موت الشاعر حياته
خيَّم الليل بجنحه فوق المدينة وألبسها الثلج ثوبًا، وهزم البرد ابن آدم من الأسواق فاختبأ في أوكاره، وقامت الأرياح تتأوَّهُ بين المساكن كمؤبِّن وقف بين القبور الرخامية يرثي فريسة الموت.
وكان في أطراف الأحياء بيت حقير تداعت أركانه وأثقلته الثلوج حتى أوشك أن يسقط، وفي إحدى زوايا ذلك البيت فراش بالَ عليه محتضر ينظر إلى سراج ضعيف يغالب الظلمة فتغلبه، فتى في ربيع العمر قد علم بقرب أجل انعتاقه من قيود الحياة فصار ينتظر المنية وعلى وجهه المصفرِّ نور الأمل، وعلى شفتيه ابتسامة محزنة، شاعر جاء ليفرح قلب الإنسان بأقواله الجميلة يموت جوعًا في مدينة الأحياء الأغنياء، نفس شريفة هبطت مع نعم الآلهة لتجعل الحياة عذبة، تودع دنيانا قبل أن تبتسم لها الإنسانية، منازع يلفظ أنفاسه الأخيرة وليس بقربه سوى سراج كان رفيق وحدته، وأوراق عليها خيالات روحه اللطيفة.
جمع ذلك الفتى المنازع بقايا قوة قاربت الفناء، ورفع يديه نحو العلاء وحرَّك أجفانه الذابلة كأنه يريد أن يخرق بنظراته الأخيرة سقف ذلك الكوخ البالي ليرى النجوم من وراء الغيوم ثم قال:
تعالي أيتها المنية الجميلة فقد اشتاقتك نفسي، اقتربي وحلي قيود المادة فقد تعبتُ من جَرِّهَا، تعالَي إلي يا أيتها المنية الحارة وأنقذيني من بين البشر الذين يحسبونني غريبًا عنهم لأني أترجم ما أسمعه من الملائكة إلى لغة البشر، أسرعي نحوي فقد تخلَّى عني الإنسان وطرحني في زوايا النسيان لأني لم أكن طامعًا بالمال نظيره، ولا باستخدام من هو أضعف مني، تعالَي إلي أيتها المنية العذبة وخذيني فأولاد بَجْدَتِي لا يحتاجوني، ضميني إلى صدرك المملوء محبة، قبِّلي شفتي التي لم تذق طعم قبلة الوالدة ولا لمست وجنة الأخت ولا لثمت ثغر المحبوبة، أسرعي وعانقيني يا حبيبتي المنية.
انتصب إذ ذاك بجانب فراش المنازع طيف امرأة ذات جمال غير بشري، ترتدي ثوبًا ناصعًا كالثلج، وتحمل بيدها إكليل زنابق من نبت الحقول العلوية، ثم دنت منه وعانقته وأغمضت عينيه كي يراها بعين نفسه، وقبَّلَتْ شفتيه قبلة محبة، قبلة تركت على شفتيه ابتسامة اكتفاء.
في تلك الدقيقة أصبح ذلك البيت خاليًا إلا من التراب وبعض أوراق منثورة في زوايا الظلمة.
مرَّت الأجيال وسكان تلك المدينة غرقى في سبات الجحود والإهمال، ولما استفاقوا ورأت عيونهم فجرَ المعرفة أقاموا لذلك الشاعر تمثالًا عظيمًا في وسط الساحة العمومية، وعيَّدوا له في كل عام عيدًا، آه ما أجهل الإنسان!