مناجاة أرواح
استيقظي يا حبيبتي، استيقظي لأن روحي تناديك من وراء البحار الهائلة، ونفسي تمد جنحيها نحوك فوق الأمواج المزبدة الغضوبة، استيقظي فقد سكنت الحرية، وأوقف الهدوء ضجة سنابك الخيل ووقع أقدام العابرين، وعانق النوم أرواح البشر فبقيت وحدي مستيقظًا لأن الشوق ينتشلني كلما أغرقني النعاس، والمحبة تدنيني إليك عندما تقصيني الهواجس، قد تركت مضجعي يا حبيبتي خوفًا من خيالات السُّلُوِّ المختبئة بين طيات اللحف، ورميت بالكتاب لأن تَأَوُّهِي قد أباد السطور من صفحاته فأصبحت خالية بيضاء أمام عيني، استيقظي! استيقظي يا حبيبتي واسمعيني!
هأنذا يا حبيبتي قد سمعت نداءك من وراء البحار، وشعرت بملامس جناحيك فانتبهت وتركت مخدعي وسرت على الأعشاب فتبللت قدماي وأطراف ثوبي من ندى الليل، ها أنا واقفة تحت أغصان اللوز المزهرة أسمع نداء نفسك يا حبيبتي!
تكلمي يا حبيبتي، ودعي أنفاسك تسيل مع الهواء القادم نحوي من أودية لبنان، تكلمي فلا سامع غيري؛ لأن الظلمة قد دحرت جميع المخلوقات إلى أوكارها، والنعاس أسكر سكان المدينة، وبقيت وحدي صاحيًا.
•••
قد نسجت السماء نقابًا من أشعة القمر وألقته على جسد لبنان يا حبيبتي!
قد حاكت السماء من ظلمة الليل رداء كثيفًا مبطنًا بدخان المعامل وأنفاس الموت، وسترت به أضلع المدينة يا حبيبتي!
قد رقد سكان القرى في أكواخهم القائمة بين أشجار الجوز والصفصاف، وتسابقت نفوسهم نحو مراسح الأحلام يا حبيبتي.
قد أناخت أحمال الذهب قامات البشر، وأوهنت عقبات المطامع ركبهم، وأثقلت المتاعب أجفانهم فارتموا على الفرش، وأشباح الخوف والقنوط تعذب قلوبهم يا حبيبتي!
•••
قد سرت في الأودية خيالات الأجيال الغابرة، وحامت على الروابي أرواح الملوك والأنبياء، فانثنت فكرتي نحو مسارح الذكرى وأرتني عظائم الكلدانيين وفخامة الآشوريين ونبالة العرب.
قد سرت في الأزقة أرواح اللصوص القاتمة، وظهرت من بين شقوق النوافذ رءوس أفاعي الشهوات، وجرت في منعطفات الشوارع أنفاس الأمراض ممزوجة بلهاث المنايا، فأزاحت الذكرى ستائر النسيان، وأرتني مكاره صادوم وآثام عامورة.
•••
قد تمايلت الأغصان يا حبيبي، وتحالف حفيفها مع خرير ساقية الوادي، ورددت على مسامعي نشيد سليمان ورنات قيثارة داود وأغاني الموصلي.
قد ارتعشت نفوس أطفال الحي وأقلقهم الجوع، وتسارعت تنهدات الأمهات المضطجعات على أَسِرَّةِ الهم واليأس، وأراعت أحلام العوز قلوب الرجال المُقْعَدِينَ، فسمعت نواحًا مرًّا وزفيرًا متقطعًا يملأ الضلوع ندبًا ورثاء.
قد فاحت روائح النرجس والزنبق، وعانقت عطر الياسمين والبيلسان، ثم تمازجت بأنفاس الأرز الطيبة، وسرت مع تموُّجات النسيم فوق الطلول المتشعبة والممرات الملتوية، فملأت النفس انعطافًا ومنحتها حنينًا إلى الطيران، قد تصاعدت روائح الأزقة الكريهة واختمرت بجراثيم العلل، ومثل أسهم دقيقة خافية قد خدشت الحس وسممت الهواء.
ها قد جاء الصباح يا حبيبي، وداعبت أصابع اليقظة أجفان النيام، وفاضت الأشعة البنفسجية من وراء الجبل، وأزالت غشاء الليل من عزم الحياة ومجدها، فاستفاقت القرى المتكئة بهدوء وسكينة على كتفي الوادي، وترنمت أجراس الكنائس وملأت الأثير نداء مستحبًّا معانة بدء صلاة الصباح، فأرجعت الكهوف صدى رنينها كأن الطبيعة بأسرها قامت مصلية، وقد غادرت العجول مرابضها، وتركت قطعان الغنم والماعز حظائرها، وانثنت نحو الحقول ترتعي رءوس الأعشاب المتلمعة بقطر الندى، ومشى أمامها الرعاة ينفخون الشبابات، ووراءها الصبايا المتأهلات مع العصافير بقدوم الصباح.
قد جاء الصباح يا حبيبي وانبسطت فوق المنازل المكردسة أَكُفُّ النهار الثقيلة، فأزيحت الستائر عن النوافذ وانفتحت مصاريع الأبواب، فبانت الوجوه الكالحة والعيون المعروكة، وذهب التعساء إلى المعامل وداخل أجسادهم يقطن الموت في جوار الحياة، وعلى ملامحهم المنقبضة قد بان القنوط والخوف كأنهم منقادون قهرًا إلى عراك مهلك، ها قد غصت الشوارع بالمسرعين الطامعين، وامتلأ الفضاء من قلقلة الحديد ودوي الدواليب وعويل البخار، وأصبحت المدينة ساحة قتال يصرع فيها القوي الضعيف، ويستأثر الغني المظلوم بأتعاب الفقير المسكين.
•••
ما أجمل الحياة ها هنا يا حبيبي، فهي مثل قلب الشاعر المملوء نورًا ورِقَّةً.
ما أقسى الحياة ها هنا يا حبيبي، فهي مثل قلب المجرم المفعم بالإثم والمخاوف.