإسلام» — بكتابة الأجزاء الآتية: «مقدمات وبدايات» و«العمارة في البلدان العربية والتركية»، «فن الكتاب وفن التصوير الدقيق»، واضطلع إرنست ديتس بكتابة: «عمارة الديار الفارسية والهند» و«الصناعات الفنية الإسلامية».