الحروف النارية
أهكذا تمر بنا الليالي؟ أهكذا نندثر تحت أقدام الدهر؟ أهكذا تطوينا الأجيال ولا تحفظ لنا سوي اسم نخطُّه على صفحها بماء بدلًا من المداد؟ أينطفئ هذا النور وتزول هذه المحبة وتضمحل هذه الأماني؟
أيهدم الموت كل ما نبنيه ويذري الهواء كل ما نقوله ويُخفي الظل كل ما نفعله؟ أهذه هي الحياة؟ هل هي ماضٍ قد زال واختفت آثارُه، وحاضر يركض لاحقًا بالماضي، ومستقبل لا معنى له إلا إذا ما مر وصار حاضرًا أو ماضيًا؟ أتزول جميع مسرات قلوبنا وأحزان أنفسنا بدون أن نعلم نتائجها؟
أهكذا يكون الإنسان مثل زبد البحر يطفو دقيقة على وجه الماء ثم تمر نسيمات الهواء فتطفئه ويصبح كأنَّه لم يكن!
لا لعمري فحقيقة الحياة حياة، حياة لم يكن ابتداؤها في الرحم ولن يكون منتهاها في اللحد، وما هذه السنوات إلا لحظة من حياة أزلية أبدية، هذا العمر الدنيوي مع كل ما فيه هو حلم بجانب اليقظة التي ندعوها الموت المخيف، حلم ولكن ما رأيناه وفعلناه فيه يبقى ببقاء الله.
فالأثير يجعل كل ابتسامة وكل تنهدة تصعد من قلوبنا ويحفظ صدى كل قبلة مصدرها المحبة، والملائكة تحصي كل دمعة يقطرها الحزن من مآقينا وتعيد على مسمع الأرواح السابحة في فضاء اللانهاية كل أنشودة ابتدعها الفرح من شواعرنا.
هناك في العالم الآتي سنرى جميع تموجات شواعرنا واهتزازات قلوبنا، وهناك ندرك كُنْهَ ألوهيتنا التي نحتقرها الآن مدفوعين بعوامل القنوط، الضلال الذي ندعوه اليوم ضعفًا سيظهر في الغد كحلقة كيانها واجب لتكملة سلسلة حياة ابن آدم.
الأتعاب لا نكافأ عليها الآن ستحيا معنا وتذيع مجدنا.
الأرزاء التي نحتملها ستكون إكليلًا لفخرنا.
هذا ولو علم «كيتس» ذلك البلبل الصداح أناشيده لم تزل تبث روح محبة الجمال في قلوب البشر لقال: «احفروا على لوح قبري: هنا بقايا من كُتِبَ اسمه على أديم السماء بأحرف من نار».