الأمس واليوم
مشى الموسر في حديقة صرحه ومشى الهَمُّ متبعًا خطواته، وحام القلق فوق رأسه مثلما تحوم النسور على جثة صفعها الموت حتى بلغ بحيرة تسابقت في صنعها أيدي الإنسان، وجمعت جوانبها منطقة من الخام المنحوت، فجلس هناك ينظر آنًا إلى المياه المتدفقة من أفواه التماثيل تدفُّق الأفكار من مخيلة العاشق، وآونة إلى قصره الجميل الجالس على تلك الرابية جلوس الخال على وجنة الفتاة.
جلس فجالسته الذكرى ونشرت أمام عينيه صفحات كتبها الماضي في رواية حياته، فأخذ يتلوها والدموع تحجب عنه محيطًا صنعه الإنسان، واللهفة تعيد إلى قلبه رسوم أيام نسجتها الآلهة حتى أَبَتْ لوعته إلَّا الكلام، فقال:
«كنت بالأمس أرعى الغنم بين تلك الروابي المخضرَّة، وأفرح بالحياة وأنفخ في شبابتي معلنًا غبطتي، وها أنا اليوم أسير المطامع يقودني المال إلى المال، والمال إلى الانهماك، والانهماك إلى الشقاء، كنت كالعصفور مغردًا وكالفراش متنقلًا، ولم يكن النسيم أخفَّ وطأة على رءوس الأعشاب من خطوات أقدامي في تلك الحقول، وها أنا الآن سجين عادات الاجتماع أَتَصَنَّعُ بملابس وعلى مائدتي وبكل أعمالي من أجل إرضاء البشر وشرائعهم، كنت أود لو أني خُلِقْتُ لأتمتع بمسرات الوجود، ولكني أراني اليوم متعبًا بحكم المال سبل الغم، قصرت كالناقة المثقلة بحمل من الذهب والذهب يميتها، أين السهول الواسعة؟ أين السواقي المترنمة؟ أين الهواء النقي؟ أين مجد الطبيعة؟ أين ألوهيتي؟ قد ضيعت كل ذلك ولم يبقَ لي غير ذهب أحبه فيستهزئ بي، وعبيد كثرتهم فقل سروري، وصرح رفعته ليهدم غبطتي. كنت وابنة البدو نسير والعفاف ثالثنا، والحب نديمنا، والقمر رقيبنا، واليوم أصبحت بين اللواتي يمشين ممدودات الأعناق غامزات العيون، الشاريات الحسن بالسلاسل والمناطق، البائعات الوصل بالأساور والخواتم. كنت والفتيان نخطر بين الأشجار كسرب الغزلان نشترك بإنشاد الأغاني، نقتسم ملذات الحقول، واليوم صرت بين القوم كالنعجة بين الكواسر، أمشي في الشوارع فتنفتح على عيون البغض ويشار إلي بأصابع الحسد، وإن ذهبت إلى المتنزهات لا أرى غير وجوه كالحة ورءوس شامخة.
بالأمس أُعْطِيتُ الحياة وجمال الطبيعة واليوم سُلِبْتُهُمَا، بالأمس كنت غنيًّا بسعادتي واليوم أصبحت فقيرًا بمالي، وبالأمس كنت ونعاجي مثل ملك رءوف ورعية، واليوم صرت لدى الذهب كالعبد المتصاغر أمام السيد المظلوم، ما كنت أحسب أن المال يطمس عين نفسي ويقودها إلى مغائر الجهل، ولم أدرِ ما يحسبه الناس مجدًا كان وا حَرَّ قلباه جحيمًا».
وقام الموسر من مكانه ومشى ببطء نحو قصره متأوِّهًا مرددًا: «أهذا هو المال؟ أهذا الإله الذي صرت كاهنه؟ أهذا ما نبتاع بالحياة؟ من يبيعني فكرًا جميلًا بقنطار من الذهب؟ من يأخذ قبضة من الجواهر بدقيقة محبة؟ من يعطني عينًا ترى الجمال ويأخذ خزائني؟».
ولما وصل إلى باب القصر نظر نحو المدينة نظرة أرميا إلى أورشليم، وأومأ بيده نحوها كأنه يرثيها وقال بصوت عالٍ: «أيها الشعب السالك في الظلمة، الجالس في ظل الموت، الراكض وراء التعاسة، القاضي بالباطل، المتكلم بالحماقة، إلى متى تأكل الشوك والْحَسَكَ وترمي الثمار والزهر إلى الهاوية؟ حتى متى تسكن الوعر والخرائب تاركًا بستان الحياة؟ لماذا ترتدي الأطمار البالية تاركًا ثوب الدمقس؟ قد انطفأ سراج الحكمة فاسقِهِ زيتًا، وخرَّب ابن السبيل كَرْمَ السعادة فاحرسه، وسرق اللص خزائن راحتك فانتبه!» في تلك الدقيقة وقف أمام الغني فقير ومد يده متسولًا، فنظر إليه وقد انضمت شفتاه المرتجفتان، وانبسطت سحنته المنقبضة، وانبعث من عينيه نور لطيف، كان بالأمس الذي رثاه بقرب البحيرة قد مَرَّ مسلِّمًا فاقترب من المستعطي وقبَّله قُبلة المحبة والمساواة، وملأ يده ذهبًا، وقال والرأفة تسيل من كلماته: «خذ يا أخي الآن، وعد غدًا مع أترابك واسترجعوا أموالكم». فابتسم الفقير ابتسامة الزهرة الذابلة بُعَيْدَ المطر وراح مسرعًا، حينئذٍ دخل الموسر إلى قصره قائلًا: كل شيء حسن في الحياة حتى المال لأنه يُعَلِّمُ الإنسان أمثولة، إنما المال كالأرغن يُسمع من لا يحُسن الضرب عليه أنغامًا لا ترضيه. المال كالحب يميت من يضن به ويحيي واهبه.