اقبضوا على الجميع
– من تطوله أياديكم وأينما كان.
لكن دون أن تطول أياديه المتعددة المخالب عيون بني هلال المتسللين.
وهكذا وصل حنق خليفة الزناتي وضيقه منه مداه، استعجالًا في القبض على المتسللين بحسب ما تشير به تقارير عيونه وبصاصيه المنبثة في كل شبر ومكان حتى عليه هو ذاته، أي العلام!
مما أجبر العلام على اختلاق تلك الكذبة.
ومضى العلام منكلًا بكل ما تقع عليه عيون بصاصيه من الغرباء أيًّا كانوا.
– أوقعنا القبض بجواسيس عرب المشرق الخمسة.
وجاءه رد الزناتي: أحضروهم أحياء.
فما كان من العلام وهو في طريق عودته من سوسة إلى قرطاج سوى إلقاء القبض كالمجنون على خمسة أشخاص بغض النظر إن كانوا أغرابًا أم تونسيين، المهم انطباق المواصفات عليهم؛ كهل أسود مصطحبًا ربابة قديمة وثلاثة شبان حسنو المظهر تحت ملابسهم التنكرية وجارية بيضاء أميل إلى القِصر جميلة المحيا رائعة الصوت.
وهكذا أحضرهم إلى مقر الزناتي، بعد أن أطلق أيدي جنده في تعذيبهم أحياء على طول الطريق، إلى حد شل كل حركة أو مقاومة فيهم حتى أخرس كل نطق فيهم.
حتى إذا ما تأملهم الزناتي استراحت نفسه وعاوده استرخاؤه ونعاسه، مشيرًا بحربته الهمجية بقتلهم تحت تخته وعرش أجداده: هنا.
وعلى الفور قطع جند العلام رءوس الخمسة الأبرياء تحت عتبات عرش الزناتي، دون رحمة، دون أي محاكمة!
وهنا استراح وجه الزناتي وانفرجت أساريره وأسبل عينيه، مسلمًا نفسه لخَدَر النعاس وهو يتمتم لنفسه: سأنام، سأنام الآن.
وعاد العلام مجهدًا إلى مقره، فسنح له خاطر طارئ لم يكن التيقن من شيء، معاودًا التطلع في حدقتي عيني العلام لعله يفهم شيئًا مما تراه عيناه وتسمعه أذناه على هذا النحو الصادم الذي كاد يوقف نبضات قلبه.
– الموت المحقق، جحيم!
أعاد التلصص غير مصدق: هم بذاتهم وأوصافهم الخمسة أبرياء، الذين أزهقت أرواحهم على عتبة عرش خالي الزناتي.
ثم تابع متمتمًا لنفسه وهو يتساءل: أحقًّا ما يحدث؟ وأين؟
وأتعبت الحيرة العلام إلى حد شل حركته وفكره بكامله، هل يصدر أوامره بحصار قصر عزيزة؟ أم يبعث في طلبها وفي هذه الحالة ستسبه بأشنع السباب أمام جواريها وحرسه وتونس بأكملها؟
– كارثة!
عاوده التساؤل في محنته تلك بينما العزف الماهر النشط لذلك العبد الأسود ورقصه الصاخب أمام عزيزة وسعدى يصم أذنيه.
– ماذا أفعل؟!
هل يصدر أوامره لحرسه بإلقاء القبض عليهم باعتبارهم جواسيس بني هلال؟ في تلك الحالة كيف يكون موقفه أمام خليفة الزناتي الذي أشار بنفسه بقتل الخمسة السابقين مومئًا بطرف حربته: «اقتلوهم»؟
كان صوت الجارية الشجي وعزفها الماهر قد ارتفع مبددًا كل وحشة، وهي تنشد مغنية مرتجلة وصفًا عن عزيزة يقول: تقول عزيزة بنت سلطان تونس:
تفرسه الزناتي متضايقًا: ماذا حدث؟ أنا مرهق هذه الليلة، انطق.
واندفع العلام مسرًّا إليه بما شاهده داخل قصر الأميرة العزيزة ومعها سعدى.
شهق الزناتي مقاطعًا: سعدى!
– أجل سعدى والعزيزة، ومعهم خمسة غرباء من العوام، يغنون ويرقصون والقصر مضاء كجمرة ملتهبة وسط الظلام.
تساءل الزناتي متعجبًا: وماذا؟!
اندفع العلام قائلًا: أقصد الأمن أمن الأميرتين.
قال الزناتي: من أي أمن يا علام، والقصر تحت حراستك؟!
عاود الزناتي مساءلته هذه المرة: هل حدث شيء؟
– لا.
– هل هناك ما يُشير إلى خطر؟
– أجل يا مولاي، تحقق بنفسك.
وهكذا هجر النوم جفني الزناتي، مرة أخرى وربما إلى أبد، تلك الليلة، فتشدد في وقفته، وأعاد الحجاب إلباسه وربط عباءته من حول عنقه، مقررًا الذهاب بنفسه ليرى ويشهد ما يحدث.
– فين يا علام؟
– قصر الأميرة عزيزة الشرقي.
وهكذا اندفع ركب الزناتي مخترقًا ساحات وشوارع وحواري قرطاج الغارقة في سبات نومها في تلك الساعة التي تقارب منتصف الليل.
وما إن شارفوا القصر وتوقف ركب الزناتي وفي أثره ركب العلام بن هضيبة، حتى طالب الأخير الزناتي بالترجل وإبعاد الحرس والعيون تمهيدًا لتسللهما معًا عبر أشجار العزيزة.
– تعال يا خال.
وما إن قاربا البستان وخاضا فيه بصعوبة، حتى هالهما ما يسمعانه من موسيقى وغناء غريبين عن أذنهما، إلى أن اتخذا مكمنهما الخبيء المشرف على القصر، ليريا بوضوح ويسمعا مي الحزينة ترتجل لعزيزة مغنية بصوتها الدافئ المعبق بشجن نجد:
ودوى التصفيق والاستحسان من سعدى ومرعي ويحيى وأبي زيد والجميع، وعلت الضحكات المنتشية البريئة.
– ما أحلاك يا مي! يا عيني! بديع شعرك مع اللحن والصوت!
امتد الحديث مطولًا بين الجميع، الذي لم يكن الزناتي والعلام يدركانه: غرايب!
إلى حد محاولة الزناتي الاقتراب أكثر متسمِّعًا متطلعًا كمن يحاول التيقن من شيء، معاودًا التطلع في حدقتَي عيني العلام لعله يفهم شيئًا وهو يواصل التقدم أكثر فأكثر، بينما العلام يحاول منعه وإثناءه فيلكزه مبعدًا، إلى أن فوجئ الجميع به داخل قصر الأميرة عزيزة على ما هو عليه من سمر وطُرَف وحديث عذب.
هبت عزيزة أولًا منتصبة معلنة: عمي خليفة الزناتي.
إلى أن تلاقت عيناها بعيني العلام المتآمر.