تنكر «أبو زيد» والفرسان الثلاثة
كان أصعب ما في «الريادة» والعزم على السفر بالنسبة إلى فارس التحالف الهلالي أبي زيد بصحبة الأمراء الشباب الثلاثة يونس ومرعي ويحيى؛ هو كيفية مفاتحة زوجته العالية بنت جابر بالأمر، فما الذي يمكن قوله لها وهي التي لم يمضِ على زواجها منه، برغم قتله لشقيقيها عقيل وزيد سوى تسعة أيام لا غير؟
صحيح أن أبا زيد أحال تجربة تلك الأيام التسعة إلى ما يقارب تسعة أعوام، تمكن خلالها من ترطيب جراح العالية الغائرة الأبعاد، بطرح تفاصيل وظروف ما حدث منه لشقيقيها في مجاهل الهند وسرنديب منذ زمن مضى وانقضى.
وطالبها أبو زيد في نهاية شرحه لما حدث بأهمية الأخذ بمبدأ أن ما فات مات وانتهى أوانه وأجله، فالأكثر أهمية هنا هو حاضرهما معًا، يعانيان مشاكل ما حط على كاهل العرب الهلاليين في السنوات الأخيرة من كوارث لا قبل لهم بها على طول تاريخهم الطويل الحافل: المهم يا عالية يا حبيبتي هو محاولة تغيير واقعنا دون استسلام.
وكم كانت فرحته حين انتفضت العالية بنت جابر كما لو كانت تجفف آخر دموعها قائلة: معك كل الحق يا أبا زيد، المهم هو المستقبل وكيفية تملكه.
ظل أبو زيد طيلة تلك الأيام البسيطة التي اختلى فيها بالعالية ليل نهار يحاول إرغامها على نسيان ما حدث منه لشقيقيها الأميرين عقيل وزيد دون رجعة، وهو لا يكف عن محادثتها والتقرب بكل كيانه منها، كما لو كان على دراية بأن خلوتهما معًا قصيرة العمر كزهور الخريف البرية، التي سرعان ما يذويها الغياب والترحال.
وسرعان ما تحقق صائب رأي أبي زيد، حين أجمعت مشورة قادة الهلاليين على الاستنجاد به قبل الإقدام على طرق طبول الحرب إيذانًا بالرحيل الجماعي، ولكي يخرج أولًا برفقة الأمراء الثلاثة يونس ومرعي ويحيى أبناء السلطان حسن بن سرحان لاستكشاف الطريق وتأمين أخطاره عبر الأقطار والكيانات المتاخمة لنجد والجزيرة العربية عامة وصولًا إلى المغرب العربي وتونس الخضراء، قبل الهجرة القارية الجماعية وما تستلزمه من دفاع وحرب.
هكذا رأت الجازية ووافقها الجميع، على أن من الأسلم زيادة الطريق وتعرف مخاطره قبل الخروج الجماعي.
وفي مثل تلك المعضلات التي تعترض الهلالية، فليس هناك أقدر من أبي زيد حنكة وذكاء وحرصًا على أمن الجميع الصغير قبل الكبير، من قبائل وبطون بني هلال بمؤنهم ومواشيهم وسعيهم وبيوت وَبَرهم وعتاد حربهم.
حتى إذا ما حانت ساعة الرحيل لأبي زيد والفرسان الثلاثة، عمت مظاهر الوداع كل مضارب نجد المرية، وتزاحمت الجموع المودعة لأبي زيد ورفاقه وهم يعتلون صهوات خيولهم، مزودين بمؤنهم من زاد ودواء، وقلوب الجميع تخفق لفراقهم خاصة السلطان حسن والعالية زوجة أبي زيد وقائد المشورة والحرب الأميرة الجازية، التي قبَّلت الجميع في حنو الأم الكبرى: تصحبكم السلامة!
حتى إذا ما أطلقوا العنان لخيولهم إلى أن خبأ ترابهم وتواروْا عن الأنظار، عرج بهم أبو زيد الهلالي فجأة مغيرًا اتجاهه ساخرًا منهم: هل تتصورون أننا سنرود الطريق؟!
هكذا على هذا النحو! واندفع يضحك صاخبًا وهو يعدو بحصانه مسابقًا الريح: اتبعوني أيها الشباب الذين ما زالت الخبرة والتجربة تنقصكم.
إلى أن انتهى بهم التجوال على مشارف تل مرتفع منعزل، أقيمت إلى جانبه واحدة من الأبنية الخلوية التي يعرف طرازها يونس: خلوة أبي زيد.
وما إن ترجل أبو زيد عن حصانه طارقًا، حتى اندفع خادم أو تابع أبي زيد الشهير «أبو القمصان» فاتحًا مرحبًا بأبي زيد وهو يمازحهم قائلًا: أهلًا وسهلًا بكم، سوف تدخلون هذه الخلوة محملين بالمال والثمين وتخرجون منها شحاذين!
وحين داعبه الأمراء الثلاثة مترجلين داخلين: ربنا يهديك يا أبا القمصان! اندفع عيار أبي زيد العجوز ومعلمه في الخدع ومكمن سره أبو القمصان يقودهم من قاعدة إلى ما يعقبها وهم شبه منوَّمين مسحورين مما تقع عليه عيونهم من محتويات خلوة أبي زيد تلك، وهي أكداس لا نهاية لها من مختلف الأزياء الخاصة بالبدو والفلاحين وسكان الجبال، كثير من الأقنعة الملونة والشعور المستعارة والآلات الموسيقية الشعبية وأزياء الصيادين والصناع والنساء من مختلف الطبقات، ابتداء من الغواني وضاربات الودع والقابلات وانتهاء بالمحجبات من السيدات المحصنات، فضلًا عن أزياء وأغطية رءوس للكهنة من أقباط مصر وروم وسريان ومجوس وهلِّينيين وأناضوليين وأحباش وغيرهم.
بالإضافة إلى ما احتوته قاعات خلوة أبي زيد العالية المترامية الأطراف والقاعات من أشياء حتى دعاها مرعي: بيت جحا كله مسالك!
وعاجله يونس: خرج الخال أبي زيد الذي لا ينضب!
هنا انتصب أبو القمصان هازلًا مطلًّا بسيفه — الخشبي — من أعلى السلم معلنًا بزهو: تلميذي، تلميذ الفارس أبي القمصان!
وضحك الجميع حتى أبو زيد الذي تحول من فارس إلى راقص بعدما خلع عنه ملابسه وغير هيئته وإيقاعه ونبرات صوته!
هنا صفر أبو القمصان في تعالٍ كمن يصدر أوامره: اخلعوا ملابسكم جميعًا!
صفر ثانية: ملط زلط!
وحين أغرقوا في الضحك غير مصدقين من كيفية تحول أبي القمصان فجأة إلى ليث وهو يواجههم، قال أبو زيد محذرًا قليلًا: كله إلا الضحك يا شباب!
تساءل الأمير الأصغر يحيى: كيف؟ إن ما يحدث هنا يُضحك حتى الحجر!
مضى أبو القمصان متصنعًا في تعاليه مهددًا: هذا الحجر يضحك إلا أنتم، ممنوع!
وعاد مواصلًا تعاليه مختطفًا كرباجًا أسود: الحجر، والحجر الصوان!
عانى الأمراء الثلاثة طويلًا لكتم ضحكاتهم من غرابة أطوار تلك الخلوة وحارسها أبي القمصان وانفلاته تمامًا على هذا النحو أمام الجميع.
كل هذا وأبو زيد منشغل عنهم لا يضيع لحظة في إعداد «خرجه» الشهير ومحتوياته الغريبة، ما بين عناصر ومواد كيمائية كالزئبق وحجر المغناطيس وشمعة التنويم «البنج» والدخان المحبوس، ومجموعة لا بأس بها من مختلف الأعشاب والعطور والبخور، منها ما هو مركب ومنها ما يضحك ويرخي المفاصل ويدفع إلى الهياج أو إلى أقصى درجات النوم أيامًا بطولها.
وفجأة قطع الصمت صوت أبي القمصان المدوي الآمر حتى لأبي زيد: لا تنسَ الكوابيس!
عاد يؤكد مشيرًا إلى صندوقه: أقصد بخور الكوابيس يا بركات.
هنا اندفع أبو زيد ممتنًّا إلى أبي القمصان الذي بدا كما لو كان يقرأ أفكاره حين عاد مذكرًا: والزي الآخر.
ومن فوره اندفع أبو زيد مغيرًا هيئته أمام مرآة هائلة متنكرًا بزي شاعر جوال، وأبو القمصان يضع له لمساته الأخيرة مقدمًا إليه الربابة: هكذا تصبح فعلًا في أرذل العمر، شاعرًا عجوزًا مجربًا تمامًا!
ثم ناول أبو زيد يونس والبقية أزياءهم، وأبو القمصان لا يكف عن وضع لمساته الأخيرة، ما بين أسلحة محددة تخفى تحت الأردية البالية المزرية، بالإضافة إلى أشياء ومواد مختلفة تُخبَّأ هنا وهناك.
منها ما يخفى في الجيوب والشقوق المتعددة المسارب أو داخل آلات عزفهم، إلى أن تغيرت هيئاتهم وشعورهم ووجوههم وأيديهم رأسًا على عقب. كل هذا وأبو القمصان لا يكف عن هزله وتشفيه الخفى!
– أريد منك أن تعرج أكثر.
ويمضي مقلدًا مشية الأعرج وغدوه وهرولته وجريه متراقصًا ومعبرًا ومتهكمًا أيضًا، حتى إذا ما ضحكوا باستثناء أبي زيد صب جام غضبه على رءوسهم الواحد تلو الآخر بغطرسة هي ذاتها التي تُضحك من لا يَضحك: إلا الضحك يا شعراء الغبراء!
ثم عاد أبو القمصان يهدد: من يضحك ضاع!
مؤكدًا: وقد لا ترجعون! ومن يعرف فقد تعودون أدراجكم إلى نجد أيضًا وأنتم تعرجون وكلما حاول أحدكم الوقوف وقع.
وطالت فترة تدريب الفرسان الثلاثة التي ترك أبو زيد مهامها لمعلمه — كما يدعي — أبي القمصان أفضل عيَّاري عصره، قائلًا في نفسه مغالبًا بدوره ضحكة إلى حد انحباس أنفاسه: أعطنا فرصة يا أبا القمصان!
كان أبو زيد يعرف في أبي القمصان تعطشه الجنوني إلى حد الإغراق للعظمة والسلطة والتسلط، وها هي الفرصة قد حانت وسنحت وخلا الجو لأبي القمصان ليفرح …
وقطع صوت أبي القمصان مزمجرًا حبل أفكار وتداعيات أبي زيد: من يضحك مكانه غياهب السجون وزنزاناتها، وقد تكون بأرض الشام وبلاد السرو وغياهب سجون صعيد مصر.
ومضى كمن يخطب مشرفًا من أعلى درجات سلالمه — التي فيها قتل الزير سالم ودفن بالعرابة المدفونة — مشيرًا بعظمة: لا تنسوا زيارتها.
إلى أن جاءت «بروفات» الإيماء والتمثيل والتقمص والغناء و«الحدى» والإنشاد الجماعي والعزف الموسيقي، التي تناولها أبو القمصان كلها معدِّلًا هنا وهناك إلى أن هب فجأة مصرحًا: ناقصكم من يرقص!
وضحك الجميع حتى أبو زيد الذي استلقى على قفاه مرحًا مسترخيًا كعادته حين يضحك حقًّا وليس زيفًا وتقمصًا من أعماقه: كملت يا أبا القمصان؟
واصل أبو القمصان ملاحظاته مصرًّا: غازية!
قارب أبو زيد مسرًّا في أذنه مسرعًا كما لو كان يملي شفرة سرية، سمع منها الفتيان بضع كلمات متناثرة منها: «مي» الحزينة الهلالية والأميرة الأعجمية «شاه الريم»، وكيف أن «مي» هذه ابنة الأمير «مفرج» الهلالي، تعمل عند شاه الريم كمغنيتها الأثيرة التي عمت شهرتها كل مكان.
ووصل اندهاش الفتيان الهلاليين مداه وهم في شبه إغفاءة قبل استئناف المسير مع الفجر الذي بدت بوادر إشراقه على السفوح والتلال المحيطة، حين ذكر أبو القمصان لأبي زيد عنوان تلك المغنية الهلالية «مي»: ثمانية غرب حلب الشهباء.
ومرة أخرى وصل تطاول أبي القمصان إلى حد الصعود على سطح البناية مصدرًا تعليماته حالما امتطى أبو زيد والشباب جيادهم تمهيدًا لبدء رحلتهم بأحمالهم: وحذار من حسان وجميلات تونس وعزيزة.
ضحكوا طويلًا وأبو زيد ما زال يراقبه في تجبره وزيه المضحك، ويدعوهم صارخًا بأعلى صوته: اذهبوا بلا رجعة!
وغابوا في أثر أبي زيد متوجهين نحو الصحارى والقفار والسهول وأعالي الجبال وشعابها حيث قضوا فيها أيامًا، يقدمون فنونهم ويمتدحون الأجاويد إلى أن شارفوا تلال حلب الشهباء والتي منها اقتنى أبو زيد الهلالي فرسته — الشهباء الشهيرة — فهمسوا قائلين: حلب الشهباء!