عودة أبي زيد إلى نجد والرحيل والحرب
كان أبو زيد الهلالي على الدوام مفتونًا بحياة الصعاليك وبسطاء الناس والخارجين على كل قانون ومنطق وما هو متعارف عليه.
فما إن أطلق سراحه وحده دون رفاقه الأربعة الهلاليين الذين أودعوا السجن، يونس ومرعي ويحيى والجارية المغنية مي الحزينة، ليعود إلى أهله وعشائره عرب المشرق، ومركزهم نجد، ليأتي عائدًا بالإثبات والفدية لإطلاق سراح بقية الرهائن الهلاليين الأربعة؛ حتى انطلق من فوره بحثًا عن مجموعة من الصعاليك ما بين شعراء جوالين وحواة وحَكَوَاتِيَّة يقيمون بوادي «الرشراش» الفسيح المزهر خارج بوابات وقلاع قرطاج.
كان أبو زيد قد أودع لدى أولئك الصعاليك أمانة، وهي حصانه «أبو حجلان»، قبل التسلل هو ورفاقه بالحيلة إلى داخل أسوار تونس المنيعة بعد ادعائهم مختلف العلل والشعوذة لحراسها.
لذا فما إن أطلق الزناتي والعلام سراحه ورافقته عيونهما الراصدة لحين وصوله إلى بوابات قرطاج منفلتًا خارجًا، عقب سلسلة من الكمائن التي وضعها العلام في طريقه لإعادة أسره حيًّا أو ميتًا، وهي كمائن ومصايد حسب لها أبو زيد ألف حساب، مما يسر له تفاديها ليجد نفسه وحيدًا حرًّا على طول امتداد سهول وتلال وادي الرشراش الفسيحة الموحشة.
فمضى من فوره بحثًا عن حصانه دون أن تغيب عنه لومضة خاطفة صورة الزناتي فارس تونس وابن أخته العلام.
ومن عادات أبي زيد الهلالي وما اشتُهر عنه قدرته الفائقة على إعمال خياله، والتنبؤ الدقيق بتفاصيل ومصاعب ووعورة ما يمكن أن يحدث ويقع له من مصائب قبل حصولها.
فهو لا يترك أبدًا للصدفة منفذًا لإطباق حصارها سواء جاءت تلك الصدفة وعشوائياتها لتعرقل مسيرته من جانب طريق وعر، أو خدعة حربية أو تفوق لقوى قد تتصدى لفيالق وكتائب الهلاليين التي كثيرًا ما كان يأخذ على عاتقه مهمات سلامتها، وتذليل واختراق ما يواجهها من صعاب.
من هنا مضى أبو زيد يراجع نفسه متذكرًا ما حدث له ولرفاقه داخل أسوار تونس، وخاصة وجهي فارسيها خليفة الزناتي والعلام، وذلك منذ قدومهم إلى استطلاع مهمتهم داخل قرطاج تونس، فوقع لهم ما وقع من العلام بن هضيبة وزناتي تونس الذي واجهه أبو زيد داخل قصر العزيزة بلحمه وشحمه وهو لا يصدق عينيه ومشاعره.
فلقد مضى يستطلعه عن قرب وكما لو كان يتعرف مسالك طريق أو خطة حربية من تلك التي اشتُهر بها أبو زيد.
توقف أبو زيد الهلالي مستطلعًا بعينيه، مُطْلقًا بصره على الأفق اللانهائي لوادي الرشراش الفسيح المغطى بالكلأ، والذي على سفوح مرتفعاته وعبره ستجرى يومًا «وقائع» الهلالية مع الزناتي والعلام وجيوشهما الجرارة وعمقها الممتد على طول المغرب العربي والجزائر حتى الأندلس.
تصور أبو زيد بعميق خياله سيول الدم المراق الذي سيجري أنهارًا عند أخاديد وادي الرشراش الذي سترابط فيه كتائب وفيالق الهلالية فارضة حصارها على بوابات وقلاع قرطاج وما يتبعها ربما سنين طوال، مطالبين بالإفراج عن أسراهم الثلاثة أمراء يونس ومرعي ويحيى أبناء السلطان حسن بن سرحان، الذين وعلى عكس كل تصور غرقوا بكاملهم كلٌّ في قصة حب وعشق دامية، وكما لو كانوا على موعد معها أو كانوا مجرد عطاشى في أعماق الصحارى العربية عثروا على مائهم يروي ظمأهم.
وذلك حين استجاب يونس — رغم تحذيرات أبي زيد — في حب عزيزة إلى حد أنهما أصبحا لا يفترقان لحظة.
ونفس الشيء وقع لمرعي مع سعدى بنة الزناتي، بل وحتى الأمير الصغير يحيى الذي استهوته مي الحزينة، فأصبح لا ينام ويصحو إلا عليها وعلى شمائلها وصوتها الأخاذ.
صحيح أن ذلك لم يكن أبدًا غايتهم ومقصد آمالهم، وهدف ريادتهم من نجد المرية إلى قرطاج عبر تلك الرحلة المضنية ومخاطرها، لكن لا بأس طبعًا مما حدث من حب وعشق وغرام طالما أنها ستكون السياج الحامي والحافظ لسلامة الأمراء الثلاثة، خاصة يونس الذي يضعه أبو زيد في موقع حدقتي عينيه.
بل إن ذلك الحب الذي يكنه أبو زيد ويحفظه في قلبه قد تضاعف قبل مجيئهم مباشرة إلى تونس، تلك التي تركه الآن بها قابعًا مع أخويه داخل أغوار سجونها الموحشة مسهَّدًا متيمًا بحب عزيزة.
– مسكين يونس ولدي!
تضاعف حب الخال أبي زيد ليونس منذ أن اقتحمه وتوصل إليه بخلوته في وادي الحجاز عقب لقائه المأساوي بالأميرة العالية بنت جابر بجمالها وحضورها الآسر، فأحبها من فوره رغم أنه قاتل شقيقيها في أحد غزواته ومعاركه، ثم كيف تصرف يونس بحكمة ماهرة إلى أن نال مشتهاه بزواجه بالعالية.
إلا أن فرحته هو ذاته — أبو زيد — بالزواج من العالية لم تكتمل حين فضل طائعًا الإسراع بالخروج في هذه المهمة، التي ويا للأسف يعود منها وحده بعدما خلف رفاقه الأمراء الثلاثة مودعين سجون تونس لحين عودته بفديتهم!
غمغم أبو زيد ساخرًا لنفسه وهو يضرب بنعليه حواري ومتاهات ذلك النجع الذي ترك به حصانه وبقية مهامه ولوازمه لدى أحد عيون الهلاليين لحين عودته.
– نرجع بجيوش الهلالية حالًا يا علام.
حتى إذا ما استرد حصانه ومضى ليلته بوادي الرشراش ودع مريديه بحرارته المعهودة وامتطى حصانه مع الغسق مطلقًا العنان إلى نجد المرية، يسابق ريح الصباح المعبَّقة بعطر تونس وتخومها.
كانت مهمة فارس بني هلال أكثر وحشة ووعورة مع العودة عنها مع المجيء إلى هذه الديار؛ نظرًا بالطبع إلى وحدته من دون رفاقه، ونظرًا أيضًا لأن عليه الإلمام بكل الدقة لكل جديد أو تغيير طرأ على البلدان والأقوام التي ستمر بها — فيما بعد — الهجرة الهلالية يتقدمها جيشها الحامي الفاتح.
ففي مصر العدية وجد الأمور كما هي مع حاكم صعيدها الماضي «ابن مقرب» حليف الهلالية الوفي؛ نظرًا إلى إخلاصه وثباته على محالفتهم.
لكن المشكلة قد تطول بهم — أي الهلاليين — في دمشق وفلسطين لتصبح أقل كثيرًا في بلاد السرو وعبادة — الأردن اليوم — وحلب الشهباء ووادي الرافدين عامة.
كان عليه الإلمام المستفيض بمجريات أمور وصراعات هذه الأقوام المتاخمة.
وكان لأبي زيد الهلالي طرقه الخاصة لحشود الأحداث والمعلومات التي عليه اختزانها بشكل يحقق فائدتها عند الحاجة دون كثير عناء ودون الاعتماد فقط على الذاكرة، خاصة إذا ما تطلب الأمر تحقيقها على الخرائب ومسالك الطرق وكيفية عبورها برًّا أو بحرًا أو حتى الاضطرار إلى تحقيقها وشقها في حالة عدم وجودها.
فمن أقوال الهلاليين التي اشتُهرت عنهم: أشق الطريق إن لم أجده.
ولذا ما إن تحقق لأبي زيد التوصل إلى أهدافه ومبتغاه، حتى اتخذ طريقه إلى نجد محملًا بكل جديد من يانع المعلومات التي تعجِّل بالهجرة، وما تتطلبه بالضرورة من دفاع وحرب.
حتى إذا ما شارف أبو زيد معالم نجد سرًّا ليلًا ترجل عن حصانه، مسلمًا قياده لأول من صادفه بها وكأنه كان على موعد شديد الدقة مع وصوله.
– أبو قمصان …
فهو الذي رحب به مقتضبًا كعادته، وكأنهما لم يفترقا لشهور طويلة أُقيمت الدنيا فيها وأُقعدت مرات إثر مرات، قائلًا في تعاليه: أين الشباب؟
– بسجون تونس.
قال أبو القمصان بتعاليه: تونس، تقصد قرطاج.
– أنا متعب يا أبا القمصان.
أشار أبو القمصان: إذن عليك بالأميرة العالية الليلة.
وهكذا أخذ أبو زيد من فوره بنصيحة — إن لم يكن صيغة أمر — أبي القمصان متجهًا من فوره إلى قصره ومضاربه.
حتى إذا ما استقبلته زوجته العالية بكل الحب والترحاب وهي تمسح دموعها الغزيرة في وجهه ولحيته: أبو زيد، حبي، لم أعد أستطيع فراقك غمضة عين.
وهنا أردف أبو القمصان قائلًا: كانت تفك غلَّها في ريش طيور البيت من إوز ودجاج لتنتفها في حرقة.
ولم يتمالك أبو زيد والعالية من الضحك حين نطق أبو القمصان موضحًا: حرقة الفراق.
ولم تطل فرحتهما باللقاء كالعادة منذ زواجهما، فسرعان ما عرف وانتشر خبر وصول أبي زيد الهلالي سرًّا ليلًا ليسري سريان النار في هشيم الضواحي والبوادي.
وعلى الفور تجمعت الوفود من كل صوب وحدب باتجاه مضارب أبي زيد منشدة ومغنية:
وهكذا لم يجد أبو زيد مهربًا للحظات يختلي فيها بالعالية حبيبته — الذي أدماه فراقها — بعدما أُرغم على الخروج والالتقاء بالوفود التي تقاطرت على مضاربه مرحبة مستطلعة.
إلى أن جاءه ركب السلطان حسن بن سرحان ذاته، وبصحبته أخته الجازية وقاضي القضاة بدير بن فايد والأمير زيدان الهلالي شيخ الشباب.
وكذلك جاء دياب بن غانم وابنته «وطفاء»، وأزِمَّة بني زغبة الذين قدموا من اليمن إلى نجد في فترة غيابه، تمهيدًا لما ستسفر عنه الريادة للتعجيل بالخروج والرحيل.
وما إن تصافح أبو زيد مع الجميع حتى برز التساؤل المؤرِّق حول مصير الأمراء الشبان.
– يونس ومرعي ويحيى، ومصيرهم؟
هنا فاجأ أبو زيد السلطان حسن والجميع بأنهم مودعون سجون الزناتي والعلام بتونس كمتسللين وجواسيس، بينما أطلقوا هم سراحه ليرجع إلى هنا — نجد — ويعود من جديد بفديتهم.
عندئذ علا الحزن والكمد وجه السلطان حسن لفقده أولاده الثلاثة: يونس … أكبادي!
وحاولت الجازية من جانبها الاستزادة من دقائق وتفاصيل ما حدث من أبي زيد الذي حكى لهم كل ما توصل إليه من أخبار ومعلومات لحين وصولهم تونس، والتحايل على دخولهم ووصولهم إلى أقصى المراكز الحاكمة بها، وكيفية لقائه بالزناتي خليفة وابن أخته العلام بن هضيبة.
إلى أن كان حدث التشكك في نواياهم ومجيئهم إلى قرطاج الذي انتهى باعتقالهم جميعًا من داخل قصر ضيافة الأميرة عزيزة ابنة سلطان تونس المريض معبد بن باديس، ليودَعوا غياهب ومطمورات سجون تونس، لحين الإفراج عنه وإطلاق سراحه ليعود بفدية الأمراء المحتجزين.
– هذا ما حدث.
وقبل أن يتم أبو زيد حديثه كان مجلس المشورة قد استعد للانعقاد داخل قصر السلطان حسن الهلالي والجازية، وحسم الأمر بإعلان أمر الرحيل إلى تونس لفك أسر الأمراء يونس ومرعي ويحيى.
وعلت على الفور طبول الحرب النَّدُوبة المتوارثة منذ ملوك وتباعنة اليمن والمعروفة بالرجروج؛ إيذانًا بالرحيل والحرب.