سكك أبي زيد
يعرف أبو زيد الهلالي المدن والأمكنة والمسالك كما تعرف هي — أي المدن — مآثر ومأثورات «نصير المساكين» أبي زيد ذاته.
ومنذ خروجه من نجد وعروجه إلى خلوته التنكرية التي مارس فيها تابعه وعيَّاره العجوز أبو القمصان طغيانه على الفرسان الثلاثة منكِّلًا ومعلمًا، لحين طوافه على أطراف جنوب الجزيرة الساحلية إلى عدن وحضرموت والبحرين، ثم قدومه إلى بلاد السرو وعبادة بوادي الأردن وفلسطين التي كان يحكمها السركسي بن قارب صاحب الجيوش والمواكب والحشود الهائلة المعاربة، والتي أثارت تحفظات أبي زيد ويونس حتى إن أبا زيد بعث من فوره إلى قومه الهلاليين مخبرًا منشدًا:
وما توصلوا إلى غايتهم حتى واصلوا سيرهم إلى دمشق التي كان يحكمها «شبيب التبعي» المسمى بالتبع شبيب بن مالك، ووزيره الحكيم المدعو «عميرة».
وكان ذلك التبع المتجبر يتسمى بشاحب العمود، ونجح أبو زيد والفرسان في الوصول قريبًا من قصره ومدحه هو وزوجته «جنوب» في قصيدة.
وكالعادة ما إن يحط أبو زيد ورفاقه رحالهم بمدينة أبي نجع، حتى يمضي من فوره إلى الاجتماع بعيونه وعيَّاريه الهلاليين، يصل إليهم أينما كانوا، تقلبت بهم حروفهم وماوريهم وحركاتهم وهجراتهم، وكأنه يتشمم مترصِّدًا خطاهم.
إلى أن حطوا رحالهم على مشارف حلب الشهباء ذات مساء مكتمل القمر، ومن فوره أخرج أبو زيد عناوينه، ومنها عنوان المغنية الهلالية «مي»، حسب ما ذكره له أبو القمصان ووصاياه «الموحلة بالطين» كما كان يدعوها أبو زيد متندِّرًا.
وكما لو أن الجارية الهلالية الحسنة الصوت والمحيَّا «مي» على موعد مع وصولهم؛ ذلك أن أبا زيد التقى بها من فوره ومنذ الأمسية الأولى التي حطت فيها قدماه أرض حلب الشهباء بقلاعها وساحاتها ومبانيها القوسية الحانية وموسيقاها الشجية ذات الألحان المعروفة وأسواقها المسقوفة وحواريها وحاراتها المرصوفة والحجارة ووراق بساتينها وسهراتها وغيطانها ذات الهواء العليل.
فما إن قاربوا قصر الأميرة «شاه الريم» الحصين الوافر الجنان، والتي تعمل عندها «مي» كأقرب جواريها، منشدين رافعين عقيرتهم بالغناء على أحوالهم، حتى جرت من فورها مشيرة إلى سيدتها التي كانت تُعاني حصارًا ضاريًا من جانب وزيرها المقرب الوصي على عرشها، والذي كان يتهددها ليل نهار بالزواج منها عن رضا أو رغمًا عنها؛ لاغتصاب سلطتها دون أدنى شفقة.
جرت مي فرحة مستبشرة إلى سيدتها شاه الريم مؤكدة وهي تنصت إلى غنائهم كما لو كانت تحل رموز كلماتهم الملغزة: خالي أبو زيد، جانا مفرج الكربات.
وحين اختلت به وببقية الأمراء الهلاليين بهرها حسن يونس واعتداده وفروسيته حتى وهو تحت أصباغه ومساحيقه وهلاهيله البالية، فرحبت بهم وأدخلتهم خلسة إلى سيدتها التي حكت لهم دامعة العينين مأزقها مع وزيرها ومملوكها الجشع «الهصيص» الذي استبد بحقوقها مستغلًّا كونها فتاة مسكينة لا نصير لها.
ووعدها أبو زيد مطمئنًا بمناصرتها وإرجاع حقها، على أن تترك لهم مي الحزينة لترافقهم كمغنية عبر رحلتهم ومخاطرهم إلى تونس والمغرب.
ودفعت تلك الواقعة وتعهد أبي زيد للأميرة المنكوبة إلى المكوث بضعة أسابيع في حلب بانتظار لحظة تحيُّن الانتقام لشاه الريم من الهصيص المتسلط حاكم حلب.
إلى أن حانت — حسب نص السيرة — ليلة زواجه القسري من شاه الريم وتسللهم بعد خداع الحرس إلى عرسه الماجن، لحين تحينهم للحظة غفلته، فقطعوا رأسه وهو مخمور وعادوا به إلى الأميرة الصغيرة الجميلة، التي لها كامل الحق في حكم حلب الشهباء وتخومها.
وأعجبت هي بشجاعة الهلاليين وأغدقت عليهم ثمين الهدايا، ووعدت بمناصرتهم دومًا اعترافًا لهم بمعروفهم، وسمحت لهم باصطحاب صديقتها المقربة «مي»، التي فرحت كثيرًا باصطحابهم مودعة أميرتها باكية من رهبة الفراق.
وبعد ذلك اتخذ أبو زيد ورفاقه من شباب الأمراء ومعهم مي الحزينة طريقهم إلى تونس وبواباتها السبع.
وهناك أقاموا مضربهم بوادي الغباين المزدهر البهيج المتاخم لأحد مداخل أو بوابات قرطاج الشهيرة أيامًا، لتحين فرصة الانفلات والتسلل إلى داخل تونس وتحقيق مأربهم العاجل الذي تنتظره جموع الهلاليين ببالغ الصبر والثقة.
فكانوا يقدمون عروضهم وأغانيهم وأهازيجهم ليلًا التي شاركت فيها مي بصوتها العذب الرخيم، الذي اجتذب حراس البوابات والمفوضين على الداخلين إليها من زائرين أجانب.
ولم تكن مي الحزينة أقل حماسًا ولا إقدامًا بالنسبة إلى الريادة ومخاطرها، وهي التي قبلت عن طيب خاطر اصطحابهم: فأنا مثلكم هلالية.
وهكذا وثق بها أبو زيد ويونس خاصة، الذي بهرها حقًّا مدى فروسيته واعتداده وإقدامه وكل ما ينبض فيه من تواجد أو حضور وإيقاع متناسق: زينة الشباب.
إلا أن الانتظار الذي طال أمده على بوابات تونس لم ينسِ أبا زيد لحظة مهامه من حيث الإلمام به، كأمن كل مناطق القوة أو الضعف على طول القلاع الأربع عشرة التي تتبع سلطنة تونس وقرطاج.
فكان يتغيب عن الباقين أيامًا، يمضيها عدوًا بفرسته الشهباء، مواصلًا تجميع معلوماته باثًا عيونه مرسلًا رسائله بالحمام الزاجل التي كان يحسن تدريبها واستخدامها في أحلك المآزق وأكثرها تطلبًا للسرعة والملاحة، فهو كما يقول عن نفسه: عين هنا، والثانية على نجد والأهل.
حتى زوجته العالية بنت جابر، والتي أجهضت هذه الرحلة زواجه منها، ولم يكن يبخل عليها بخطاباته التي عادة ما تتجمع كلها لتحط كمثل وفد من الحمائم على كتفي ورأس عيَّاره وتابعه أبي القمصان أينما كان في خلوته: حمام الحبايب.
هنا كانت أهمية أبي القمصان تتزايد في نظر نفسه ليروح معلنًا للسلطان حسن والجازية والعالية زوجة أبي زيد التي كانت تنتظر على أحر من الجمر وصول الرسائل: وصلت المكاتيب.
وهو تعبير أعطاه أبو القمصان أهمية خاصة؛ نظرًا إلى الكيفية التي يعلن بها عنه، سواء للجازية أو الأميرة العالية، إذ تنشق الأرض فجأة عن أبي القمصان متشحًا بزيه الرسمي، كجندي منح نفسه ذات يوم لقب فارس والذي تطور معه مع مرور الزمن إلى لقب أبي الفوارس.
ففي العادة يقف أبو القمصان فجأة أقرب إلى منطقة الرأس من «ضحاياه»، معلنًا بصوته المختنق المتعدد النبرات، داقًّا الأرض بعصاه أو كعب رمحه، الذي عادة ما ينتهي بشارة الهلاليين الخضراء يتوسطها هلال أبيض صريح، معلنًا كمثل منادي قرية أو نجع: الحين وصلت الرسائل.
أما في حالة العالية زوجة أبي زيد، فقد أفرط زوجها الغائب في الكتابة لها مطولًا، خاصة بسبب ظروف عشقه الجارف لها منذ أول لقاء تصافحا فيه، حين قدمها له السلطان حسن خلال عزاء الشماء وهو يأخذ بيدها البضة الدافئة نازلة عن هودجها المطرز برقائق الذهب البخاري الأحمر: الأميرة العالية بنت جابر.
حينذاك استحال لون أبي زيد الأبنوسي الأسود إلى اكفهرار أصفر يقارب شحوب الموت ذاته، وهو يمد لها يده مصافحًا مساعدًا: أهلًا وسهلًا.
ولم يعرف كيف يكمل جملته هذه مرحِّبًا بها حول سلامة الرحلة من وادي الحجاز وما تنطوي عليه من مخاطر حتى الوصول إلى نجد.
ذلك أن العالية سلطت عليه وهو ينزوي خجلًا أهدابًا مسلطة كمشرطي حربة همجية لها وقع أكثر من أربعة وعشرين نصل حسام بينما السلطان حسن ينطق باسمه معرِّفًا ومقدِّمًا: بركات، الأمير أبو زيد الهلالي.
ليته لم ينطق باسمه أمامها! ساعتها لم يكن حدث ما حدث لأبي زيد الذي تراجع من فوره متقهقرًا إلى الخلف كما لو كان ينادي، أو يبحث بعينيه عن شيء وليكن مجرد غطاء خباء يستر به نفسه وهو في مواجهتها.
إلى أن آثر الاختفاء عن عينها بالهرب من واجبات العزاء واستقبال الضيوف والوافدين من ملوك وأمراء وحكام وشيوخ قبائل وقادتها، جميعهم قدموا بوفدهم معزين في موت الأميرة الأم الشماء، ثم للاجتماع به لاستطلاع الرأي وتكامل المشورة.
إلى أن عثر عليه يونس في أقصى أقاصي خلواته المهجورة التي يعرف يونس دون غيره أنه لم يزرها ويطأها منذ زمن بعيد.
لحين ظروف زواجه من العالية الذي أراده هو أن يبدو في العلن كزواج تحالف لتوثيق الروابط السياسية، خلال لقاءات جمع الشمل بين فيالق الهلاليين، الذين طال بهم الاسترخاء وانتكاس السلاح أثناء شعائر موت الشماء قائدة التحالف الهلالي الذي امتد أربعين يومًا وليلة.
لحين رحيل أبي زيد عن العالية وحط رحاله هنا على بوابات تونس قرطاج يغالبه الحنين إلى العالية زوجته وحبيبته.
تنهد أبو زيد وهو يسابق ريح الصحراء معتليًا صهوة فرسته الشهباء، مغالبًا ذلك الحنين الجارف للعالية والأهل الذي حط عليه فجأة وهو يصل بريادته على رأس الفرسان الأمراء الثلاثة إلى تخوم بوابات قرطاج الشاهقة الارتفاع المحكمة الإغلاق في وجه الغرباء ومن أين جاءوا.
هبَّ العلام بن هضيبة عن كرسيه المذهب مأخوذًا منتبهًا كأنما يطرد بحركة رأسه غبارًا عن أذنيه وهو يسمع من أحد أتباعه المقربين عن أنباء تسلل الهلالية إلى قرطاج: كيف؟!
– يصطحبون معهم مغنية هلالية شهيرة جاءوا بها من حلب إلى هنا.
واصل العلام تقدمه باتجاه محدثه مواجهًا وهو يسلط حدقتي عينيه في عيني محدثه: أين؟
تراجع تابعه، وكان فتى منتصب القامة بيده بضعة مدونات وتقارير يقرأ عليه منها بحذر دقيق.
وبدا العلام كما لو كان يكلم نفسه: ديار تونس يا علام!
ثم مضى من فوره مواصلًا تقدمه باتجاه رسوله المتقهقر الذي لم يكن يتصور للحظة أن خبرًا كهذا يمكن أن يصدم الأمير العلام إلى هذا الحد الذي يقلب فيه كيانه رأسًا على عقب.
وضاعف من رهبة الرسول أيضًا ما أعاد نطقه العلام لنفسه في غيظ أقرب إلى الألم: ديار تونس يا علام … ھ … هكذا أصبحت تونس وديارها مباحة لعرب المشرق! وعلى حين غرة علا هياجه شاهرًا كرباجه ملوِّحًا في وجهه: ما أريده الآن التفاصيل كلها.
ثم واصل هياجه وصراخه قائلًا: ديار تونس! أنا من يقال له مثل هذا اللغو يومًا؟
واندفع مشهرًا ذراعه كلها على شبه خارطة مجسمة تملأ سطحًا رخاميًّا بأكمله يشكل أرضية إحدى غرف قصره، وتبين الخارطة هذه تونس كلها بمعالمها من سهول خضراء يانعة العشب وأنهار ووديان وبحر ضارب إلى الزرقة.
ومضى العلام مشيرًا بكرباجه وذراعه كلها للجميع، إلى ديار تونس وتخومها السبعة وقلاعها الأربع عشرة، في غضب شمل نائبه وتابعه وثلاثة من حجابه وحارسه الخاص، «عين» للزناتي خليفة مسلطة عليه يعرفها كما يعرف نفسه، وهي أكثر ما يخشاه في مثل هذا الموقف الذي تضمنه هذا التقرير المفاجئ حول كارثة وصول «عيون» الهلالية إلى تونس، كيف أن لا أحد من رجاله وفيالقه وعَسَسه وبصاصيه يعلم بهذا الأمر الخطير؟! حتى العلام هو نفسه المفروض أن يكون أول العارفين كان لا يعلم شيئًا.
يا لها من كارثة! سيلاحقه الزناتي مدى العمر خاصة في مثل هذا اليوم المشئوم المصادف حلول العيد الكبير، أو عيد اللحم والضأن: تتسلل عيون بني هلال إلى بوابات تونس — قرطاج — وتدخلها عنوة، إلى هذا الحد؟!
كان أبو زيد وفتيانه الثلاثة يونس ومرعي ويحيى وبصحبتهم «مي الحزينة» قد وصلوا إلى ديار تونس، حيث دخلوها من بواباتها الشرقية التي فُتحت منذ الصباح الباكر على مصراعيها للزائرين والغرباء، الذين تجمعت وفودهم على طول السهول الخارجية المحيطة التي لا يحدها البصر.
وفود من أعراب وبدو وشوام ومصريين ويونانيين وإيجيين وقبارصة بانتظار تلك اللحظة التي امتدت أيامًا بحالها قبل أن ينطق الأمير العلام بكلماته التقليدية: افتحوا البوابة الشرقية.
هكذا انسل أبو زيد والهلالية داخلين متسللين بعدما تعرضوا لأسئلة واستجواب طوابير طويلة ومختلفة من مختلف الرتب من عسس تونس الذين كانوا يسألونهم: من أنتم؟
نطق بها أبو زيد وأعاد نطقها على الربابة بمختلف تنويعاتها للحرس وأتباعهم وبصاصيهم والزوار الغرباء، فتجمهر الجميع من حوله وهو يقفز ويعزف إلى أن تدخل كبير الحرس، وكان مشرفًا عليهم كأبي القمصان، مشيرًا بكرباجه لإيقاف مهزلة أولئك الحَوَش قائلًا: أنا لا أحب الموسيقى والدوشة …
إلا أن أبا زيد واصل عزفه وقفزه الهزلي مادحًا:
هنا هاج رئيس الحرس المتغطرس ذو الكرش الكبير صائحًا: اتركوا هذا العبد الأغبر، دعوه.
وهنا اندفع أبو زيد داخلًا من فوره قفزًا إلى أن تخطى طوابير الزحام من حوله وأمامه، إلى ساحات تونس المزدانة عن آخرها بالرايات والمعلقات والزينات الملونة؛ احتفالًا بعيد اللحم الكبير الذي اجتذب الآلاف المؤلفة من التونسيين وأتباعهم والزوار والغرباء من كل صوب وحدب.
إلى أن توقف أبو زيد مترصدًا الباقين، الذين لم يطل بهم الأمر حين حذوا حذوه كفنانين شعبيين مشعوذين على باب الله: على باب المولى تمدح الأجاويد.
فما إن امتدت أيديهم إلى آلاتهم الموسيقية في صخب حتى هاج أكثر رئيس الحرس، مشيرًا إليهم بالدخول: أوباش، صعاليك!
إلى أن اجتمع شملهم فغطسوا تمامًا وسط أسواق وأزقة تونس المزدحمة بالأجساد والاحتفالات الماجنة وروائح الشواء ومختلف الأطعمة والسلع، حتى أصبح من الصعب العسير اقتفاء آثارهم داخل بوابات قرطاج.
فاجتمع أبو زيد بعيونه وبصاصيه وتدبروا أمر معيشتهم مقدمين أشعارهم وغناءهم ومدائحهم وموشحات «مي الحزينة» داخل أحياء وأسواق ومشاري شاي قرطاج المزدهرة.
ترددوا على الموائد والاحتفالات الشعبية، وزاروا «سوسة» و«قابس» والقيروان، حتى عُرفوا وانتشر صيتهم بين الناس، وخاصة موشحات مي الحزينة وصوتها وعزفها الماهر، الذي أطرب جماهير مستمعيها من السُّمَّار الشعبيين في المدن وما يتاخمها من ضياع وقصور ودساكر.
كل هذا وأبو زيد لا يغفل لحظة عن المهمة الأساسية التي دفعت بهم إلى داخل بوابات قرطاج وتخومها وقلاعها وحامياتها.
فكان يتحين لحظات تدوين ما تجمع لديه من أخبار وملاحظات ليرسلها — كما يحلو له أن يتندر مع يونس: برًّا أو بحرًا أو جوًّا (عن طريق الحمام الزاجل).
لتصل طبعًا في مواعيدها إلى أسماع السلطان الهلالي والجازية وقطب التحالف الهلالي لعرب الجنوب اليمنيين دياب بن غانم، وحاكم العراق الخفاجا عامر، ووالد زوجته الأمير جابر والقاضي بدير، ودون إغفال بالطبع لزوجته العالية في نجد.
وكانت العالية من حدة تحمل مشاق انتظارها لأبي زيد «تنتزع» ريش طيور البيت من دجاج وإوز عن أجسادها، وهي تخفي في صعوبة ما يعتمل في أعماقها من سياط ولهب الانتظار والبعد واللوعة.
وحين طال بهم الطواف داخل الديار التونسية وضاقت بهم الأحوال أخرج يونس «فرعًا كان قد توارثه لعقد من الجوهر الثمين» من جدته الشماء ليبيعوه لأثرياء المدينة.
وحين عرضوه على كبير الدلالين أشار مبهورًا إلى تعذر بيعه سوى لابنة سلطان تونس الأميرة عزيزة!
هنا ألجم يونس نفسه عن النطق والكلام أمام الدلَّال الحصيف، سوى مجرد تبادل النظرات العجلى مع أبي زيد مرة ومع مي مرة ثانية غير مصدق: عزيزة!
حتى إذا ما أعاد الدلال تأكيد وجهة نظره لوفد الشعراء الجوالين الأغراب، متصورًا أن ما اعتراهم من تغيير قد يكون مبعثه شكوكهم في نواياه وذمته، واصل كلامه مؤكدًا: أجل الأميرة عزيزة، فهي وحدها التي تهيم حبًّا في اقتناء الأشياء الجميلة النادرة، وتدفع فيها الأثمان المرتفعة، بل هي تسافر في أثرها الشهور الطويلة لتقتنيها داخل مقرها المنعزل شمال قرطاج.
وعندما أعاد يونس التساؤل الصامت بعينيه مع أبي زيد، أيقن الدلال اليهودي من توجس أولئك الأغراب، الذين يبدو من هيئتهم أنهم من دراويش المشرق القحطانيين وأنه بسبب توجسهم هذا سيفقد «سمسرته» وصيده الثمين للغاية من كلا جانبي أو طرفي هذه الصفقة النادرة ندرة العقد الباهر العميق الأخضر، الذي صيغ من نادر أحجار الزمرد.
فاندفع من فوره مقدمًا لهم أقداح القهوة السوداء والحلوى والشاي الأخضر المنعنع شارحًا الأمر: ليس هناك من معضلة، فقصر العزيزة على مبعدة فراسخ إلى الشرق.
ثم شرح لهم كيف أنها أرفع زبائنه شأنًا وعطاء؛ لذا فلا بأس من التوجه بمصاحبتكم حالما ينتهي من إغلاق حانوته، وصرف زبائنه وعماله.
واعترت يونس رعدة مشابهة لتلك التي سبق لأبي زيد معاناتها لحظة لقائه بالعالية بنت جابر وتمكن يونس من تحسسها من بعيد، فتناول من فوره عقد الزمرد من يد الدلال المتكفئ المتوقد حماسًا وحركة لمصاحبتهم فورًا إلى مقر عزيزة قائلًا: نذهب حالًا، ولا داعي للتأجيل.
ثم غمغم لنفسه: عزيزة! أين أنا الآن في هذه الأسمال البالية من الخيش والأصباغ التي تغطي وجهي من الأميرة عزيزة؟
واصل الدلال عملية إقناعه لأبي زيد باعتباره كبيرهم الذي أشار بغلق حانوته والاتجاه معهم إلى قصر العزيزة: على خيرة الله.
وحين عاد يونس إلى تبادل النظرات مع أبي زيد، ضحك الأخير في خبث مغمغمًا في أذنه مذكرًا بحكايته القديمة: أتخاف امرأة يا يونس؟
هنا انتفض يونس، دافعًا عنه اضطرابه متحسسًا في جيبه حبات العقد: ماذا تقصد؟!
– أقصد عزيزة يا يونس.
أشار يونس كمن ينبه أبا زيد إلى ملابسه: أهكذا نتوجه إلى الأميرة عزيزة؟
– ولمَ لا؟!
ساعتها كان الدلال اليهودي المتوقد الذهن والحركة قد انتهى من صرف بقية زبائنه وعماله، وعينه لا تغفل عن يونس وعقد الزمرد الذي في حوزته وقاربهم منشرحًا مهوِّنًا الأمر. أمر أحد مساعديه بإعداد عربته المطهَّمة التي تجرها الجياد قائلًا وهو يأخذ بيد يونس الشارد بذهنه غير المصدق لما يحدث ويجري: خلاص، انتهينا، هلموا إلى قصر الأميرة عزيزة.
كان الحاكم الفعلي لتونس وتخومها العلام بن هضيبة قد وصل به القنوط واليأس إلى أقصى مداه، فتشابكت البلايا دفعة واحدة ومن جهات عدة لتحط على كاهله المثقل بواجبات حماية الأمن الداخلي لتونس وحكامها وشعبها.
وقد زاد الطين بلة أنه أوصل علاقته بابنة خاله عزيزة ابنة سلطان تونس المسجى مريضًا معبد بن باديس إلى نقطة التوتر واللارجوع رغم حبه الجارف لها منذ الصغر، وكان يعزز من هذا الحب رغبته العارمة في الاستحواذ على تونس بكاملها من خلالها، فتدين له قلاعها والدنيا بأسرها من بعدها.
بل إن ما حدث بينه وبين العزيزة من تطاحن وحزازات في الأشهر الأخيرة وصلت ذروتها حين استعانت هي في كشف ألاعيبه وأحابيله التي أصبح لا يكف يومًا عن نسج خيوطها بخبرة وحنكة ضدها، في محاولة يائسة للتقرب منها ولفت عينيها الباهرتين إليه يومًا أو لحظة.
فهو العلام الذي تدين له تونس من كبيرها لصغيرها، راضخة عند قدميه فيما عداها؛ عزيزة، فكان مثل هذا الإحساس الدفين يعتمل داخله طاحنًا مقوضًا لكل خطواته ومسئولياته الجسيمة، ويدفع به دفعًا إلى المحاولات إثر المحاولات للإتيان بأفعال كبيرة لافتة لكل عيان، تتيح له أن يحقق أقصى درجات الشهرة وذيوع الصيت والفروسية.
كان يتصدى للإيقاع بكل من تسول له نفسه الاقتراب من تخوم تونس وأسوارها المنيعة وبواباتها وقلاعها الموصدة ضد كل طامع أو معتدٍ، سواء كان أولئك المعتمدون والطامعون من الغرباء أو كانوا من اليونانيين والبطلميين والرومان أو من القبارصة أو الإيجيين أو البدو من عرب المشرق.
ولهذا تجبر العلام في معاملة أولئك الغرباء والمتسللين أيًّا كانوا وتحت أي سماء، فكان يقبض عليهم ليودعهم سجونه وزنازينه المطمورة تحت الأرض، أو قد يلح في مطاردتهم إلى أن يوقع بهم في البحر المحيط بالبلاد ليعود بجيشه وكتائبه بعد ذلك سالمًا منتصرًا أمام عيني مولاه خليفة الزناتي، الذي أسلم له مقاليد أمور مثل هذه الوقائع «البسيطة» التي تحدث هنا وهناك بشكل يومي، ولا يحتاج ردعها إلى تدخله شخصيًّا في القتال والنزال، باعتباره — أي الزناتي — فارس تونس الأول ومصدر هيبتها.
إذ ليس من المعقول أن يتصدى الزناتي لمختلف هفوات العوام اليومية أو حتى حملات الطامعين من «الهمج» الأفريقيين من أحباش وغيرهم وغينيين وصوماليين، وهو — الزناتي — الذي نازل منذ شبابه الجيوش الجرارة المدججة بكل سلاح وعتاد، دفع بهم إلى الموت الجماعي إما غرقًا في مياه البحار والمحيطات، وإما على منحدرات تلال تونس وسهولها وأراضيها المترامية المتفجرة خضرة وعطاء، كما أنه هو ذاته أبو سعدى الزناتي الذي صيغت عنه الملاحم والأشعار التي تتغنى بها الأقوام والشعوب والقبائل مشرقًا ومغربًا.
فليس من المعقول أبدًا أن يتخلى الزناتي عن استرخائه ولذائذه ليشغل نفسه بالتوافه وبكل صغيرة وكبيرة، ترك أمرها لجلاده الأصغر العلام بن هضيبة ابن أخته، الذي توسم فيه منذ أن تربى في حجره كل طاقات العنف وقسوة القلب وكل علامات الكره والحقد، فاكتمل ناحلًا أصفر الوجه عبوسًا على شاكلة كل منتشٍ بسفك الدم وإهراقه، بل على شاكلة وطبائع الزناتي ذاته خاله ومعلمه الأول.
لذا فما إن تناهى إلى أسماع الزناتي خليفة خبر مفاده ذلك التسيب الحادث والفوضى عند مداخل بوابات تونس قرطاج، وبخاصة حين أسر له «عيَّاره» — وكان عجوزًا محنكًا نافذ البصيرة — بالشك في تسلل بعض عيون عرب المشرق المعروفين بالهلالية، حتى انتفض كالملدوغ سائلًا عن ابن أخته العلام بن هضيبة: أين العلام؟ ماذا يحدث؟! عيون بني هلال، يا لها من كارثة! هنا في تونس … قرطاج؟!
ومضى يتساءل منزعجًا عبر جنبات قصره يطرق كفًّا بكف غير مصدق: جواسيس عرب المشرق! جواسيس الهلالية! أيعقل هذا؟!
فكيف تصل الغفلة والتسيب بالعلام إلى حد تسلل عيون بني هلال وبصاصيهم إلى تونس بطولها وعرضها؟! وعلى هذا النحو يسوقه بصاصو الزناتي والعلام ذاته من دون التوصل إليهم أو إلى أثرهم، فهو ما لا يُطاق: كارثة.
استدار سائلًا في حدة: هذا أمر لا يمكن احتماله …!
استدار الزناتي وهو يتفوه بهذه الكلمات نازلًا عن عرشه المتوارث منذ ملوك اليمن من العرب العاربة أو الغابرة: لا يحتمل يا علام.
وحاول بعض المقربين من وزراء الزناتي تهوين الأمر: العلام في أي حال ابن شقيقتك ومن لحمك ودمك.
هنا استدار الزناتي وقد أصبح أكبر غضبًا وهياجًا رافضًا هذا المنطق مشيرًا بأطراف حربته المتعددة الرءوس إلى ذراع قائلًا: إنه لن يتوانى عن قطعها — أي ذراعه — إذا توانت أو تراخت عن أمن تونس وقلاعها الحصينة، ثم أردف يقول: نخلة بلا طرح لها عندي دواء … هو المنشاط.
وقبل أن يعود الزناتي إلى الجلوس على كرسيه متعاليًا كالطاووس، أشار على مستشاريه وأعوانه بضرورة استدعاء العلام فورًا أينما كان ومن تحت أي سماء: الليلة.
وهنا تدافعت وفود حجابه ومستشاريه لتنفيذ أوامر الزناتي.
– الأمير العلام الليلة، حالًا.
واصل الزناتي مشيرًا بحربته إلى عينيه قائلًا في صرامته المعهودة: لن تذوق عيناي نومًا الليلة قبل مثول العلام، حتى ولو كان في سابع نومة أحضروه.
كانت مشكلة المشاكل تلك الليلة التي لم تنم فيها عين من عيون حكام تونس وشيوخها في البحث المضني على طول قرطاج وتونس وتخومها عن العلام، ولكن دون طائل.
إلى أن تجمعت محصلة الأخبار منبثة عن أن العلام قارب القيروان، عبر مطاردته لجواسيس بني هلال المتنكرين الذين تسللوا داخلين إلى تونس في غفلة من حراسها.
إلى أن جاءت الأخبار بعد بضع ساعات أن الأمير العلام تمكن من أسر جواسيس بني هلال الأربعة، وجاء وصفهم كالآتي: رجل دائب الحركة في منتصف العمر، يعتقد أنه أبو زيد الهلالي ذاته، وثلاثة أمراء متنكرين، وأميرة مغنية حسنة الصوت عذبة الملامح دقيقة الجسم.
حتى إذا ما وصلت تلك الأنباء إلى أذني الزناتي — السهران — المؤرق، جاء رده في صيغة أمر صارم: أحضروهم أحياء، الآن.
وبدا منظرهم مزريًا للغاية، مثيرًا لكل شفقة لكل من وقع بصره عليهم حتى الزناتي ذاته، الذي مضى يتأملهم وهم يَحْبُون على أربع عند قدميه!
وظهر أحدهم كرجل مسن له هيئة الشعراء الجوالين: على باب الله!
بمدح وقدح بربابته وخرجه الكبير الذي طغى على نصف بدنه الواهن، ومعه فتاة صغيرة بيضاء باهرة الجمال تنبض بالأنوثة وبيدها قيثارتها وهي تحبو تحت أثقال شعرها العسجدي الأحمر مستنجدة: بعرضك، ستر الله عرضك!
وكانت تتكلم بلهجة البدو التونسيين من «حَوَش» وغجر بسطاء.
وكان هناك أيضًا ثلاثة شبان أبرياء الوجه والملامح يسند الواحد منهم الآخر، وقد حاول كبيرهم التماسك تحت جراحه الدامية من آثار الضرب المبرِّح من قبل العلام وجنوده، فبدا لسانه ملتصقًا بسقف حلقه الجاف.
أما العلام فقد وقف كمن يلقي بأسراه تحت قدمي عرش الزناتي مشيرًا في أفعوانية وغطرسة: ها هم.
واندفع مختلقًا للزناتي قصة عثوره عليهم وعلى بعض عيونهم بعد مطاردة طويلة، خاصة كبيرهم صاحب الملاعيب، ثم أسرَّ في أذن خاله الزناتي بما يظن: لا تغرك مسكنته هذه.
ونزل العلام مسرعًا نشطًا السلالم المفضية إلى عرش الزناتي متجهًا من فوره إلى حيث يقبع الأسير العجوز الأسمر اللون الذي انحبس عنه لسانه من هول ما يحدث، فمضى يدور حول نفسه مطرقًا باكيًا مولولًا بلا صوت.
ومد العلام ذراعه في خاصرته تحت عباءته مخرجًا سلاحه المطعَّم بالذهب الأحمر صارخًا بأقصى حدة: خذوهم.
هنا انقض حرس العلام حسب إشارته على الأربعة فقطعوا رءوسهم عن أجسادهم وهم يصرخون والزناتي يغمغم متثائبًا: أنام … أنام.
أغمض خليفة الزناتي عينيه محاولًا النوم مع آخر صيحات الفنانين الشعراء الأربعة، وسرعان ما خبا صراخهم تحت طعنات العلام حسب أوامره الصارمة، لكي يتم تعذيبهم وشل حركتهم أثناء اصطحابهم عبر الطريق إلى قصر الزناتي.
– لا صوت واحدًا يُسمع منهم ولا همسة.
وهكذا طعن حرسه أولئك الأربعة تعذيبًا وضربًا إلى حد شل كل ألسنتهم وحركتهم أمام الزناتي: كتمًا، كتمًا.
لذا تم تنفيذ كل شيء بتمامه إلى الحد الذي أرخى جفون خاله الزناتي بعد طول سهد وانتظار، وبدأ يستسلم للنعاس متثائبًا مغمغمًا مشيرًا عليه وللجميع بالانصراف: خير يا علام يا ولدي.
فانسحب العلام أقرب إلى المطرقة منه إلى المنتصر، عبر أبهاء قصر الزناتي وحرسه، وعيونه تقطر حسرة وألمًا، كان يجاهد في إخفائهما عن العيون المتطلعة المحيطة: عموا مساء.
عند البوابة الخارجية للقصر أخذ العلام موكبه مقررًا العودة إلى قصره وهو يشعر بالتعب والإرهاق: أنام مثل الناس.
وزفر متنهدًا شاردًا في عزيزة مقررًا العودة عبر الطريق الأقرب لقصرها، كما كان يحلو له في سابق أيامه الخوالي معها.
وحين قارب العلام القصر وجده مضيئًا على غير عادته فغمغم لنفسه: ما تزال صاحية، عزيزة.
وعندما وصلت إلى أذنيه نغمات أندلسية غريبة عذبة الإيقاع، توقف طويلًا منصتًا بكل جوارحه محاولًا تعرف الصوت، فما من مغنية بارزة لا يعرفها العلام: من تكون؟!
ظل يواصل اقترابه عبر بساتين قصر العزيزة العطرة مختبئًا بين الأشجار متقدمًا مستمعًا، إلى أن أصبح ما بداخل القصر تحت كامل بصره وسمعه: عجايب!
أربعة أشخاص لا يعرفهم وعزيزة وسعدى معهم يأكلون ويغنون، رجل في منتصف العمر، مرح يفيض حيوية وحبورًا، وثلاثة شباب كالبدر وجارية حسنة الصوت والموشحات. تراجع العلام مغمغمًا لنفسه وقد آلمته أضراسه فجأة: جواسيس بني هلال! هم بذاتهم، هم، هم.
كان أبو زيد ورفاقه قد رافقوا الدلال اليهودي الذي اصطحبهم بعربته المطهمة التي تجرها أربعة خيول اندفعت بهم عبر شوارع قرطاج وبساتينها وحاراتها إلى أن شارفت قصر العزيزة الباهر المنعزل، فترجلوا حسب طلب الدلال بين بساتينه يأكلون ما شاء لهم من فاكهة على غير أوانها: كلوا، كلوا.
واستأذنهم في عرض أمر عقد الزمرد الذي في حوزة يونس على الأميرة عزيزة قبل مفاجأتها من قبل الجميع والدخول عليها على حين غرة، خاصة وأنهم غرباء، قائلًا: عذرًا، ضيوف.
ثم تابع الدلال لكبيرهم «أبي زيد» موضحًا: غرباء.
ووافقوا من فورهم عاقدين الآمال على بيع العقد لابنة سلطان تونس.
وغاب الدلال طويلًا داخل متاهات قصر السفيرة عزيزة الباهر المزدحم بالحراس والجواري والزائرين والزائرات، بالإضافة إلى من تحبهم وتحنو عليهم من الفنانين والشعراء والمغنيات والرسامين والمهندسين المعماريين والموسيقيين من تونسيين وأجانب.
وغاص الدلال اليهودي العجوز في متاهات قصر العزيزة مختصرًا الطريق إلى أقرب جواريها ليُسرَّ في أذنها بطلب مقابلتها عاجلًا وقبل فوات الأوان، وخلاصة الموضوع جوهرة نادرة هائلة القيمة لم ير مثلها في حياته سلفًا — أي الدلال — بأيدي بضعة دراويش أو سائلين غرباء أحضرهم بنفسه إلى هنا، وهي معهم الآن.
وانتظر الدلال رد الأميرة عزيزة بفارغ الصبر وعيناه لا تغفل عن أبي زيد ورفاقه الذين تبدَّوْا له منذ وقعت عيناه عليهم أنهم بلهاء قد لا يعرفون ما بأيديهم من غالي الجوهر، مما يسهل سمسرته وأتعابه من كلا الطرفين البائع والشاري: فرصة العمر الليلة.
وكان كلما انتهت العزيزة من مقابلة وفد من الوفود فرادى كانوا أم جماعات، انفرجت أساريره وجدد المطالبة بالإسراع بالمقابلة: جوهرة الجواهر، الليلة!
إلى أن حانت فرصة الدلال حين لمح شبح الأميرة سعدى موصلة أحد الوفود من موسيقيين وعازفين بأزيائهم البهيجة وآلات طربهم، فاندفع من فوره واقفًا متصديًا لها لدى عودتها إلى حيث صديقتها العزيزة، مسرًّا في أذنها بما في حوزته الليلة، وهو عقد جوهر قديم شرقي، لا يُقدَّر بثمن وبلا ثمن، وارتفع صوته مصرًّا مؤكدًا: أجل بلا ثمن (يقصد أن سعره رخيص جدًّا).
وحاولت سعدى التخلص منه وإبعاده دون جدوى.
– زمرد!
وواصل الدلال اقتحامه مقتربًا أكثر من سعدى، مشيرًا إلى حيث بستان العزيزة: مع أولئك الأعراب الغرباء البلهاء.
تطلعت سعدى بعدما غالبها فضولها: دراويش، فنانين، بدو …
تساءلت مشرئبة: أين؟
– داخل البستان الغربي للأميرة عزيزة.
ولم تتمالك سعدى من الخطو باتجاههم، حتى إذا ما قاربتهم اجتذبها من أعماقها مشهدهم الباهر الذي لا بد أن يستهوي العزيزة كثيرًا.
مضت من فورها متطلعة إلى مرعي في ألفة وحنو كمن تعرفه منذ زمن لدرجة اجتذبت اهتمام الدلال ذاته الذي بادرها معرفًا: هذا مرعي.
وأضاف متجهًا من فوره إلى يونس: والعقد مع يونس.
هنا كان يونس قد أخرج عقد الجوهر من جيبه دافعًا به إلى يدى سعدى التي تأملته في استغراق كبير، مندفعة من فورها مرحة إلى الداخل قائلة: الأميرة عزيزة فورًا.
جرت فرحة إلى داخل أغوار القصر تبحث عن عزيزة دون أن تغفل عيناها عن مرعي، الذي توقف بدوره مبهوتًا باسمًا وهي تنسحب جارية إلى داخل القصر.
– الأميرة سعدى.
وحاولت سعدى جذب انتباه الأميرة عزيزة، وكانت ساعتها غارقة حتى رأسها في الترحيب بضيوفها والمبالغة في إكرامهم.
ذكرت لها سعدى متلهفة أمر أولئك الفنانين البدو، وروعة مشهد الشابين يونس ومرعي والعقد القيم الذي في حوزتهم مشيرة في عجلة: وهم هناك في بستانك، أسرعي.
عاجلتها عزيزة دون أن تتحقق من جلية الأمر: طيب، طيب يا سعدى.
وهنا لو أن بقية الضيوف قد تحسسوا ما اعترى عزيزة بانشغالها عنهم، فهبوا من تلقاء أنفسهم مسلِّمين في حرارة على العزيزة خارجين.
بينما اندفعت سعدى تصب في أذني العزيزة روعة أولئك الشباب محاولة تذكر الأسماء: مرعي … ويونس … صاحب العقد.
غمغمت العزيزة مرددة شبه غائبة عن وعيها: يونس!
– سترينهما حالًا، شيء مختلف لم أشهد مثلهما قبلًا.
ومن فورها اندفعت عزيزة جاذبة إحدى عباءاتها الداكنة المطرزة برقائق الذهب والفضة، مسدلة شعرها الطويل الفاحم، جارية في أثر سعدى، حتى إذا ما وصلت إلى أعلى سلالم قصرها المرمرية، وتوقفت من فورها فجأة غارقة في تأملهم إلى أن غاصت عيناها في عيني يونس الذي تراجع مأخوذًا من جمال عزيزة الطاغي وبيده عقد الجوهر: سبحان الله!
إلى أن لكزه أبو زيد مسرعًا من الخلف بإيماءة من إيماءاته الجانبية، فتقدم يونس على أثرها خطوة محييًا برأسه دون صوت مقدمًا العقد ملامسًا بيديه يدي العزيزة عن قرب …
– الله! يا …
وقام الدلال معرفًا قبل أن يعود إلى الانزواء: يونس، هذا يونس، يا سيدتي عزيزة.
– يونس!
قالتها عزيزة وكأنها تناجي نفسها، كما لو كانت تعرف هذا الاسم منذ زمن بعيد لا حد ولا نهاية له.
قاربتها سعدى متأملة مشيرة إلى عقد الزمرد العميق الاخضرار، فأعادت العزيزة تأملها قائلة: هذا لا يُقدَّر بثمن!
هنا اندفع يونس بكل فروسيته ليتناول العقد منها ويطوق به جيدها: يكفينا مقابلتك يا أميرة عزيزة، وكلي رجاء في أن تقبلي هذه الهدية البسيطة.
ووصل الاندهاش بعزيزة أقصى مداه حين تراجع يونس بظهره منسحبًا نازلًا السلالم لاصطحاب الباقين والانصراف: طابت ليلتك يا أميرة!
وسريعًا ما نزلت عزيزة في أثره وخلفها سعدى إلى أن لحقت به عند مدخل الحديقة المطوق بالورود والرياحين: يونس، العشاء … جاهز.
كان كل هذا يحدث ويجري تحت سمع وبصر الدلال، الذي بدا كمن لا يفهم شيئًا فيما يجري من حوله، إلى أن لاحظت العزيزة ما به فأشارت عليه بالانصراف على أن ترسل في أثره فيما بعد.
– طابت ليلتك يا أميرة! طابت ليلتكم جميعًا!
انصرف الدلال العجوز مسرعًا لا يلوي على شيء إلى أن أخفته أشجار بستان العزيزة العملاقة ذات الأغصان المتعانقة.
وعاودت عزيزة وسعدى الترحيب بيونس ورفاقه، ثم قامت عزيزة بأخذ يونس لتصعد به سلالم قصرها، الذي كان قد تضاعفت أنواره ونشط الحرس والجواري في مد موائد العشاء والشراب والمشهيات.
ولاحظت مي الحزينة من فورها مدى انبهار عزيزة بيونس وسعدى بمرعي، مشيرة خفية لأبي زيد الهلالي: اجتمع الشمل يا خال أبو زيد.
وما إن احتوتهم قاعات قصر العزيزة الفاخر المغطى بالمخمل الدمشقي القاني الاحمرار، حتى بهر الجميع من محتوياته المعبرة بجلاء عن مدى الذوق الرفيع الذي تحظى به صاحبته الأميرة العزيزة بنت معبد: متحف هائل!
وتزايد إعجاب العزيزة واحتفاؤها بيونس حين اصطحبته عبر ردهات قصرها لتطلعه على ما يحويه من مقتنيات عالية القيمة، وهي تنصت في رهبة حقيقية لتعليقاته التي كشفت لها عن مدى ثقافته وعميق معرفته بكل عنصر أو قطعة وعمرها التاريخي وأصلها الجغرافي وظروف العصر أو البيئة التي صيغت فيها، سواء أكانت تحفة أو لوحة فسيفساء أو منمنمات أو نسجيات، وهكذا.
إلى أن حانت من عزيزة نظرة جانبية إلى مرآة رأت فيها جيدها المزين بعقد الزمرد: رائع يا يونس العقد! أروع مقتنياتي!
وحين قاربته في محاولة لمعرفة أصله وموطنه أخبرها دون أن يذكر أنه ورثه عن جدته الشماء.
– الغريب أن الزمرد القائم هو حجري المفضل.
ثم استدارت مستنجدة بسعدى التي كانت ساعتها منشغلة لأخمص قدميها في الترحيب بمرعي ورصد حركاته وإيماءاته المعبرة عن مدى فروسيته.
– أليس كذلك يا سعدى؟
– أجل، أجل.
وحين جاء أوان العشاء تحلقوا جميعًا حول المائدة في ألفة من يعرفون بعضهم البعض منذ زمن طويل.
– مدوا أياديكم، تفضلوا.
وسمعت تعليقات أبي زيد: لقمة هنية تكفي مية.
انشغلت عزيزة بإطعام يونس، وقد جلس منتصب القامة كالرمح في مواجهتها.
وحين انتهوا من عشائهم ودارت أقداح القهوة والمرطبات جاء دور الغناء، فطالب الجميع مي بالغناء الذي أثار إعجاب كل من عزيزة وسعدى، بل ومشاهير مغنيات العزيزة اللواتي انبهرن بعزفها وموشحاتها ومواويلها التي لا تخلو من حزن دفين وشجن متوقد للأهل في المشرق ونجد المرية خاصة.
وكان كل هذا ترصده عينا العلام المتلصصتان في اندهاش مرير من مخبئه بين ثنايا أغصان وأشجار بستان العزيزة مشتعلًا في حسرة وحسد صارخًا لنفسه: هم جواسيس عرب المشرق.