السلم
سكنت العاصفة بعد أن لوت الأغصان وأحنت الزروع، وبانت النجوم كأنها بقايا البرق المتكسرة على أديم السماء، وسكنت تلك الحقول كأن حرب العناصر لم تكن.
في تلك الساعة دخلت الصبية مرقدها، وجثت على سريرها وبكت بكاءً مرًّا، ثم تصاعدت زفراتها وتجسمت أنفاسها الحارة بهذه الكلمات: «رُدَّهُ إليَّ يا رب، فقد جفت دموعي وذابت حشاشتي، أرجعه أيها الروح القاضي بحكمة تسمو عن نُهى الإنسان، فقد جفاني التجلد وتحكَّم بي الأسى، خلِّصْهُ من بين مخالب الحرب المحددة، أنقذه من الموت القاسي، وارحمه فتًى ضعيفًا جنت عليه قوة القوي فسلبني إياه، تغلبي أيتها المحبة على عدوتك الحرب، أو خلصي حبيبي فهو من أبنائك، ابتعد عنه أيها الموت ودعه يرني أو تعالَ وخذني إليه».
في تلك الدقيقة دخل فتى تضم رأسه عصائب بيضاء كتبت عليها الهيجاء أحرفًا قرمزية، واقترب من الصبية وحيَّاها بدمعة وابتسامة، ثم أخذ يدها ووضعها على شفتيه الملتهبتين، وبصوت تألفت فيه عوامل الحب الخارج ومفاعيل اللقاء المفرح قال: «لا تجفلي فقد أتى من تبكين من أجله، افرحي فقد أعاد إليك السلم من سرقه الحرب، وأرجع إليك فتى الإنسانية ما سلبه ابن المطامع، كفكفي الدمع يا حبيبتي وابتسمي؛ لأن للشعوب أيمة ترحم متى عمت قساوة أيمة الشعوب، لا تعجبي من إيابي حيًّا، فللحب وسم يراه الموت فينصرف، ويتوسمه العدو فيقهقر. أنا هو، فلا تحسبيني خيالًا جاء من مرتع المنايا ليزور مربعًا يسكنه جمالك والسكون: لا تخافي فأنا حقيقة سلمت من بين الأسنة والنار لتخبر الناس بلغة الحب على الحرب، أنا كلمة لفظها رجل السلم لتكون توطئة لرواية سعادتك».
انعقد اللسان إذ ذاك وناب الدمع عن الكلام، وحامت ملائكة السرور حول ذلك الكوخ الحقير واسترجع القلبان ما فقداه عند الوداع.
ولما جاء الصباح وقف الاثنان في وسط الحقل يتأملان في جمال الطبيعة، وبعد سكينة فيها من الأحاديث ما فيها، نظر الجندي نحو المشرق الأقصى وقال لحبيبته: «انظري الشمس طالعة من الظلمة».