جمع المشورة للهجرة والحرب
وما إن انتهت أيام جنازة الأميرة الأم قائدة الهلالية «شماء» التي تورثتها أختها الصغرى شيما أو نور بارق التي عُرفت بالجازية كقائدة للهلالية، حتى عاد الضيوف الزائرون لنجد إلى أوطانهم وكياناتهم وقبائلهم، بعد تدارسهم وصايا الأميرة شماء وأخذ المشورة ومعاودة الجهاد.
عاد حاكم العراق الأعلى الخفاجا عامر ووالد الأمير النجع وابنته «ذوابة»، وعاد الأمير جابر وابنته الفاتنة العالية، وعاد أمير مكة «شكر» بعدما راقت الجازية في عينيه فأقدم على مفاتحة شقيقها السلطان حسن بن سرحان برغبته في الزواج منها، والوقوف تحت رايات الهلالية فيما هم عليه مقبلون.
ولم يجد السلطان حسن جوابًا شافيًا يرد به على أمير مكة «شكر»، سوى مفاتحتها في الأمر وأخذ مشورتها، وهي التي لها ثلث المشورة تنفرد بها لدى انعقاد اجتماعات ولقاءات «الشورى»، التي عادة ما تُعقد قبل الإقدام على اتخاذ القرارات المصيرية من حروب وفتوحات ومنازعات أو هجرات جماعية تصل إلى مئات الألوف، يتقدمهم المحاربون واحتياطيهم وتتبعهم أسرهم إلى أن ينتهي الأمر ﺑ «البوش» من مؤن وسلاح وعتاد وخيول وجمال محملة مع البهائم، بالإضافة إلى أكداس وكنوز الغنائم وأسرى الحرب والجرحى والمصابين والعجائز والمعوقين وهكذا.
فالأمر هنا أقرب إلى أمة متضمنة لدولة محكمة التنظيم مهاجرة وفاتحة ومعربة، فارضة فروضها وأحكامها التي قوامها محبة الله وحفظ شرائعه، والتخلق بأخلاق الكرام بتجنب الإلحاح في الكلام وعثرات اللسان؛ لأن صدور الأحرار قبورها، فمن صان نفسه ملك أمره، ومن باح لم ينجح وزاد ندمه.
فإياك أن تغفل عن أحوال الرعية، معاملًا الكبير والصغير بالسوية، رافعًا لشكوى المظلوم حجابك، فاتحًا في وجهه بابك، واضعًا الأشياء في محلها، والمناصب في يد أهلها. فإذا كانوا على هذه الحال، تستقيم أحوال الرعايا وينتشر العدل في كل مكان، فترعى الذئاب مع الغنم، وتبيت العصافير مع الرخ.
ومن هنا وجد حسن نفسه في مأزق، دفع به — وقبل أي شيء — إلى مفاتحة الجازية وطرح رغبة أمير مكة «شكر» في الزواج منها، علمًا أن ذات الرغبة لمَّح لها دياب بن غانم باعتباره الأحق في الزواج منها قبل غيره.
لذا تساءل السلطان حسن الهلالي مترددًا محدثًا نفسه: والحل؟
إلى أن عثر على ضالته، بطرح الأمر بين يدي صاحبة المشورة أخته الأميرة الجازية، فهي وحدها التي يحق لها الاختيار بالزواج من أحد الأميرين، هي وحدها التي يحق لها قبل أي إنسان آخر التصرف في حياتها ومستقبلها وما يحن إليه قلبها المفعم دومًا بالحب للجميع.
صحيح أن الأحقية الأولى في الزواج من الأميرة الجازية هي من نصيب أمير تحالف عرب جنوب جزيرة العرب دياب بن غانم؛ وذلك لضمان توثيق الروابط بين شقي التحالف الهلالي، أي بين النجديين والحجازيين «العدنانيين» وبين قبائل عرب اليمن والجنوب العربي عامة من «القحطانيين»، وقائدهم وفارسهم هنا هو الأمير دياب بن غانم.
بل إن السلطان حسن بن سرحان سبق له فعلًا أن قطع على نفسه عهدًا بزواج الجازية من دياب بن غانم، وحدث ذلك في مناسبة حفل زواج السلطان حسن نفسه من أخت دياب «الأميرة نوفلة» منذ ما يربو على العشرين عامًا، وأنجب منها أبناءه الثلاثة يونس ومرعي ويحيى.
تذكر السلطان حسن عهده ذاك وهو يأخذ طريقه ليلًا داخل أبهاء قصره للاجتماع بأخته الجازية ومفاتحتها في الأمر، مقدمًا المطلبين للأميرين دياب وشكر ورغبتهما في الزواج منها، فما كان من الجازية إلا أن أرجأت في أسى كظيم كلا المطلبين.
وهنا تعرف السلطان حسن بعمق بصيرته مدى ما اعتراها من تحولات أضفت عليها شحوبًا أقرب إلى الذبول، عقب لقاء أبي زيد بالعالية بنت جابر وخطبته لها، بل وإتمام الزواج.
وهو الزواج الذي جاء مبسَّطًا خاطفًا نتيجة لوقوعه معجَّلًا في أعقاب ما تبقى من شعائر جنازة الأميرة الأم شماء، حيث اقتصر على مجرد عقد القران الذي أبرمه القاضي بدير في حضرته — أي السلطان حسن — حسب رغبة الطرفين خاصة العالية بنت جابر، التي ما زالت تعاني أيضًا من مقتل أخويها عقيل وزيد في مجاهل الهند وسرنديب على يد أبي زيد الهلالي حبيبها وزوجها المقبل.
ورغم مباركة الجازية للزواج مفضلة حقن دماء الهلاليين لبعضهم البعض وما قد يجره هذا من سلسلة الانتقامات وبحار الدم الواحد المراق، فإنها أبقت على مأساتها الشخصية وآلامها لافتقاد صديق صباها ومطمح آمالها كأنثى … أبي زيد.
ثم ها هي أخيرًا تجد نفسها نهبًا لرغبتين شديدتي التشابه، فإما قبول الزواج بابن عمها دياب وما تتحسسه منه من رغبات دفينة في التسلط برغم إقدامه وفضائله التي لا تُنسى للهلاليين، وإما قبول أمير مكة زوجًا بما يحقق لها من عناصر قوة جديدة لقبائلها الهلالية خاصة في هذه الظروف العصيبة، وهو ما ضاعف أحزان الجازية إلى حد شل حركتها عن اتخاذ قرار واضح صريح، مفضلة في المحل الأول مصلحة الهلاليين السياسية دون أي اعتبار لمشاعرها كأنثى قبل أن تكون قائدة ومحاربة.
لذا تساءلت الجازية طويلًا لنفسها: كيف أتصرف؟
صحيح أنها انشغلت من رأسها لأخمص قدميها في إعادة ترتيب «البيت الهلالي» عقب مهامها الجديدة التي وضعتها في موقع الأم الكبرى للجميع، وبرغم حداثة سنها التي لم تتعدَّ الرابعة والعشرين.
إضافة إلى أخذ الجازية وراثة الأميرة الأم — شماء — والانفراد الأكبر بالقرار، ويا له بالطبع من قرار أصبحت تفرضه الطبيعة المحيطة التي تحط بأثقالها وكوارثها على الهلالية وعرب الجزيرة عامة نتيجة للجدب الذي دخل عامه السادس وقوَّض كل أخضر ويابس في نجد وما حولها! وهو ما يستلزم الإقدام على الحركة السريعة اليقظة لتجاوز الكارثة التي لا حد لها.
– اليوم قبل الغد.
وهو ما أكدته وصية الشماء وقتله الجميع بحثًا، مطالبين بالخروج والهجرة ومعاودة الفتوحات قبل فوات الأوان.
لذا فالقرار هنا متروك بانتظار أن تنطق به يومًا شفتا الجازية.
– الرحيل.
لتنطلق على الفور طبول الحرب الكبيرة المسماة ﺑ «الرجروج»، المتوارثة منذ أيام ملوك العرب القدامى وتباعنتهم، بدءًا من يعرب أبي العرب العاربة وعبد شمس بن سبأ وحسان اليماني ومن نسلهم من التباعنة — جمع ملك أو تُبَّع — لذا فالقرار الكبير الملحُّ بالزواج يجيء في رأس الجازية وفي مخيلتها في غير أوانه. ومما زاد الأمر تعقيدًا تلك الضغوط بطلب الزواج منها من الأميرين دياب وشكر وهي على هذا النحو؛ من الكدح والطحن اليومي في نجد وما حولها من مدن وكيانات ومضارب تبعد آلاف الفراسخ، وعليها أن تقطعها طولًا وعرضًا ليل نهار تتلقى سيول الكوارث تلو الكوارث من التي تراكمت في السنوات الأخيرة على عرب الجزيرة.
وهو ما لم يعتقده الهلاليون الذين بدوا على مدى سنين الجدب الأخيرة السبع أقرب إلى عقد منفرط الخرزات بإزاء الكوارث التي حطَّت والتي أوهنت من سواعدهم الضاربة مشرقًا ومغربًا، بل والأكثر مرارة هنا هو تمرد حلفائهم عليهم أخذًا بمبدأ «وقع الجمل وكثرت سكاكينه».
لذا فالأولوية هنا من وجهة نظر الجازية هو تضميد ما يمكن من جراحات، وترطيب أفواه هدها العطش وجفاف الأفواه من كبيرها لصغيرها لدرجة الإقدام على بيع كنوز الشماء أمها التي «تقطع بمال الغرب وأبوه»، والتي لا نهاية لندرتها، لشراء ما يلزم من ضرورات سد الرمق.
باعها أبو زيد الهلالي في ربوع الهند وتركستان والأندلس وبلاد اليونان ليشتري ما يسد به الأفواه، وباعها دياب بن غانم في بحر العرب لإطعام قبائله المتحالفة.
وتلك كانت فرحة أمها الشماء الكبرى قائلة لكل من طالبها بالإبقاء على بعض ممتلكاتها: هي ملك الناس، تعود إليهم.
حتى إذا ما نضبت كنوز أمها، فتحت هي بنفسها المخازن والمؤن للجميع حسب رغبة السلطان حسن، ولو كانت جبلًا لنضب واختل.
– ماذا أفعل؟!
قالتها الجازية للسلطان حسن أخيها الأكبر، فتضاعفت حيرته إلى حد عدم الخلود إلى النوم في لحظات قيظ الظهيرة مجيبًا: وأنا ماذا أفعل؟ كلاهما ينتظر خطب ودك، دياب وشكر.
– لا أعرف!
ويسرت الجازية الطريق لأخيها الأكبر ذاكرة عَرَضًا اسم قاضي القضاة بدير بن فايد، الذي أرسل السلطان في طلبه حيًّا بسماحته التي عرفت عنه، لإقناع كلا الأميرين الراغبين في الزواج من الجازية بإرجاء الموضوع وتقديم الأكثر أهمية من المشاكل بما يستلزم إتاحة الفرصة للجازية للإشارة بالحل، وما يمكن التعجيل به للخروج من تلك المحنة التي حطت بالهلاليين وحلفائهم.
هنا تبدت حنكة القاضي بدير بن فايد في إرجاء مطلبي كل من دياب بن غانم وشكر: نخلص أولًا مما نحن فيه، وليس للأميرة الجازية جناحان خفاقان للطيران.
بل إن القاضي بدير عانى الأمرَّين خاصة في إقناع دياب بن غانم الذي كان يحفظ عن دراية تعبيرات وجهه، التي لا تعرف رفضًا لمطلب له مهما تعالى.
إلا أن القاضي بدير استطاع إثارة فروسيته وحميته: الهلاليون في انتظار حربة دياب بن غانم التي يتغنى بها الشعراء يا أبا موسى.
أما مفاوضات القاضي مع أمير مكة «شكر» فكانت أقل حملًا، خاصة وأن «نور بارق» ذاتها أو الجازية كانت كثيرة الحديث عن مآثره، لكن لم يحن الأوان بعد.
وفاجأ أبو زيد الهلالي السلطان حسن والجميع بقطع أيام زواجه بزيارة مضارب السلطان حسن، ومواجهته والجازية والأمير دياب والقاضي بدير وأمير مكة شكر والجميع بأهمية عمل شيء والتخلي عن الأمور الصغيرة الآن؛ لأن الأمر لم يعد يحتمل تأجيلًا، خاصة وأطراف مجلس المشورة حاضرون في معظمهم بنجد، ومن سافر منهم يمكن استدعاؤه بشكل معجل للعودة إلى نجد دون تأجيل.
وبالطبع فإن قرني استشعار أبي زيد وعيونه وبصاصيه كانت لا تغيب لحظة عن نبض الناس وآمالهم وما أصبحوا يعانونه عبر تلك السنوات السبع العجاف، التي يبدو أنها اكتملت دورتها بموت الأميرة الأم شماء، للإقدام على عمل شيء كبير عاجل.
وعلى الفور استحضر السلطان حسن جميع مستشاريه وكتبته ومسجليه فحضروا على الفور، وتحول ديوانه إلى خلية عمل ليل نهار في تحضير الرسائل من علنية وسرية لبقية مجلس المشورة للهلاليين المتغيبين في أعماق اليمن ومشارف الشام والعراق، وحمل الرسل الرسائل الموثقة بخاتم السلطان، واندفعوا يقطعون السهول والمراعي والربى، لتنفيذ ما استجد من رغبة في عمل شيء للخروج من المأزق، وإعادة هيبة الهلالية وذراعها الضاربة التي تراخت طويلًا طويلًا.
وما إن اكتمل نصاب لقاء المشورة بعودة من رحل عن نجد المرية من الأمراء وشيوخ القبائل الهلالية المتحالفة، حتى أقاموا مضاربهم على أطراف وروابي نجد وتلالها التي تحولت من جديد إلى سوق عكاظ ماثلة مستبشرة بتلك الصحوة التي أصبح يعيها الجميع، كبارًا وصغارًا وشيوخًا وشبابًا وزوجات وأمهات، من بطون هلال. ومنهم من اضطر إلى الرحيل والعمل سواء في مدن الشام وفلسطين وبلاد السرو أو في عبادة — أي الأردن — ومصر العدية بحثًا عن القوت والرزق.
إذن ما إن عقد اجتماع المشورة حتى تحولت المدينة — نجد — بأسواقها القديمة وقلاعها وتلالها إلى خلية نحل هائلة الحركة، فرفعت الأعلام والبيارق والرايات الهلالية.
وازدانت مشارب الشاي والساحات العامة بالشباب المنتظم وكتائبه التي أحسن أبو زيد الهلالي تدريباتهم، حالما انتهت سنوات نفيه لدى القبائل الزحلاوية ببقاع لبنان، وعودته من جديد إلى أهله وقبائله، بل هو نقل وأضاف إلى فنون الحرب والاقتتال البرية والبحرية مما تعلمه وبرع فيه.
وكان الأمير الزحلان قد دفع به إلى كبار معلمي عصره في إعداد الفرسان وتدريبهم فنون الحرب وخداعاتها وحيلها، وما تستلزمه من إلمام بلغة الأعداء ومعرفة طبائع الناس والبلدان والأسلحة، وكيفية نقل الجنود والاقتتال البحري وحصار المدن والسواحل.
حتى إذا ما حقق مراده في العودة إلى أحضان قبائله الهلالية، عاد محملًا بخبرات الشعوب البحرية من بقاع لبنان التي تربى بها إلى مطلع شبابه.
فلقد كان فارس الهلالية أبو زيد مولعًا منذ صباه المبكر بالسفر والترحال بحثًا عن كل جديد، وساعده في هذا وجوده في بيئة بحرية تتيح له الإبحار والتجوال عبر بلاد الله الواسعة الفسيحة مشرقًا ومغربًا.
ولكم أتاح له البحر الشاسع المدى إطلاق خياله المنتفخ بدوره دون انغلاق وتوقُّف عند حياة البدو وطبائعهم وخوفهم الدائم منه ومن أمواجه العاتية، كما ساعد أبا زيد الهلالي في غزوه وترحاله الدائم دون توقف معرفته الواسعة بلغات ولهجات وطبائع الشعوب، من قريبة متاخمة إلى بعيدة مترامية لم يسمع بها قبل.
ومن هنا تحقق تفوق أبي زيد نتيجة لأسباب تجاوبه في القيادة ووضع الخطط والتنكر ودراسة وتعرف أنماط حياة كل وأي كيان وقبيلة وبطن عربية، ابتداء من ربوع الشام حيث طرابلس المشرق وانتهاء بطرابلس عرب المغرب.
وهي الخبرات التي حملها إلى نجد معدًّا بها فيالق الهلاليين وكتائبهم وألويتهم، مستفيدًا من تكامل البلدان والكيانات العربية، التي آن أوان توحيدها ولو استدعى الأمر حد السيف، وهو ما عبر عنه ونقله إلى شباب المجاهدين الهلاليين ضد همجية وخرافة العالم القديم.
فما إن قاربت طبول الحرب الهلالية طرقها المدوي من كيان إلى آخر ومن مضرب إلى ما يتخمه، حتى تدخل بعض العقلاء في اجتماع المشورة مطالبين بالتروي، ولو لإعادة مراجعة قرار الهجرة والحرب وما يستلزمه من إعداد ورص للصفوف والمؤن.
فمثل هذا القرار يستلزم معرفة أكثر اتساعًا بمسالك الطريق الذي يسلكه الألوف المؤلفة من الهلاليين، وريادته عبر الشام وما بين الرافدين مرورًا بفلسطين ومصر وليبيا إلى قرطاج تونس التي يعرفها الهلاليون أكثر من غيرهم، وسبق أن نزلت جحافلهم أرضها الخضراء الوارفة كجنات تغذيها شرايين الأنهار قرونًا عقب قرون، حيث أطلقوا عليها «تؤنس»، أي «أنس الغريب».
على هذا النحو استقر الرأي الذي رجحته الأميرة — الأم — الجازية بثلث تفردها بالمشورة قائلة: تؤنس … قرطاج … المغرب الذي آن أوان تعريبه.
قال دياب بن غانم مؤكدًا: المغرب العربي، بإذن الله.
وهذا هو ذات المعنى الذي نطق به السلطان حسن الهلالي مؤكدًا، وتوالت على أثره الأسئلة والتساؤلات، أبرزها أهمية المعرفة والجمع العاجل للجديد، وما استجد من معلومات سواء للأقوام والبلدان التي ستحتاجها جحافل الهلاليين وأحمالهم ومئونتهم وجيشهم في جزيرة العرب، وسواء في مدن الشام وفلسطين ومصر وليبيا إلى أن تصل غرضها فيالقها إلى قرطاج والمغرب العربي، في طريقها بالطبع إلى الأندلس.
– أبو زيد …
هنا جاء دور أبي زيد الذي لم يُفِقْ بعد تمامًا من حبه وزواجه بالعالية بنت جابر — قاتل شقيقيها — ومدى وعوده ورهبة لقائه الأول معها الذي قد تقصر عنده أكبر معاركه ومنازلاته وملاحمه.
صحيح أنه لقاء الحب والرغبة الجارفة الدافقة إلى تحقيقه من دون التطلع إلى الوراء، الذي قد يحوله من فوره إلى بغضاء وكره مدمر أصفر.
– أبو زيد …
فهو وحده الكفيل بالمبادرة في المهام الحيوية مثل الهجرة والحرب.
وأعادت الجازية حرصها على الهلاليين.
– فقط لنعرف عن قريب ما استجد، الطريق …
غمغم القاضي بدير بن فايد: الطريق وريادته.
وأكملت الجازية مؤكدة: الريادة.
وهكذا عادت الأنظار جميعها لتنصب على أبي زيد الذي أطرق من فوره مستجيبًا، مفكرًا في زوجته العالية التي لم تبرأ بعد من أحزانها وأفراحها، لكن ما العمل ومصلحة وأمن وقوت القبائل الهلالية تهيب به للإسراع في الحركة والعمل المضني، الذي آن أوان تحقيقه إن لم يكن قد تأخر كثيرًا.
•••
وبالطبع لم تخل جلسة اللقاء من التمثل بالشعر الملحمي الذي عُرف عن الهلاليين وأبطالهم، والذي يحوي حكمتهم وبساطة حياتهم وسماحتهم.
فأُلقيت القصائد والأشعار العامية التي تفيض تمجيدًا بمآثر أبطالهم:
وتعالت معلقات شعر الخفاجا «عامر» حاكم العراق المتفجرة بالأحاسيس القومية الجياشة:
ومن خارج قصر المشورة الشاهق تعالت التكبيرات والهتافات المدوية.
وهو القصر المشرق بأبهائه ومشربياته وقاعاته العربية المطل على أكبر ساحات نجد الفسيحة المترامية، حيث تجمعت وفود الفرسان المتطلعة حماسًا لما يحدث ويجري داخل أروقته وأبهائه الفسيحة، وهو ريادة المغرب وتعريبه، ونشر الحضارة العربية عبر ربوعه، سواء حدث هذا بالتراضي والإقناع أو استلزم الأمر حد السيف.
وتعالت هتافات الدعوة للجهاد، كما ارتفعت الأصوات المطالبة بالإسراع والتعجيل بالرحيل، مما اضطر الجازية إلى حث أخيها السلطان حسن على مواجهة الجموع المتحفزة الثائرة في الخارج، وطرح ما انتهت إليه المشورة.
وحبذ رأي الأميرة الجازية كلٌّ من دياب بن غانم وأبي زيد الهلالي قائلًا: لا بد من طرح الأمر على الصغير قبل الكبير، ومصارحة الناس بمستقبل مصيرهم ووجودهم بكامله.
ولم يجد السلطان بدًّا من التدثر بعباءته والخروج إلى الشرفة الكبرى، ليُستقبل بالهتافات والترحيب المدوي المعبر عن تعلق جماهير الهلاليين به، حتى في أكثر المناسبات والظروف قوة.
واختُتم الهتاف والترحيب بالأشعار والأغاني الجماعية:
هنا قاطع السلطان حسن الجميع بإعلانه للقرار الذي أجمعت عليه المشورة، وهو الخروج وإعلان الجهاد.
ومن جديد علا تصفيق الاستحسان وتعالت الشعارات ودقت الطبول، وتبادلت الوفود التهاني التي قطعها صوت السلطان حسن معلنًا من جديد اضطلاع فارس الهلالية أبي زيد بالمصادرة للخروج أولًا لمعرفة الطريق إلى المغرب وريادته لها بصحبة الأمراء الشباب الثلاثة: يونس ومرعي ويحيى.
هنا تعالت التصفيقات مرة أخرى، حين اندفع أبو زيد محييًا الفرسان والجموع ممسكًا بأيدي الشباب الثلاثة: الريادة.
وحين وصل حماس الفرسان والجموع إلى آخر مداه، ارتفعت على الأثر أصوات طالبي التطوع، والتي سرت مسرى النار في الهشيم في أعصاب الجموع، التي كان قد هدتها وحطَّت عليها تلك الهدنة المملة الطويلة التي انتكس السلاح فيها إلى حد الصدأ.
تعالت أصوات راغبي التطوع منذ البداية، وتقدم أبو زيد بصحبة يونس لشرح الأمر وإيضاحه باعتبار أنها — أي الريادة — مهمة استطلاعية سرية لكشف ما استجد من أمور ومسالك وحكام جدد واستعدادات دفاعية، تمهيدًا للخروج والرحيل وبالتالي القتال.
وارتفع صوت يونس موضحًا: تمهيدًا للجهاد.
وانتهى اللقاء بين القادة الهلاليين وجموعهم بإسراع الجازية والأمير يونس بفتح الأبواب على مصراعيها وخروج الشباب بأكداس الطعام والشواء التي ارتفعت رائحتها حين آن أوان العشاء، فمُدت الموائد والأسمطة المغطاة بأكوام اللحوم والثريد وأطباق الحلوى والفاكهة والمشروبات.
وتبادل الجميع على موائد الطعام الآراء والمعلومات التي عادة ما يختزن المفيد منها حتى ولو جاءت من أبسط الناس، وفقًا لتعاليم الشورى الهلالية.
وطغت أمنيات الجموع والفرسان المودعة لأبي زيد والأمراء الثلاثة في مهمتهم الجديدة على الأفواه، مصحوبة بالدعاء والتوفيق وعبارات التكريم الحارة والوداع.
– ترجعوا بالسلامة!
– النصر!
– أقصر المسالك!
– تعرفوا على ما يحدث حولنا.
– قرطاج للمرة الثانية!
– تونس.
– تسلحوا بالحكمة والصبر.
إلى أن هب عربي عجوز، وهو سائل غريب الأطوار، ممسكًا بين قبضتيه الخشنتين بفخذ من ضأن الماعز مقاربًا الأمير يونس رافعًا صوته العميق النبرات داعيًا: أعدك يا أمير يونس بحب عزيزة بنت سلطان تونس! ودوت التعليقات الساخرة والمتهكمة …
– عزيزة!
– نعم، «السفيرة» عزيزة.