دياب يقتل الزناتي ويفتح تونس
ورغم إحباط كل محاولات جمع شمل الهلاليين ونبذ خلافاتهم التي أفضت بهم إلى عدم الثبات في أداء مهمتهم بفتح تونس وقلاعها التي استعصت طويلًا، فإن خليفة الزناتي لم يتخلَّ يومًا بل لحظة عن مخاوفه من عودة دياب بن غانم لمحاربته.
لذا رأى الزناتي في خطة ابن أخته العلام بن هضيبة خير مخرج من أزمته وهواجسه المتزايدة التي أصبحت تصاحبه ليل نهار.
وموجز تلك الخطة أن الهجوم خير الطرق وأبسطها إلى تحقيق الأمان المفتقد، ولو استدعى الأمر اللجوء إلى الحيلة والكمائن، التي اضطلع بها هذه المرة الزناتي نفسه ضد دياب بن غانم في منفاه بوادي الغباين.
وهكذا ارتفعت مكانة العلام في نظر خاله خليفة الزناتي، إلى درجة دفعت بالأخير إلى الإنصات إليه وإلى خططه وكمائنه الأفعوانية، سواء في مجال الحرب والمنازلة أو السياسة وما تتطلبه من إيقاع خاص لزيادة التفرقة والانقسامات بين صفوف التحالف الهلالي، وهي الانقسامات التي عادة ما تقضي إلى الهزائم والسقوط المتوالي لقادة فيالقهم وفرسانهم وأمرائهم.
ومن هنا ارتفع عدد القتلى والضحايا لرءوس قادة الهلاليين التي كانت تجز بسكين العلام أو الزناتي ذاته عن جثتها، لتمتلئ أماكنها على طول بوابة تونس وقلاعها حيث ترقص جماهير التونسيين في زهو مغنية بأمجاد الزناتي أبي سعدى وحرابه التي عُرفت عنه ذات الأربعة والعشرين نصلًا.
وكان العلام بن هضيبة يحتضن جماهير المنشدين والمداحين الذين يتغنون بأمجاد الزناتي وجيش تونس وأمجاده هو نفسه، ويتعمد إيصالهم إلى قرب قصر العزيزة وهم يواصلون إنشادهم وموسيقاهم وأغانيهم لتصل إلى أسماعها وأسماع أسرى بني هلال، متشفيًا عقب كل انتصار للزناتي وفرسان تونس.
أما آخر خطط العلام التي استحسنها الزناتي وعكف فورًا على تنفيذها، فجاءت ضد دياب نفسه، فقد اتفق الزناتي مع أحد فرسانه المقربين ويُدعى «أبو خريبة» لإنزال ضربة قاصمة بإمدادات الجند والمهاجرين وبدياب ذاته في واديه ذاك المدعو وادي الغباين.
فأخذ أبو خريبة عشرين ألف فارس «قروم عوابس»، ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا إلى وادي الغباين، وكان ذلك خلال فترة غياب دياب للصيد والقنص، فأغاروا على الهلاليين وأنزلوا السيف فيهم فقامت الرُّعْيان بالعويل والصراخ، فلما سمعهم دياب ركب جواده وخرجت فرسانه والتحمت بينهم إلى أن لحق دياب بفارس الزناتي أبي خريبة وضربه بالسيف فقطع رأسه وألقاه صريعًا.
وعندما رأى فرسانه أميرهم مجندلًا فروا هاربين فلاحقهم بنو زغبة وأعملوا السيف في رقابهم، إلى أن وصلوا إلى حيث الزناتي وأخبروه بما جرى من أهوال دياب.
وهنا استدعى الزناتي شقيقه الأمير مكحول وأمره بأخذ قومه وقبائله والنزول إلى دياب بن غانم لأخذ ثأر أبي خريبة ونهب بوش بني هلال ومؤنهم واعدًا: ومهما تطاولت يدك إلى أسلابهم فهو ملك لك.
فركب على رأس جنده المقدر بخمسين ألف همام، وأغاروا حتى وصلوا وادي الغباين، وكمنوا لدياب إلى أن خرج وفرسانه لصيده وقنصه، فنزلوا على حراس المؤخرة تقتيلًا وساقوا البوش أمامهم.
إلى أن علم دياب بالخبر، فجد السير بفرسانه في أعقابهم إلى أن لحق بمكحول ونازله وقتله.
وما إن وصل الخبر إلى الزناتي حتى ضاقت به الدنيا تخوفًا من دياب بن غانم، ولم يجد له مهربًا سوء الاستشراء أكثر في منازلة الهلاليين وإعمال سيفه في رقاب قادتهم.
وهنا تجددت مرة أخرى الأصوات المطالبة بعودة دياب بن غانم لحماية ما بقي من فرسان بني هلال، حتى إن جموع الهلاليين تجمعوا حول إيوان السلطان حسن وأبي زيد في شبه مظاهرة كبرى للمطالبة بعودة دياب.
ضيعت حتى والدك.
وسفهت قولي يا قليل الحشايم.
وأحاطت النساء الثكالى مستنجدات بدياب وهو حامي المحصنات، وهكذا رضخ دياب مسكينًا معلنًا للجميع موعد عودته:
واستُقبل دياب استقبال الفاتحين حين عاد بفرسانه إلى بني هلال آمرًا بنصب سيفه على مقربة من أبواب تونس ذاتها، فدقت الطبول ونشرت الأعلام، وزار هو في البداية قبور قتلى بني هلال فخرج إليه أهالي القتلى والشهداء ورفعت النساء براقعها وألقوا تحت أقدام دياب، الذي أنشد يقول:
وفي اليوم السابق على منازلة دياب للزناتي يقال إنه كان يلاعب طفلة يتيمة وهو غائب الفكر كالتائه المأخوذ سائلًا: أين أطعن الزناتي يا صغيرة؟
فقالت له: في عينيه.
فقال: مبارك قولك يا صغيرة! لن أطعنه إلا في عينيه، وقد كان.
حتى إذا ما اندلعت الحرب بين دياب المنتقم والزناتي الخائف منه، حاول الأخير مناشدته الصلح الذي لا يبعد كثيرًا عن الاستسلام قائلًا:
إلا أن الجازية القائدة المحرضة على القتال رفضت من فورها هذا الصلح:
وهكذا لم يجد الزناتي مفرًّا من الخروج لمنازلة وحرب دياب محققًا في البداية انتصارًا ساحقًا عليه إلى حد تمكنه من الإيقاع به أرضًا من فوق هامة فرسته الشهيرة الخضراء، والتي يقال: إن روحه عالقة بها إلى حد أن قتلها «يعني قتله هو ذاته»، مما دفع دياب إلى الحزن والبكاء عليها فأمر بغسلها وتكفينها بأثواب الحرير ودفنها في مهابة، قبل أن يشيد على قبرها قبة عظيمة ذبح عليها ألف ناقة فرقها على الفقراء واليتامى.
لكن ما إن سمع بنو هلال بموت الخضراء حتى أيقنوا أن دياب لن ينسى ثأرها أبدًا، وأن نهاية الزناتي قد اقتربت.
وهو ما حدث حين اعتلى دياب مهر «الخضراء» ونازل الزناتي إلى أن هرب الزناتي، فقام دياب بإطلاق الرمح لأن الزناتي كان هاربًا، فالتفت لكي ينظر إلى دياب فأصاب الرمح عينيه ونفذ من قفاه! وحين حاول أبو سعدى الترجل عن جواده لحق به دياب مستلًّا سيفه من جانبه ونزل وقطع رأسه ونضجها على رأس سنانه شاهرًا.
وهنا تراجع فرسان تونس هاربين، فأطبق عليهم الهلاليون من كل جانب إلى أن تزاحموا على بوابات تونس ملقين بسلاحهم تحت أقدام دياب بن غانم طالبين الأمان والصفح.
وعم الذعر والفزع قرطاج لمقتل فارسها الزناتي، وانفتحت أبواب تونس على مصراعيها أمام تدفق أفواج الهلالية بسيوفهم وراياتهم وعتادهم وتهليلهم بالنصر والفتح.
وكان أول ما فعلوه هو الإسراع في البحث عن سجن أسراهم الفتيان الأمراء الثلاثة يونس ومرعي ويحيى، إلى أن وصلوا قصر العزيزة بنت معبد، فخرج الأمراء الأسرى الثلاثة لاستقبالهم وتعانق الجميع طويلًا، وحملهم فرسان بني هلال وجماهيرهم على الأعناق.
إلا أن يونس أمسك بيد حبيبته عزيزة وهو يقدمها لجموع الهلاليين الذين رحبوا بها آخر الترحيب، وكذلك فعل مرعي مع حبيبته سعدى بنة الزناتي التي بدت كالمشدوهة على مصرع والدها.
وحين وصلوا إلى حيث مقر السلطان حسن الهلالي والجازية وأبي زيد تضاعف الترحيب بهم، وخاصة بالأميرة عزيزة التي احتضنها السلطان حسن مرحبًا غير مشدق، منشدًا للأميرة الباسلة التي حفظت أرواح أبنائه:
كما رحب السلطان الهلالي بسعدى مشددًا العزاء لها في أبيها فارس تونس الزناتي.
وتعاهد الجميع على الزواج القريب وبدء صفحة جديدة قوامها الحب والسلام والوئام.
ووجدت سعدى في احتضان مرعي وحبه الجارف لها بعض العزاء في موت والدها الزناتي، الذي أشار الجميع بفضائله وفروسيته الفائقة حتى أمراء بني هلال ذاتهم، إلا أن سعدى الشاردة كانت دائمة التفكير في كيفية حصولها على جثمان أبيها خليفة الزناتي ومواراته الثرى، بدلًا من طرحه في العراء لجوارح الطير كما أراد دياب.
أما دياب بن غانم فما إن استتب له الأمر في تملك تونس واعتلاء عرش الزناتي، حتى بعث في طلب مناديه المدعو خليل وأعطاه رمحه، وأمره أن ينصبه أمام مدخل عرشه، وينادي باسم الأمير دياب للدخول من تحته ومن لا يفعل يحق قتله.
ففعل المنادي كما أمره مولاه، قاطعًا شوارع تونس وميادينها طولًا وعرضًا مناديًا بعلو صوته.
وهكذا اعتلى دياب بن غانم عرش الخليفة الزناتي مرتديًا تاجه المصنوع من قديم الزمان، والمتوارث منذ عصر مهران خليفة، والمرصع كله بالمرجان الأحمر والياقوت الأخضر والمنسوج بالدر والجوهر الذهب الأصفر.
واجتمعت من حوله قبائل بني زغبة صفوفًا في صفوف مئات وألوف بعد أن تدانى الجميع في تبجيله، ثم أمر دياب أن تعلق رأس الزناتي على أعلى أسوار تونس، وحرم دفن جثمانه طارحًا الجثة في العراء لتنهشها جوارح الطير.
وعندما علمت سعدى بتنكيل دياب بن غانم بجثة أبيها الزناتي على هذا النحو، اندفعت كالمجنونة إلى حيث عرش الزناتي الجديد «دياب» إلى أن دخلت عليه مرتعدة مطالبة بدفن جثمان أبيها.
وما إن شاهدها دياب حتى راقت في عيونه فقبل طلبها من فوره بتكريم جثمان الزناتي، ودفنه بين قبور شقيقي دياب الأميرين اللذين صرعهما الزناتي في غيبته بدر وزيدان.
بل إن دياب بهر من جمال سعدى وحسن شمائلها وأكرمها في افتقادها والدها مشددًا العزاء، وأمر بإدخالها عند حريمه فأكرمنها غاية الإكرام.
أما السلطان حسن الهلالي وأبو زيد فما إن تناهى إلى أسماعهما ما أقدم عليه دياب وأعلنه مناديه على الملأ، بوضع رمحه على مدخل عرش الزناتي الذي اعتلاه معلنًا: لا سلطان لتونس إلا دياب بن غانم؛ حتى استبد بهما الغضب، خاصة السلطان حسن الذي بدا كمن لا يصدق ما تسمعه أذناه.
وما إن استشار السلطان حسن أبا زيد حتى أشار بالتوجه إلى مقابلة دياب والانحناء تحت حرابه ولو تطلب الأمر ذلك.
لكن ما إن قاربا قصر دياب بركبيهما حتى وصل الغضب بالحارس المقرب من السلطان إلى حد دفع به إلى ضرب رمح دياب بسيفه فقسمه، فما كان من حراس دياب بن غانم إلا الهجوم عليه وقطع رأسه.
وحدثت معركة على بوابات قصر دياب بين حرسه وفرسان السلطان حسن وأبي زيد، استطاع أبو زيد بحكمته حصرها دون أية ذيول إلى حد تفاقم الخلافات من جديد بين أجنحة الهلالية المختلفة.
لكن ما إن دخل السلطان حسن بن سرحان — ومعه أبو زيد — مقبلًا على دياب، حتى هب الأخير من فوره عن عرشه الجديد عرش الزناتي سابقًا لاستقبالهما، وحوله أكابر وأمراء بني زغبة والخدم والعبيد بين يديه والتاج على رأسه.
وهنا لم يتمالك سلطان بني هلال غضبه وهو يشهد دياب على هذا النحو، حتى هجم عليه كمثل جمل هائج انفك من عقاله، مشهرًا سيفه ليهوي به على رأس دياب بن غانم.