النساء يحلقن شعورهن استنجادًا بدياب
عمت الأفراح في تونس وقلاعها ابتهاجًا بذلك النصر الكبير الذي أوقعه الزناتي بالهلالية، بدحره لقواتهم وقتل قادتهم وأمرائهم خارج بوابات قرطاج منذ وصولهم إليها ونزولهم وادي الرشراش.
وكان آخر أولئك القواد رأس التحالف العراقي الخفاجا عامر الذي تمكن منه الزناتي بالحيلة والمكيدة، التي اضطلع بتصميمها ابن أخته العلام، فجاء حادث مصرعه الفاجع داخل أغوار استراحته بجناين الورد اغتيالًا أكثر منه قتلًا.
بل إن هذه الانتصارات غير المتوقعة رفعت بدورها من شأن العلام وأعادت إليه ثقته بنفسه وقدراته، فلعلها وبعدما أصبحت حديث الجميع في قرطاج وتوابعها تصل يومًا إلى أُذني بنت معبد التي ألحقت به الإهانات المشينة دفاعًا عن فتاها الجديد يونس وبقية عيون وجواسيس بني هلال، الذين تشدد العلام في عدم تسليمهم لذويهم وقبائلهم مهما حدث.
– طالما أنهم تسللوا إلينا بكامل إرادتهم.
أما عزيزة فقد داهمتها الأحزان لحزن حبيبها يونس الذي كان يتابع — مع مرعي ويحيى في حزن غائر بليغ — ما يحدث لقومه من اندحار وهزائم وقتل لفرسان وقادة الهلاليين.
وذلك منذ أن تواترت إليهم الأخبار — في سجنهم الملحق بقصر عزيزة — بوصول القوات الهلالية إلى تخوم العاصمة التونسية قرطاج لتحريرهم من أسرهم، فانفرط عقد تحالفهم، مما مكن الزناتي والعلام منهم على هذا النحو.
كان يونس دائم التساؤل وهو في سجنه الذي لزمه وأصبح لا يبرحه مهما حاولت عزيزة التخفيف عنه واصطحابه إلى قصرها: ما الذي يحدث خارج بوابات قرطاج؟
كان يصرخ ملتاعًا غير مصدق: أحقًّا ما يحدث من كوارث؟!
كانا قد تعاهدا على الزواج، بل إن كلًّا منهما عقد العزم على ذلك باختياره الكامل، ولم يتبق سوى تحقيق ما يستلزم هذا من إجراءات ستحدث يومًا مهما انتهت إليه ظروف المعارك والحرب المستعرة بين قوميهما.
والشيء ذاته اتفق عليه مرعي مع سعدى بنة الزناتي التي أصبحت لا تفارقه خوفًا عليه من مؤامرات العلام الذي تضاعفت سطوته خاصة منذ وصول الهلالية بجحافلهم، وما ألحقه بهم من سلسلة الكمائن الناجحة ضد مؤنهم وإمداداتهم التي يسببها ثم انتداب دياب بن غانم لحمايتها.
وهو بالطبع ما ترتب عليه إبعاده عن المقدمة والقيادة.
وتعرف سعدى أكثر من غيرها مدى كره وهواجس وتخوف والدها الزناتي من دياب بن غانم وحربته، بل هي لا تنسى ما مدى فرحته الكبرى حين حمل إليه العلام ذاته أنباء الخلافات التي وقعت بين الهلاليين وانتهت بإبعاد دياب عن القيادة، ليتولى حراسة الإمدادات والبوش في ذلك الجيش المخذول.
بل إن يونس ومرعي شعرا بدورهما بمدى تعاظم الخلافات التي أصبحت تلتهم الهلالية وتفت في عضدهم كمثل سوس ينخر خشب الزان.
– لعبت يا سوس في الصندل وخشب الزان!
وهنا أصيب الفتيان الثلاثة بما يشبه الخذلان المرير داخل سجنهم الذي لازموه ثلاثتهم في حالة دائمة من الترقب وآذانهم لا تغفل عما تحمله أخبار نهاية المعارك الضارية تلك التي كانت تستعر يومًا بعد يوم وعامًا بعد آخر حول بوابات تونس، والتي كانت تسفر كل مرة عن تساقط رءوس بني هلال التي ظلت مشهرة طويلًا، ولا سيما رءوس القادة والأمراء الذين هم في موقع القلب والرأس لدى الهلاليين.
كما أنهم بالنسبة إلى الأمراء الأسرى الثلاثة في موقع الأعمام وأبناء الأعمام والأصدقاء ورفاق الجهاد الطويل:
– الأمير زيدان الرياحي.
– الأميران الشقيقان نصر وعقيل.
وهنا تعالت أشعار المراثي والبكائيات:
بل الغريب هو اختلاط المأساة بالملهاة داخل سجن الفتيان الثلاثة، حين أعلن الزناتي خليفة بنفسه أنه سيهب ابنته سعدى مكافأة لمن يقدم على منازلة الأمير «عقل» وقتله، ووصل النبأ إليهم داخل سجنهم فتندر له مرعي وهو يواجه به سعدى: لعلكِ الآن في انتظار الفارس القرطاجي المنتصر القادم!
ساعتها لم تعط سعدى جوابًا، بل هي طوقت رأسها بساعديها ألمًا من تندر مرعي بها على هذا النحو وكأن لها يد فيما يجري خارج أسوار وبوابات تونس.
إلى أن قاربها مرعي في حنو مُصالحها عبر تلك الأحزان الثقيلة المخيمة على رءوس الجميع من محاربين وأسرى.
فتحت ضربات الزناتي التي تساقطت لها رءوس القادة الهلاليين، أصبحت الجماهير تلهج باسمه منشدة بملاحمه ومنازلاته ضد أعمامهم وأبناء عمومتهم، الذين كانوا يتهاوَوْن الواحد تلو الآخر في مطلع نهار كل يوم جديد.
كان كل ذلك يجري على مقربة منهم ويصل أسماعهم، ويونس بالذات يعيد تساؤله متحسرًا مدركًا أن السبب الكامن وراء هذا الدم الهلالي المسفوح هو: الانقسامات وما يفضي إليه التطاحن القبلي بين أجنحة التحالف الهلالي المختلفة.
ذلك أن اغتيال الخفاجا عامر واندحار تحالف جيش العراق من بعده، لم يكن سوى فاتحة طريق لانفراط عقد الهلالية، فسرعان ما أعقبه خبر استشهاد القاضي الكبير بدير بن فايد، ثم تبعه الأمير بدر بن غانم الذي قطع الزناتي خليفة رأسه عن جسده بضربة واحدة من سيفه، حيث أرسله إلى تونس وهو ما يزال في ميدان المعركة ليعلَّق على بواباتها السبعة إلى جوار رأس أخيه الأمير زيدان شيخ الشباب، وظل يصول ويجول متحديًا الجميع.
وفي اليوم التالي نازل الزناتي ولديه نصر وعقل اللذين تحدياه انتقامًا لأبيهما فقتلهما الواحد تلو الآخر.
وهللت تونس عن آخرها وكبَّرت حين استقبلت رأس الأمير عقل الذي استبسل طويلًا خلال منازلته الزناتي، الذي — أي الأخير — كان قد وعد في وقت سابق كبار فرسانه ذات يوم بأن من يقوى على قتاله وقتله سيهبه ابنته سعدى زوجة وحليلة، إلى أن تمكن الزناتي نفسه من قتله وجز رأسه بخنجره المسلول.
وكان أن بكتهما أمهما الأميرة هولة بأقوى مراثيها:
وهكذا بدأت الهلالية خاصة نساءهم في رفع الصوت إزاء الأخطار والهزائم المتوالية طلبًا واستنجادًا بعودة دياب بن غانم إلى القيادة والمقدمة، بل إن الخاطر ذاته مر في فكر الفتيان الثلاثة في سجنهم الملحق بقصر عزيزة ابنة سلطان تونس معبد بن باديس.
– أين دياب الخيل؟!
فحتى الأميرة سعدى ابنة خليفة الزناتي بدأت هي بدورها تحاوطها الهواجس والمخاوف المتنازعة، ما بين حبها للأمير مرعي ابن سلطان بني هلال وبين تلك الكوابيس التي حطت على رأس والدها الزناتي خليفة من تفاقم الموقف، إلى حد المطالبة بعودة دياب بن غانم الذي أصبح والدها الزناتي لا يطيق سماع اسمه.
– أبعدوا دياب بن غانم بكل الطرق عن بوابات تونس.
وكثيرًا ما فاتحت سعدى صديقتها عزيزة التي لا تُخفي عنها خافية بمثل هذه الخواطر، التي أصبحت تتكاثر في الأيام الأخيرة، وهي تحط بمعظمها على كاهل والدها الزناتي، برغم ما يحققه كل يوم لتونس وتوابعها من انتصارات عمت كل الآفاق مشرقًا ومغربًا، إلا أن ذكر اسم دياب بن غانم أمام الزناتي كان يقلب كيانه كله رأسًا على عقب.
بل إن هذا بذاته ما تناهى إلى أسماع سعدى من حبيبها وهو يحادث له يونس مرات عديدة: ماذا يحدث؟! أين دياب؟!
إلى أن لاح بصيص من أمل، فقد تسللت ذات يوم مي الحزينة التي أصبحت تعيش بصحبة عزيزة لا تفارقها لحظة إلى داخل سجن الأميرين لتبلغهما بتمكن خالهما أبي زيد من التسلل خفية إلى داخل العاصمة متنكرًا بمساحيقه بصحبة الأميرة الجازية وبضع نساء هلاليات، بغية زيارتهما والاطمئنان عليهما وسماع مشورتهما إزاء ما يحدث.
ولم يمضِ وقت كثير ومي الحزينة تحادثهما حتى انشقت الأرض عن أبي زيد الهلالي في زي درويش فقير مهلهل الثياب وتقدم منهما مُسَلِّمًا ومرحبًا، مستبشرًا كعادته لا يكف عن إطلاق نكاته وتهكماته.
– سجن ملوكي هذا! سجن على الجرح يا يونس، بالأحضان، هانت، هانت.
ولم تطل بهم دهشتهم، إذ إنهم اندفعوا من فورهم معلنين رفضهم لما يحدث للهلالية نتيجة الخلافات الجوفاء التي قادت إلى هذا الوضع المشين.
بل إن يونس تساءل من فوره مطالبًا بعودة الأمير دياب لإنقاذ الوضع الحرج، وتلافي ما يمكن تلافيه اليوم قبل الغد.
وأشار مرعي وهو يصب الكلام في أذني أبي زيد إلى مدى تخوف التونسيين بل والزناتي ذاته من حدث عودة دياب إلى مقدمة المقاتلين، وكيف أنه أصبح في الأيام الأخيرة لا ينام الليل تخوفًا من عودته يومًا إلى منازلته بفيالقه اليمنية من بني زوغبة.
واندفع يونس صارخًا بصوت مجروح خفيض: هل يمكن تصور هذا؟! الزناتي يكلم نفسه تخوفًا منه، يكفي هذا … في هذا كله كفاية لقلب دفة المعارك، وأنت يا خال أبي زيد سيد العارفين.
غمغم أصغرهم يحيى: إنهاء حصار تونس الخلاص.
وهكذا تجمعت الآراء عند ضرورة الاستنجاد بدياب وإعادة جمع الشمل بعودته إلى حيث مكانه اللائق في المقدمة.
فحتى النساء الهلاليات خاصة الثكالى منهن أو من فقدن الزوج والابن والحبيب، رحن يستنجدن بوالد دياب الأمير غانم وأمه وابنته وطفاء التي يُسمى بها.
فهو وحده القادر على دحر الزناتي خليفة وجنده، هو دون سواه المنوط به قتل الزناتي وفك طوق الحصار المزدوج.
واندفعت وفود النساء الهلالية إلى حيث مضارب الأمير غانم والده، ورحن يكتبن إلى دياب يستدعينه للعودة وأخذ الثأر ومعهن ذوابة بنة الخفاجا عامر التي جزَّت شعرها وأرسلته إلى دياب، وكذلك فعلت ابنته وطفاء التي كتبت إليه تستعطفه باكية نائحة:
وهكذا جمع الأمير غانم والد دياب كتابات النساء وشعورهن وتوسلاتهن وأرسلها إلى دياب في مكانه — أو منفاه — بوادي الغباين أو الغباين المغبونين أو المنفيين. لكن ما إن تسلم دياب الرسائل وقرأها حتى رد الرسول متسائلًا: وأين مكاتيب السلطان حسن وأبي زيد؟
ولم يُجب الرسول.
هنا رد دياب الرسول قائلًا في حزم: جئت هذا المكان برأيهما، فكيف لي أن أرجع بمشورة النساء؟
وهكذا حطت الكوارث من جديد على الهلاليين من الزناتي وقومه.