الزناتي يفاجئ العشاق الأربعة
تراجع الأمير العلام في مكمنه المختبئ بين أدغال بستان العزيزة مروَّعًا وهو يرقب في أقصى ذهوله غير مصدق ما تشهده عيناه المتلصصتان وتسمعه أذناه، وهو يفح لنفسه وقد عاوده ألم أسنانه: هم بذاتهم، حسب أوصافهم، جواسيس، عرب المشرق، الهلالية.
غطس وجهه في ظلام البستان يستنجد بحرسه وعسسه، إلا أنه عاد كمن يسترجع عواقب ما سيحدث الليلة: ليس الآن يا عزيزة، ليس أوانه.
من جديد تحرك مستديرًا متخذًا نفس وضعه.
لم يكن أبو زيد الهلالي أكثر انتصارًا في تحقيق مآربه، ما عليه الآن هذه الليلة؟ فهو الآن وجهًا لوجه مع حاكم تونس وتخومها وفارسها الأول خليفة الزناتي، وإلى الخلف منه وقف العلام بن هضيبة داخل قصر العزيزة وسعدى: أحقًّا ما يحدث؟!
ولعلها هي ذات الأحاسيس التي رادوت يونس وإخوته ومي الحزينة: أحقًّا؟!
أما عزيزة التي أذهلتها المفاجأة بدخول عمها الزناتي مقرها خلسة وفي أعقابه كرباجه الضارب العلام ابن عمها، والذي استحال نظرها في الأيام الأخيرة إلى عدو حقيقي ينزف حقدًا وغلًّا عليها وحدها دون نساء تونس جميعها.
فما إن رحبت عزيزة مسرعة بالزناتي، ووقعت عيناها على العلام حتى صرخت في وجهه كمن تكشف لها الموقف: ثعبان!
عاجلتها سعدى مرحبة بأبيها: أرقط ومنقط.
أما خليفة الزناتي فمضى من فوره متفرسًا في ملامح الغرباء الخمسة، كمن يتذكر مجهدًا أين صادفهم والتقى بهم، ذلك الكهل الأسمر والشبان الثلاثة والجارية بذاتها مع قيثارتها.
استدار مستطلعًا العلام: أين؟
أجاب العلام على الفور متغاضبًا إلى حد التجاهل الكامل سباب وشتائم عزيزة وسعدى: يبدو أنهم أكثر من مجموعة.
زفر الزناتي متضايقًا منه، مستديرًا مرحبًا وعزيزة تقدم له ضيوفها: فنانون (مشيرة إلى أبي زيد) شاعر عظيم وصوت مي، على باب الله.
قاربته سعدى وعيناها لا تغفل عن مرعي مداعبة: اتفضل استرح يا أبي.
وشدد هو من قبضته على يدها مواصلًا استغراقه وتطلعه: سعدى ابنتي، من هؤلاء؟
– شعراء وفنانون …
بل إن الزناتي ذاته هدأت ملامحه إلى حد الترحيب بالجميع، يونس وأبي زيد …
– مرحبًا بالضيوف (مشيرًا إلى الأرض) دياركم.
أما العلام فأبدى مللًا وامتعاضًا وهو يتطلع عن قرب في وجه يونس بالذات وأبي زيد والباقين، وبالتحديد إلى مناطق أعناقهم الخمسة حتى الجارية كانت ساعتها تغني، بعد أن طالبها الجميع بالغناء وتبديل ما حط عليهم من حرج مفاجئ لم ينج من نظرات العلام المتفحصة.
وأُسقط في يد العلام، بدا منظره أكثر غربة من الهلالية ذاتهم في حضرة حاكم تونس الزناتي، فراحت كل من عزيزة وسعدى تكيل له النظرات المشحونة بكل كره وعداء واستنكار لتصرفاته العدوانية المبددة لأي لحظة فرح.
– شيطان رجيم!
وحاول العلام أكثر من مرة الاقتراب من الزناتي وتبصيره بما يحدث خلسة: متسللون، عيون عرب المشرق الطامعين، لن نُخْدع.
إلا أن الزناتي لم يعره آذانًا مصغية، وهو الذي استقدم له في غروب شمس هذا اليوم بالذات خمسة أشخاص على شاكلة هؤلاء تمامًا حين أزهق أرواحهم على عتبة قصره، باعتبارهم متسللين خطرين.
ثم ها هو أخيرًا يعاود اللعبة ذاتها، وهنا في قصر ابنة سلطان تونس ووريثته عزيزة وابنته هو — أي الزناتي — الذي يحمل اسمها تيمنًا، أبو سعدى.
وتساءل طويلًا وهو يراقب في شرَه لا يخلو من غموض ما يحدث ويجري أمامه في تلك الليلاء.
حتى إذا ما حاول العلام إعادة تعبئته وشحنه ضد هؤلاء الأغراب «المتسللين» من ذوي المعشر الحسن؛ أجاب زاجرًا ابن أخته بمؤخرة ذراعه: اهدأ يا علام.
– كيف لي أن أهدأ يا مولاي وعيون المشرق تعمل داخل قصورنا ذاتها؟!
دق الأرض بقدميه كمن يستعد للإقدام على حماقة جديدة: هنا.
أعاد الزناتي قوله بإصرار: قلت اهدأ.
– ما تراه يا خال.
وثقل جو المكان نتيجة لعدوانية عزيزة وسعدى ضد سموم العلام النازفة بلا توقف، مما دفع بالزناتي إلى الوقوف مودعًا الجميع مطالبًا سعدى بعدم التأخر طويلًا قبل الالتحاق به، واستدار الزناتي منسحبًا والعلام في أثره كظله متحاشيًا نظرات الفنانين والباقين، ينفجر غيظًا وألمًا مما يحدث له أمام الزناتي.
وانتفض الحرس وسُمعت قرقعة السلاح صادرة من كل مكان لتحية الزناتي، الذي ما إن عبر بستان العزيزة المعبَّق بزهور الياسمين والفل والورد والرياحين ووصل إلى عربته، حتى اعتلاها صامتًا مشيرًا لحرسه بالعودة إلى قصره دون تبادل كلمة واحدة مع العلام ابن أخته الذي حاول اللحاق به ولو ليقول له: عمت مساء.
وهكذا توقف العلام كالمأخوذ، أو كمثل تائه لا يعرف له طريقًا، وخُيِّل إليه أن نظرات العزيزة ما تزال مسلطة عليه مثل جمر متقد وهي تصرخ في وجهه: اغرب، اغرب!
اندفع العلام إلى مركبته تعبًا متوترًا مشيرًا على رئيس حرسه بالتوجه فورًا وبسرعة إلى قصره، مما حدا بهم إلى إلهاب ظهور جياده الأربعة التي اندفعت تدك أرض قرطاج الرخامية مسرعة وسط الظلام.
أما عزيزة وسعدى والهلاليون فقد واصلوا سمرهم البريء وكأن شيئًا لم يكن، ومن جديد دارت أطباق الحلوى والمأكولات وكئوس العصير والشاي والشطائر.
وما إن قارب سمرهم الانتهاء حتى دعتهم عزيزة إلى المبيت بقصر الضيوف الملحق بقصرها غربًا، يقيمون فيه ما شاءوا، واستقدمت كبير حرسها ليصحبهم عقب إعداد ما يلزمهم من غطاء ومأكل.
وأحست وهي تضع يدها بين يدي يونس بدبيب دافئ يسري في عروقها وهو شعور لم تحسه من قبل: يونس …
ونفس الإحساس انتاب سعدى مع مرعي وهي تداعبه هامسة: لا تفتح عينيك يا مرعي صباحًا قبل وصولي، إياك وإني لأحذرك!
غمغم مرعي وهو يودعها لتلحق بأبيها الزناتي قائلًا: هذا عهدي لك يا سعدى.
أما العزيزة فوعدت يونس بإطلاعه غدًا على ضوء الشمس على بقية مجموعات مقتنياتها وتحفها الفنية.
– أريد أن أسمع رأيك يا يونس.
ثم همست في أذنه: العمر بطولو.
– نفس الإحساس يا عزيزة.
حمل أبو زيد خرجه متقدمًا الباقين، وتبادلت مي مع الأميرتين القبلات التي ضحك لها الباقون مطولًا …
– يا بختك يا مي!
– حظوظ!
اتخذوا طريقهم على ضوء الشمعدانات الموقدة بأيدي الحرس والجواري عبر مسالك بستان العزيزة المعبَّق بعطر الزهور، إلى حيث دار الضيافة الملحق بقصر الأميرة عزيزة، وأبو زيد ما يزال يواصل تعليقاته: يبدو أننا ضللنا الطريق إلى الجنة!
– حقًّا يا خال، حقًّا.
وما إن احتواهم القصر المرمري الناصع البياض، بعدما أمرت العزيزة بإعداد كل ما يلزمهم، حتى مضوا يلفظون وقد تملكتهم جميعًا نشوة جارفة بلا استثناء مع الرغبة في الكلام وطرح التساؤلات حول رهبة أحداث هذا اليوم، الذي وصفه أبو زيد بأنه ليس أبدًا مجرد يوم: بل دهر.
أي أن يمتد بأبي زيد وفرسان بني هلال العمر — أو الدهر — ليشهدوا بأعينهم زناتي تونس مستأنسًا يسامرهم عن قرب مرحِّبًا بقوله: تونس بلدكم.
بل الأدهى هو أن يمضوا ليلتهم هنا تحت ضيافة ورعاية حكام تونس ذاتهم والزناتي وتابعه العلام بن هضيبة.
قاطع يونس أبا زيد وهو ما يزال سعيدًا منتشيًا منذ أن لامست يده يدي عزيزة في حنو لن ينساه مدى العمر: هي ضيافة عزيزة أولًا وأخيرًا يا خال.
اندفع مرعي بدوره مأخوذًا بحبيبته: ويمكن القول بل هي سعدى بنة الزناتي، سأفتح عينيَّ بعد ساعات لا غير على عينيها الخضراوين، بستان يزول أمامه بستان العزيزة الشاسع!
مضوا يتأملون زهورهم المعقودة حول أعناقهم وهم يغيرون ملابسهم استعدادًا للنوم، ويستعيدون تفاصيل تلك الرؤيا التي عايشوها غروب شمس هذا اليوم المشحون المتأجج بالشحن، خاصة بالنسبة إلى يونس ومرعي اللذين أغمضا عيونهما كل على فتاة أحلامه؛ يونس مع عزيزة ومرعي مع سعدى، بينما انغلقت عينا أبي زيد الهلالي على عيني العلام بن هضيبة المسلطة على عنقه وهما متقدتان كجمر نار.
وامتد بالهلاليين المقام بتونس أيامًا لا تُنسى وهم ينزلون ضيوفًا على أميرتي تونس عزيزة وسعدى، وبمباركة الزناتي خليفة ذاته الذي رحَّب بهم في ديارهم.
وعلى مرأى من العلام الذي مادت الأرض تحت قدميه، وهو الوحيد الذي يمكن القول إنه تأكد يقينًا لا تُخالجه أبدًا أي ومضة شك بأن هؤلاء الغرباء الخمسة ما هم سوى جواسيس بني هلال بلحمهم وشحمهم، الذي أوصل الأمور إلى حد لا يمكن إرجاعها، وكيف له الرجوع عن كذبته التي أطلقها عبر بحر سوسة؟!
– ألقينا القبض على جواسيس بني هلال!
ولكي يسبك حماقته تلك أطلق لجنده العنان لأسر خمسة أشخاص أيًّا كانوا لهم ذات المواصفات لحين قطع رقابهم وإشاعة الخبر الذي على أثره انطبقت أجفان خاله الزناتي مطمئنة.
إلى أن جاءت الطوبة في المعطوبة، ليشهدهم في ضيافة العزيزة ويكرم الزناتي وفادتهم كضيوف شرعيين يلتزم العلام بتأمين كل حماية لهم!
– أيعقل ما يحدث في تونس الآن بسببه وبسبب كذبه وحماقته؟!
غمغم إلى نفسه: أنا سجان تونس، أصبح سجينًا لا حول لي ولا قوة على هذا النحو إزاء ما يحدث؟!
وغمغم مرة أخرى: أتستر على جواسيس … أبي زيد الهلالي؟!
استدار ملتفحًا عباءته استعدادًا للرحيل ومقابلة خاله خليفة الزناتي منبهًا نفسه بصوت مسموع: وليكن ما يكون.
اتخذ العلام طريقه إلى قصر عزيزة متخذًا وضعه المختبئ السابق الذي يسمح له بمواصلة التلصص وهو يفج في مأزقه متطلعًا إلى الشبان الثلاثة وأخصهم يونس الذي قاربته عزيزة في جلستها الهائمة، ثم ذلك الكهل النشط الموقد الحركة والتعبير كمثل جمر ملتهب «أبو زيد» معاودًا الإسرار لنفسه: هم بذاتهم جواسيس بني هلال الأربعة.
عاد متسائلًا في ألم: وأين؟ داخل قصرك يا عزيزة؟!
وتضاعف ألمه أكثر حين استرجع تفاصيل ما حدث معه أمام خاله الزناتي في تلك الليلة ذاتها فقط.
حين أثقل عليه بضرورة إحضار جواسيس عرب المشرق الذين كانوا قد تسللوا بمساعدة عبدهم الأسود صاحب الحيل والملاعيب الذي يعتقد أنه أبو زيد الهلالي من بوابات تونس صباح «الموسم» الماضي واختفوا داخل تونس كمن انشقت الأرض وابتلعتهم.
فما كان من العلام إلا أن قطع تونس طولًا وعرضًا، بحثًا عنهم دون أن يعثر لهم على أثر.
– ابتلعتهم أرض تونس وقلاعها.
زفر العلام منفعلًا من أعماق قلبه وهو يعاود التلصص مركزًا كل حواسه هذه المدة على وجه العزيزة، التي كانت بدورها مستغرقة في تأمل وجه ذلك الفتى الجالس إلى جوارها، والذي نفذ حبه إلى أعماق قلبها كمثل نصل غائر الأبعاد؛ يونس.
وهنا استبد الجنون بالعلام إلى حد اتخاذ قرار سريع: لا بد من عمل شيء، وليكن ما يكون، لإيقاف هذه المهزلة السوداء الليلة.
تحسس مقبض حسامه في وسطه متذكرًا من فوره وجه خليفة الزناتي وكأنه هو بذاته المنقذ لما هو فيه من تردد وألم، ثم اندفع كالمنكفئ عائدًا من حيث جاء مبتعدًا عن مكمنه داهسًا تحت ثقل قدميه شجيرات الزهور وورود العزيزة المختلفة الألوان والأشكال، إلى أن وصل إلى حيث حرسه وركبه المنتظر في فضول، وقد استبد به القلق الشديد.
وحين استقر به المقام داخل عربته الفاخرة المطهَّمة، قطع حبل الصمت قائلًا بصوت خفيض لحرسه وثلة جنده: عودوا من حيث جئنا.
– إلى أين؟
– إلى قصر الزناتي.
كان الخليفة الزناتي في ذلك الوقت ما زال غافيًا على مقعده الوثير يعاني كابوسًا طالما تكرر عليه في الآونة الأخيرة، خاصة عقب العشاء الثقيل الذي كان يخلد إلى النوم على أثره، فقد كان يرى نفسه نهبًا لطائر كبير يشبه النسر الجارح الذي كان يحط على رأسه من عنان السماء، وهو يضرب بجناحيه، حيث يمضي ينقر بمنقاره ومخلبيه بؤرة عينيه بينما جثته طريحة الأرض العراء.
فكان يحاول جاهدًا تحريك ذراعيه لإبعاد ذلك الطائر الوحشي، لكن دون جدوى: أبعد، أبعدوه، عيناي!
هنا قاربه كبير حجابه معلنًا: الأمير العلام.
فتح عينيه في صعوبة مندهشًا محتدًّا: العلام تاني!
هب عن عرشه مبعدًا عنه كابوسه الثقيل، وتجمع من حوله أربعة حجاب مسرعين، انشقت عنهم ستائر العرش لمساعدته في خلع عباءته وبقية ملابسه الرسمية استعدادًا للنوم.
إلا أن العلام كان أسرع الجميع حين اندفع إليه ملهوفًا صارخًا: عذرًا يا سيدي!
– ماذا يا علام؟
أومأ العلام لحجابه ومساعديه بالابتعاد، قائلًا في صعوبة: أنت أدرى الناس يا سيدي بمدى إخلاصي لك، وأنني لا أخفي عنك خافية.
– وبعدُ يا علام؟
تردد العلام طويلًا في إبلاغ خاله الزناتي بأن القتلى الأربعة لم يكونوا بالحق جواسيس بني هلال، وأن الجواسيس الحقيقيين يرتعون بقصر الأميرة، أي في مخادع حكام تونس آمنين.