مخبآت الصدور
في صرح فخيم واقف تحت جنح الليل وقوف الحياة بين ستائر الموت، جلست صَبِيَّةٌ بقرب منضدة عاجية تسند رأسها الجميل بيدها، مثلما تتكئ زنبقة ذابلة على أوراقها، وتنظر إلى ما حولها نظرات سجين يائس يريد أن يخرق بعينيه جدران حبسه ليرى الحياة السائرة في موكب الحرية.
مَرَّتِ الساعات مرور أشباح الظلمة، وتلك الصبية مستأنسة بدموعها، مستأمنة بانفرادها ولوعتها، حتى إذا ما اشتدت على قلبها وطأةُ عواطفها وامتلكت شواعرها خزائن أسرارها، تناولت قلمًا وأخذت تمزج على صفحات الورق قطرات الحبر بدموعها، وتجمع بين الكلام ومكنونات نفسها، وهاك ما كتبت:
أيتها الأخت المحبوبة
عندما يضيق القلب بأسراره وتتقرح الأجفان من حرارة دموعها، وتكاد الضلوع تتمزق من نمو مخبآت الصدور، لا يجد المرء غير الكلام والشكوى. فالحزين يا صديقتي يستعذب الشكوى يجد المحب تعزية بالتشبب، والمظلوم لَذَّةً بالاسترحام، فأنا أكتب إليكِ الآن لأنني أصبحت كشاعر يرى جمال الأشياء فينظم تأثيرات ذلك الجمال محكومًا بقوة ألوهيته، أو كطفل الفقير الجائع يستغيث مدفوعًا بمرارة جوعه غير راحم فاقة أمه وانكسارها.
اسمعي قصتي الموجعة يا أختي وابكي من أجلي؛ لأن البكاء كالصلاة، ودموع الشفقة كالإحسان لا تذهب سدى لأنها متصاعدة من أعماق نفس حية شاعرة، شاء والدي وجمع بالقران بيني وبين رجل شريف غني شأن كل والد غني شريف يروم تعزيز المال بالمال مخافة الفقر، وضم الشرف إلى الشرف هربًا من ذل الأيام، فكنت مع عواطفي وأحلامي ضحية على مذبح ذهب أحتقره، وشرف موروث أكرهه، وفريسة ترتعد بين أظافر المادة التي إذا لم تكن خادمة مطيعة للروح كانت أقسى من الموت وأَمَرَّ من الهاوية، أنا أعتبر بَعلي؛ لأنه كريم الخلق شريف القلب، يجهد النفس في سبيل سعادتي ويبذل المال لرضاي، لكنني وجدت تأثير هذه الأشياء كلها لا يساوي دقيقة محبة حقيقية مقدسة، تلك المحبة التي تستصغر كل شيء وتبقى عظيمة، لا تسخري بي يا رفيقتي فأنا الآن أعلم الناس بحاجات قلب المرأة، هذا القلب الخفوق، هذا الطائر السابح في فضاء المحبة، هذا الإناء الطافح من خمرة الدهور المُعَدَّةِ لمراشف الأرواح، هذا الكتاب المطبوعةُ فيه فصول السعادة والشقاء، واللذة والألم، والمسرة والأحزان، فلا يقرأه إلا الرفيق الحقيقي، نصف المرأة المخلوق لها منذ الأزل وإلى الأبد، نعم صرت أدرى النساء بأغراض النفس وأميال القلب عندما وجدت أن خيول بَعلي المطهمة ومركباته البديعة وخزائنه الطافحة وشرفه الرفيع لا تساوي نظرة واحدة من عيون ذلك الفتى الفقير الذي جاء هذه الحياة من أجلي وجئتُ من أجله، ذلك الصابر على مضض البلوى وذل التفريق، ذلك المظلوم عفوًا بإرادة والدي، والمسجون بلا إثم في ظلمة العمر، إياك يا صديقتي محاولة تعزيتي؛ لأن لي في مصائبي مُعَزِّيًا هو إدراكي قوة حبي، ومعرفتي شرف شوقي وحنيني، فأنا أنظر الآن من وراء الدموع فأرى المنية تقترب مني يومًا فيومًا لتقودني إلى حيث أنتظر رفيق نفسي وألتقي به وأعانقه عناقًا طويلًا مقدَّسًا. ولا تلوميني فأنا قائمة بواجبات الزوجة الأمينة، خاضعة لأحكام الشرائع البشرية بتجلد وهدوء، أكرم بعلي بعاقلتي، وأعتبره بقلبي، وأُجِلُّهُ بنفسي، ولا يمكنني أن أهبه كليتي لأن الله أعطاها إلى حبيبي قبل معرفتي حبيبي.
شاءت السماء لحكمة خفية أن أصرف العمر مع رجل خُلِقْتُ لغيره، فأنا أنفق هذا العمر حسب مشيئة السماء بسكينة، ولكن إذا ما انفتحت أبواب الأبدية التحمت بنصف نفسي الجميل ونظرت إلى الماضي — وذاك الماضي هو هذا الآن — نظرة الربيع إلى الشتاء، وتأملت في حياتي هذه مثلما يتأمل في العقبات من بلغ قمة الجبل».
هنا وقفتْ تلك الصبيَّة عن الكتابة، وحجبت وجها بيديها، وبكت بكاء مرًّا كأن نفسها الكبيرة أبت أن تسلم أقدس أسرارها إلى الورق، فأعطتها إلى دموع سخينة تجف بسرعة وتمتزج بأثير الطيف وموطن أنفاس المحبين وأرواح الأزهار، وبعد هنيهة أخذت القلم وكتبت: «هل تذكرين يا صديقتي ذلك الفتى؟ هل تذكرين تلك الأشعة المنبعثة من عينيه، وتلك الأحزان المرسومة على جبينه؟ هل تذكرين ابتسامَهُ المُشابه دموع الثكلى؟ هل تذكرين صوته المحاكي صدى الوادي البعيد؟ هل تذكرينه إذ كان يتأمل في الأشياء بنظرات طويلة هادئة، ثم يتكلم عنها بغرابة، ثم يحني رأسه ويتنهد كأنه يخاف أن يشف حديثه عن خفايا قلبه الكبير؟ وهل تذكرين أحلامه وعقائده؟ هل تذكرين كل هذا الأشياء في فتى يحسبه البشر من البشر، ويحتقره والدي لأنه أسمي من المطامع الترابية وأشرف من أن يرث الشرف عن الجدود؟ إي يا أختي أنت تعلمين أنني شهيدة صغائر هذا العالم وضحية الغباوة وترحمين أختًا ساهرة في سكينة الليل المخيف لتكشف لك ستائر صدرها عن أسرار قلبها، أنت ترحمين لأن الحب قد زار قلبك».
جاء الصباح فقامت تلك الصبية واستسملت للكرى، علَّها تجد فيه أحلامًا ألطف من أحلام اليقظة.