أسر دياب لسعدى ومأساتها
ما إن استل السلطان حسن بن سرحان سيفه من غمده ليهوي به على رأس دياب بن غانم المتربع على عرش الزناتي، حتى ارتفعت ذراع أبي زيد الهلالي عالية قابضة على يد السلطان الهلالي، مانعة إياه في حزم من تنفيذ ما أزمع عليه في سورة غضبه.
إلا أن السلطان حسن واصل اندفاعه وتحرشه بدياب متشبعًا ما أقدم عليه من انفراد بسلطة حكم تونس، وكأنه يعزله عن قيادته المتوارثة عن أجداده في حكم الهلالية، صائحًا بصوت جريح: تريدني الانحناء يا دياب تحت حرابك؟!
وتدخل أبو زيد وبقية الفرسان لكبح غضب السلطان حسن، وعدم التقليل من مآثر دياب بقتله الزناتي وفتح أبواب تونس التي أُوصدت طويلًا في وجه الهلاليين نتيجة لإبعاده عن المقدمة والقيادة وحراسة الإمدادات والبوش إلى أن استغاثت النساء الهلاليات الثكلى به، حين بعثن إليه في وادي الغباين ببراقعهن، فاستجاب دياب عائدًا لنصرة الهلالية كما يتضح من شعر أبي زيد الهلالي:
وما إن هدأ خاطر الجميع واجتمع شمل قادة الهلالية مجددًا، حتى قرروا تقسيم حكم تونس وتخومها وقلاعها المترامية حتى الأندلس فيما بينهم، وعلى الفور اندفع دياب بن غانم يساومهم على قتل فرسته الخضراء، التي تمكن منها الزناتي خليفة قبل أن يُوقع به دياب بإنفاذ رمحه بين عينيه وقطع رأسه.
فالخضراء فرسة دياب بن غانم التي صانها طول عمره، توازي حياته ذاتها، وهو الذي أشار بدفنه هو ذاته معها حين ينتهي أجله في قبر واحد:
وهكذا انفرد دياب بن غانم بالاستيلاء على حكم تونس — قرطاج — تعويضًا عن فرسته الخضراء، ثم اقتسم ثلاثتهم السلطان حسن وأبو زيد ودياب حكم المغرب العربي ومن ضمنه الأندلس التي كانت من نصيب أبي زيد الهلالي.
لكن تقسيم تونس وتوابعها وقلاعها بين أقطاب التحالف الهلالي الذي فاز فيه دياب بنصيب الأسد، لم يُعجل بإنهاء كل المشاكل المتراكمة والتي استجدت عقب فتح تونس وقلاعها والتي تضم الأندلس أيضًا، فلقد ظهرت خلال ذلك الاجتماع الثلاثي الذي عُقد داخل قصر عرش الزناتي الذي اعتلاه دياب بن غانم من فوره، وكما لو أنه حق شرعي له لمجرد إقدامه على منازلة الزناتي وقتله؛ أطماع دياب على الاستفراد في حكم تونس.
وضاعف من فداحة الأمر إقدام دياب على وضع حرابه لينحني تحتها سلطان بني هلال وفارسها حسن بن سرحان وأبو زيد الهلالي سلامة.
وظل السلطان حسن بن سرحان يردد لنفسه في غيظ كظيم: جاء اليوم الذي أصبحنا نحني فيه هاماتنا ورقابنا تحت حراب دياب بن غانم!
بل إن إصرار دياب بن غانم على التمادي في تجبره متشبثًا بعدم التخلي عن عرش الزناتي تعويضًا عن قتل فرسته الخضراء، أوغر صدر السلطان الهلالي ضده، إلى حد أصبح الاقتتال من جديد بين قطبي التحالف الهلالي من نجديين شماليين ويمنيين جنوبيين أمرًا واردًا.
واستطاع أبو زيد الهلالي بحنكته ومرونته تأجيل موعد ذلك الاقتتال الذي يخيم بظله الثقيل على الجميع، والذي قد ينشب بشكل رئيسي بين السلطان حسن ودياب بن غانم، خاصة وأن كفة القحطانيين اليمنيين سترجح إذا ما وقعت الواقعة.
فلقد نجح دياب بن غانم خلال فترة حراسته للبوش والمؤخرة في الاحتفاظ بأغلبية قواته دون أية خسائر تُذكر، في ذات الوقت الذي تحمل النجديون الخسائر المهلكة التي أوقعها بهم الزناتي وعرب المغرب.
ومما زاد الأمر سوءًا أن العلام بن هضيبة تمكن من الإفلات من العقاب والفرار هو وقومه باتجاه المغرب العربي والأندلس، مثيرًا الفتن في كل مكان ضد عرب المشرق للأخذ بثأر خاله الزناتي، مجمعًا فلول القوات المغربية بالقيروان لاستئناف القتال واسترداد العاصمة قرطاج، فاجتمعوا إلى ملكهم المسمى بالملك «الناحر» شقيق الزناتي خليفة، الذي أرسل للعلام في الأندلس معلنًا تأهبه للحرب والنزال.
وكان يونس من أكثر المتابعين لتحركات العلام الخفية وتفهمًا لمدى أخطاره المهددة، التي أصبحت تنبئ بها الأيام الحبالى بالثأر وتجدد القتال بين الهلاليين وعرب المغرب.
بل إن يونس ومرعي استطاعا تجميع فلول القوات الهلالية، تأهبًا لملاحقة العلام أينما كان قبل تفاقم دوره وقواته.
وودع كل منهما حبيبته أحر الوداع، يونس لعزيزة ومرعي لسعدى، تأهبًا للخروج بفرسانهما لمطاردة العلام وفلوله على طول المغرب العربي حتى الأندلس.
وبعد رحيل يونس لأداء واجبه انخرطت عزيزة في صفوف المشرفين على رعاية تضميد جراح المصابين من الحرب، سواء كانوا تونسيين أو هلاليين.
بينما استجابت سعدى لرغبة الزناتي الجديد دياب بن غانم في البقاء مكرمة داخل حريمه، انتظارًا لعودة حبيبها مرعي، مجللة بالأحزان لمصرع والدها الزناتي على ذلك النحو الفاجع، وحتى تتمكن سعدى من استرداد ما يمكن استرداده من ممتلكاتها الشخصية وأغراضها من براثن قاتل والدها الزناتي الجديد دياب بن غانم، وهي التي كرهت من كل قلبها مجرد سماع اسمه أو صوته المترامي إليها من قاعة عرش «الزناتة» الذي اعتلاه ذلك الجلف المتكبر.
وراحت سعدى تجاهد في كبح جماح دموعها التي كانت تخونها فتذرفها مدرارًا على ما انتهى إليه حالها، بافتقاد الأب خليفة الزناتي والحبيب مرعي الغائب عن عينيها، وهي في أحرج وأشق ما مرت بها من أيام عصيبة، أي أن ترى نفسها غريبة أقرب إلى الأسيرة التي سُبيت داخل جنبات وردهات هذا القصر الشاهق الأصم الذي تربت وشبت بين جنباته وتنفست هواءه.
حتى إذا ما جاءت الطوبة في المعطوبة كما يقولون وصادفها الزناتي الجديد دياب بن غانم الذي اتَّشح بأوشحة والدها وتاجه المتوارث منذ مهران خليفة، شاهدها تبكي وتنوح وتعدد لنفسها إلى جانب أحد عمدان القصر بلا صوت كمثل امرأة مخبولة؛ حتى توقف من فوره منبهرًا مأخوذًا من جمالها المأساوي والأثر الذي نفذ في أعماق قلبه كالسهام.
– الأميرة سعدى؟
قاربها محاولًا مساندتها أخذًا بيدها باتجاه جناحه سائلًا في تحرش: أما زلت تبكين الوالد؟
– أبكي غياب مرعي.
فقام يحاول سحبها مجددًا باتجاه جناحه.
– ادخلي يا أميرة.
توقفت سعدى وهي تبعده عنها رافضة الدخول منتصبة في مواجهته بنظرة أقرب إلى التحدي: ابعد!
هاجمها دياب أكثر مستعيدًا تجبره: كيف أبعد عن كل هذا الجمال يا أميرة سعدى؟! أنت حليلتي.
– أنا حليلة الأمير مرعي.
انفجر دياب ضاحكًا مقهقهًا بأقصى قوة مواصلًا محاولة استمالتها إلى أن انفلتت منه منشدة:
وكان أن غضب عليها دياب منسحبًا هائجًا مصدرًا تعليماته لمرءوسيه بأن يجلدوها عارية مع حبس بالأشغال الشاقة، التي تقضي بطحن الغلة والملح تحت ثياب الخيش عشرة أيام داخل المطامير الملحقة بسجن أبيها الزناتي.
ورفض دياب بن غانم كل المحاولات المضنية التي بذلتها الأميرة عزيزة صديقة صباها مستعينة بالسلطان حسن والجازية ونوفلة بنة دياب ذاته دون جدوى تُرجى.
بل هو كلما تلصص عليها ليلًا وسمعها تهجوه بأعنف الشعر زاد عليها العذاب والتنكيل، إلى أن كان يوم ضاعف فيه من عذابات سعدى حين تمكن عيونه وحراسه من كشف رسالة أو قصيدة دامية تشرح فيها كارثتها في سجن دياب بن غانم، وكانت تنوي تهريبها للسلطان حسن وأبي زيد:
ورغم وصول هذه الرسالة القصيدة المهربة إلى يد دياب بن غانم الذي استشاط غضبًا وحقدًا على سعدى، فإنها تمكنت من إيصال رسائلها وشكواها الملتهبة إلى يد السلطان حسن بن سرحان بمقره قرب القيروان.
وأدمت رسائل سعدى المهربة التي تفيض عذابًا السلطان حسن، وهي خطيبة ابنه الحبيب مرعي الذي حارب ببسالة ليعود فائزًا بزواجها.
كما بكتها عزيزة كثيرًا وكذلك الجازية وأبو زيد، الذي عرف عن قرب مدى أصالتها وعنائها في الحفاظ على أرواحهم بسجون تونس.
فقرر السلطان حسن وأبو زيد الركوب إلى دياب رغم مشقة مهامهما، ورغم إخفاء ما يحدث لها عن حبيبها مرعي، ولو استدعى الأمر تجدد الصراع مع دياب من أجل الأميرة سعدى بنة الزناتي.
لكن ما إن اجتمعا بدياب وفاتحاه في موضوع سعدى وتعذيبها وكيف أنها خطيبة مرعي الذي يحارب ببسالة إلى حد إصابته بجرح بليغ، حيث أرسل وهو طريد خطابًا لا يسأل فيه سوى عن سعدى وأحوالها؛ حتى ركب دياب رأسه رافضًا في إصرار مغيِّرًا الموضوع إلى ما استجد من كوارث وصلته في التو حول استشهاد ابنه الحبيب «موسى» الذي يتسمى باسمه مع ابن أبي زيد «صبرة»، حيث قتل العلام موسى بن دياب انتقامًا للزناتي، وقتل الملك الناحر — شقيق الزناتي — صبرة بن أبي زيد.
وهكذا توارت مأساة سعدى أمام ما استجد من كوارث أهاجت أحزان كل من أبي زيد ودياب، بل والسلطان الذي أُصيب ابنه مرعي بجرح بالغ.
واتفق ثلاثتهم على خروج دياب وأبي زيد بقواتهما للحرب ومساندة يونس الذي أصبح في وضع المستنجد بهما وهو على تخوم الأندلس.
وما إن دخلا المغرب من بوابته حتى ظهر دياب بن غانم كالمجنون الذي لا يقف عند حد انتقامًا لابنه موسى، فقتل الأمير وائل واعتلى عرشه مواصلًا تقدمه بافتتاح سبع قلاع حصينة.
أما أبو زيد فأعاد افتتاح القيروان عابرًا جبل طارق وصولًا إلى الأندلس حيث لحق بيونس، مواصلًا فتوحاته على طول دويلاتها الواحدة بعد الأخرى دون صعوبات تُذكر.
واجتمع أبو زيد ودياب بن غانم في بلدة تدعوها السيرة ﺑ «عين تولوز» يرجح أنها في جنوب فرنسا، واتفقا على ضرورة العودة إلى تونس للاجتماع بالسلطان حسن وإعادة تقسيم المغرب من جديد، على أن يحتفظ دياب بن غانم بحكم تونس — قرطاج — تعويضًا عن مقتل فرسته الخضراء.
ومرة أخرى تجددت وتزايدت إلى حد المأساة كارثة سعدى بنة الزناتي في سبيها ومحنتها وأصفادها.
بينما أخفى الجميع عن حبيبها الجريح مرعي ما أصبحت تعانيه، كما أخفوا الشيء ذاته عن صديقة عمرها عزيزة.
تبدت بطولة الأمير يونس — عقب فك أسره — في تلك الحملات التي قادها لفتح الطريق وتأمينه أمام الهلالية بدءًا من قرطاج تونس مرورًا بالقيروان والمغرب العربي والجزائر عبورًا إلى شبه جزيرة إيبريا أو الأندلس.
ذلك على الرغم من تلك المرارة والأحزان التي أصبح يعانيهما، نظرًا لجراح شقيقه مرعي وحنينه الجارف لعزيزة.
في هذا الوقت استمرت حملات دياب وأبي زيد عقب كارثة استشهاد ولديهما الأميرين الشابين موسى بن دياب ثم صبرة بن أبي زيد، الذي اتهم العلام بن هضيبة باغتياله.
وردًّا على ذلك قتل الهلاليون بدورهم العلام انتقامًا لصبرة بن أبي زيد، ولنكصه — أي العلام — لعهوده الأخيرة معهم.
وهكذا أرسل أبو زيد الهلالي يخبر السلطان حسن بن سرحان باتفاقه مع دياب على إعادة تقسيم البلاد المفتوحة ذاكرًا:
كان أبو زيد ينتظر عقد ذلك الاجتماع المرتقب على أحر من الجمر لفك أسر سعدى بنة الزناتي التي ساعدت وأعطت الهلاليين الكثير، ولم تحصد سوى الحسرة والمهانة.
فسعدى كانت على الدوام تدمي مأساتها بسجن دياب مشاعر أبي زيد، وتجعله يشعر بالحزن والأسى، خاصة تلك الليلة التي زار فيها أبو زيد الهلالي مرعي عقب إصابته بالقيروان، فسأله متلهفًا عنها بصوت خفيض وهو جريح ينزف: كيف حال سعدى؟
– بخير يا مرعي، في عيون الوالد والجازية والأهل.
وتنهد أبو زيد متكتمًا أخبارها الدامية عنه وهو لا يعرف كيف يخفي كذبه عنه، بينما أغمض مرعي عينيه على صورتها مستريحًا متنهدًا، معانيًا من جراحه البليغة.
– كان الله معك يا سعدى!
أما يونس فقد فاتحه أبو زيد بإسهاب حول كل ما حدث من جبر وتجاوزات دياب بن غانم مع سعدى، وكيف أنها أصبحت مهانة ذليلة بقصر والدها الزناتي الذي اعتلاه دياب عشية قتله، مستبيحًا كل شيء وخاصة بالطبع ابنته تلك الصغيرة التي تشع إخلاصًا، والتي أصبحت ترسف في أغلاله داخل زنزاناته ليل نهار منذ انتصار دياب على أبيها وقتله وترك جثته بالعراء تنهشها جوارح الطير.
وعندما سأله يونس ملتاعًا مفزوعًا عما يسمع عن سعدى العفيفة العطوف التي أبلت الكثير حفاظًا عليهم، وكيف يحدث لها كل هذا وشقيقه الأصغر مرعي حبيبها طريح أقرب إلى الموت؛ طمأنه أبو زيد. وهنا لم يتمالك يونس عن السؤال الملح عن حبيبته وخطيبته عزيزة، وهو يعني بذلك كيفية تصرفها حيال صديقة صباها سعدى وما لحق بها من أهوال جسام، وأخبره أبو زيد مطمئنًا مقترحًا التعجيل بإرسال الأميرة عزيزة إليه هنا بالأندلس مكرمة كزوجة وحليلة، حتى يهنأ يونس بالًا بقربها.