حديث الحب
في بيت منفرد جلس فتى في صبح الحياة ينظر آنًا من النافذة إلى السماء المزدانة بالكواكب، وآونةً إلى رسم صبية بين يديه، رسم تنعكس خطوطه وألوانه على وجهه فتظهر علته أسرار هذا العالم وخفايا الأبدية، صورة ملامح امرأة تناجيه جاعلة عينيه آذانًا تفقه لغة الأرواح السابحة في فضاء تلك الغرفة، ومبتدعة من مجموعة قلوبًا أنارها الحب وأفعمها الشوق.
كذا مرت ساعة، كأنها دقيقة أحلام مستحبَّة أو عام من حياة البقاء، ثم وضع الفتى الرسم أمامه وأخذ قلمًا وورقة وكتب:
يا حبيبة نفسي!
إن الحقائق العظيمة الفائقة الطبيعة لا تنتقل من بشري إلى آخر بواسطة الكلام البشري المتعارف، لكنها تختار السكينة سبيلًا بين النفوس. وأنا أشعر بأن سكينة هذا الليل تسعى بين نفسينا حاملة رسائل أَرَقَّ من تلك التي يكتبها النسيم على وجه الماء تالية كتاب قلبينا على قلبينا، ولكن مثلما شاء الله وجعل النفوس في أسر الأجسام شاء الحب وجعلني أسير الكلام.
يقولون يا حبيبتي إن الحب ينقلب بالعباد نارًا آكلة، وأنا وجدت أن ساعة الفراق لم تَقْوَ على فصل ذاتينا المعنويتين، مثلما علمت عند أول لقاء أن نفسي تعرفك منذ دهور، وأن أول نظرة إليك لم تكن بالحقيقة أول نظرة.
يا حبيبتي إن تلك الساعة التي جمعت قلبينا المنفيين عن العالم العلوي، هي ساعات قليلة تدعم اعتقادي بأزلية النفس وخلودها، في مثل تلك الساعة تكشف الطبيعة القناع عن وجه عدلها المتناهي والمظنون به ظلمًا.
هل تذكرين يا حبيبتي ذاك الرَّوْضَ، حيث وقفنا وكلانا ناظر وجه حبيبه؟ وهل تعلمين أن نظراتك كانت تقول لي إن محبتك لي لم تنبثق من الشفقة علي؟ تلك النظرات التي علمتني أن أقول لذاتي وللعالمين: إن العطاء الذي يكون مصدره العدل لهو أعظم من الذي يبتدئ من الحسنة، وإن المحبة التي تبتدعها الظروف تشابه مياه المستنقعات.
أمامي يا حبيبتي حياة أريدها أن تكون عظيمة وجميلة، حياة تؤاخي ذكرى الإنسان الآتي وتستدعي اعتباره ومحبته، حياة قد ابتدأت عندما لقيتك وأنا واثق بخلودها؛ لأني مؤمن بكونك قادرة على إظهار القوة التي أودعني الله إياها، متجسِّمة بأقوال وأعمال كبيرة، مثلما تستنبت الشمس أزهار الحقل ذات العَرْفِ الطَّيِّبِ، وكذا تظل محبتي لي وللأجيال، وتبقى منزهة عن الأنانية لتعميمها، ومتعالية عن الابتذال لتخصيصها بك».
وقام الفتى ومشى بتمهل في تلك الغرفة، ثم نظر من النافذة ورأى القمر قد طلع من وراء الأفق وملأ الفضاء أشعة لطيفة، فرجع وكتب في تلك الرسالة:
«سامحيني يا حبيبتي فقد ناجيتك بضمير المخاطب، وأنت نصفي الجميل الذي فقدته عندما خرجنا من يد الله في أن واحد، سامحيني يا حبيبتي».