ملكة الجمال
بلغتُ خرائب تدمر وقد أنهكني المسير، فاستقبلت على أعشاب نبتت بين أعمدة سلَّها الدهر وأناخها إلى الحضيض فبانت كأنها أشلاء حرب هائلة، وصرت أَتَأَمَّلُ بعظائم أجلها وهي مهدومة منقوضة عن صغائر قائمة عامرة.
لما جاء الليل وتشاركت المخلوقات المتنابذة بارتداء ثوب السكينة، شعرت بأن الأثير المحيط بي سيالًا يضارع البخور عطرًا ويعادل الخمر فعلًا، فصرت أجرعه محكومًا وأحس بأيادٍ خفيفة تتساهم عاقلتي وتثقف جسمي وتحل نفسي من سلاسلها، ثم مادت الأرض واهتز الفضاء فوثبتُ مدفوعًا بقوة سحرية، فوجدتُني في رياض لم يتخيلها بشر قَطُّ، مصحوبًا بجوق من العذارى لم يرتدين بغير الجمال، يمشين حولي ولا تلمس أرجلهن الأعشاب، وينشدن تسبيحة منسوجة من أحلام الحب، ويضربن على قيثارات من العاج ذات أوتار ذهبية، لما وصلت إلى منفرج قام في وسطه عرش مُرَصَّعٌ بالجواهر بين مسارح تنسكب منها أنوار بلون قوس القزح، وقفت العذارى على اليمين واليسار ورفعن أصواتهن عن ذي قبل، ونظرن إلى جهة تنبعث منها رائحة المر واللبان، فإذا بمليكة ظهرت من بين الأغصان الزاهرة ومشت ببطء نحو العرش واستوت عليه، فهبط إذ ذاك سرب حمام كالثلج بياضًا واستقر حول أقدامها بشكل هلال.
صار هذا والعذارى يغنين مجد المليكة سورًا، والبخور يتصاعد لتكريمها أعمدة، وأنا واقف أرى ما لم تره عين إنسان، وأسمع ما لم تَعِهِ أذن بشري.
حينئذٍ أشارت المليكة بيدها فسكنت كل حركة، ثم قالت وصوتها يهز نفسي مثلما تفعل يد الموقع بأوتار عود، ويؤثر بمجموع ذاك المحيط السحري كأن للأشياء آذانًا وأفئدة: «دعوتك أيها الإنسي وأنا ربة مسارح الخيال، وحبوتك المثول أمامي وأنا مليكة غابة الأحلام، فاسمع وصاياي وناد بها أمام البشر، قل إن مدينة الخيال عرس يخفر بابه مارد جبَّار فلن يدخله إلا من لبس ثياب العرس، قل هي جنة يحرسها أملاك المحبة فلا ينظرها سوى من كان على جبهته وسم الحب، هي حقل تصورات أنهاره طبيعية كالخمر، وأطياره تسبح كالملائكة، وأزاهره فائحة العبير فلا يدوسه غير ابن الأحلام، خبِّر الإنس بأني وهبتهم كأسًا يفعمه السرور فهرقوه بجهلهم، فجاء ملاك الظلمة فملأه من عصير الحزن فجرعوه صرفًا وسكروا، قل لمن يحسن الضرب على قيثارة الحياة غير الذين لمست أناملهم وشاحي، ونظرت أعينهم عرسي، فأشعيا نظم الحكمة عقودًا بأسلاك محبتي، ويوحنا روى رؤياه بلساني، ولم يسلك دانتي مراتع الأرواح بغير أدلتي، فأنا مجاز يعانق الحقيقة، وحقيقة تبين وحدانية النفس، وشاهد يزكي أعمال الآلهة، قل إن للفكرة وطنًا أسمى من عالم المرئيات لا تكدر سماءه غيوم السرور، وإن للتخيلات رسومًا كائنة في سماء الآلهة تنعكس على مرآة النفس ليعم رجاؤها بما سيكون بعد انعتاقها من الحياة الدنيا».
وجذبتني مليكة الخيال نحوها بنظرة سحرية، وقبَّلت شفتي الملتهبتين وقالت: «قل: ومن لا يصرف الأيام على مرسح الأحلام كان عبد الأيام».
عندئذٍ تصاعدت أصوات العذارى وارتفعت أعمدة البخور وحجبت الرؤيا، ثم مادت الأرض واهتزَّ الفضاء فوجدتني بين تلك الخرائب المحزنة وقد ابتسم الفجر وبين لساني وشفتي هذه الكلمات: «من لا يصرف الأيام على مرسح الأحلام كان عبد الأيام».