زيارة الحكمة
في هدوء الليل جاءت الحكمة ووقفت بقرب مضجعي، ونظرت إلي نظرة الأم الحنون ومسحت دموعي وقالت: «سمعت صراخ نفسك فأتيت لِأُعَزِّيَهَا، ابسط قلبك أمامي فأملأه نورًا، سلني فأريك سبيل الحق» فقلت: «من أنا أيتها الحكمة، وكيف سرت إلى هذا المكان المخيف؟ ما هذه الأماني العظيمة والكتب الكثيرة والرسوم الغريبة؟ ما هذه الأفكار التي تمر كسرب الحمام؟ ما هذا الكلام المنظوم بالميل، المنثور باللذة؟ ما هذه النتائج المحزنة المفرحة، المعانقة روحي، المساوِرة قلبي؟ ما هذه العيون المحدقة بي، الناظرة أعماقي المنصرفة عن آلامي؟ ما هذه الأصوات النائحة على أيامي، المترنمة بصغري؟ ما هذا الشباب المتلاعب بأميالي، المستهزئ بعواطفي، الناسي أعمال الأمس، الفارح بتفاهة الحال، المستنكف من بطء الغد؟ ما هذا العالم السائر بي إلى حيث لا أدري، الواقف معي موقف الهوان؟ ما هذه الأرض الفاغرة فاها لابتلاع الأجسام المقرِّحة صدرها لسكنى المطامع؟ ما هذا الإنسان الراضي بمحبة السعادة ودون وصالها الهاوية، الطالب قبلة الحياة والموت يصفعه، الشاري دقيقة اللذة بعام الندامة، المستسلم للكرى والأحلام تناديه، السائر مع سواقي الجهالة إلى خليج الظلمة؟ ما هذه الأشياء أيتها الحكمة؟!
فقالت: «أنت تريد أيها الْبَشَرِي أن ترى هذا العالم بعين إله، وتريد أن تفقه مكنونات العالم الآتي بفكرة بشرية وهذا منتهى الحماقة، اذهب إلى الْبَرِّيَّةِ تجد النحلة حائمة حول الزهور، والنسر ينقضُّ على الفريسة، ادخل إلى بيت جارك ترى الطفل مدهوشًا بأشعة النار، والوالدة مشغولة بأعمال منزلها، كن أنت كالنحلة، ولا تصرِف أيام الربيع ناظرًا أعمال النسر، كن كالطفل وافرح بأشعة النار ودع والدتك وشأنها، كل ما تراه كان ويكون من أجلك، الكتب الكثيرة والرسوم الغربية والأفكار الجميلة هي أشباح نفوس الذين تقدَّمُوك، الكلام الذي تحوكه هو الواصل بينك وبين إخوانك البشر، النتائج المحزنة المفرحة هي البذور التي ألقاها الماضي في حقل النفس وسوف يستغلها المستقبل.
إن هذا الشباب المتلاعب بأميالك هو هو الفاتح باب قلبك لدخول النور، إن هذه الأرض الفاغرة فاها هي التي تخلص نفسك من عبودية جسدك، إن هذا العالم السائر بك هو قلبك، فقلبك هو كل ما تظنه عالمًا، إن هذا الإنسان الذي تراه جاهلًا وصغيرًا هو الذي جاء من لدن الله ليتعلم الفرح بالحزن، والمعرفة من الظلمة».
ووضعت الحكمة يدها على جبهتي الملتهبة وقالت:
«سر إلى الأمام ولا تقف قَطُّ فالأمام هو الكمال، سِرْ ولا تخشَ أشواك السبيل فهي لا تستطيع إلا الدماء الفاسدة».