جمال الموت
مرفوعة إلى M.E.H
دعوني أنم فقد سكرت نفسي بالمحبة، دعوني أرقد فقد شبعت روحي من الأيام والليالي، أشعلوا
الشموع وأوقدوا المباخر حول مضجعي، وانثروا أوراق الورد والنرجس على جسدي، وعفِّرُوا
بالمسك
المسحوق شعري، وأهرقوا الطيوب على قدمي، ثم انظروا واقرأوا ما تخطه يد الموت على جبهتي،
خلوني غارقًا بين ذراعي الكرى فقد تعبت أجفاني من هذه اليقظة، اضربوا على القيثارات ودعوا
رنات أوتارها الفضية تتمايل في مسامعي، انفخوا الشبابات والنايات وحيكوا من أنغامها العذبة
نقابًا حول قلبي المتسارع نحو الوقوف، ترنموا بالأغاني الرهاوية وابسطوا من معانيها السحرية
فراشًا لعواطفي، تأملوا وانظروا شعاع الأمل في عيني.
امسحوا الدموع يا رفاقي، ثم ارفعوا رءوسكم مثلما ترفع الأزهار تيجانها عند قدوم الفجر،
وانظروا عروسة الموت منتصبة كعمود النور بين مضجعي والفضاء، أمسكوا أنفاسكم وأصغوا هنيهة
واسمعوا معي حفيف أجنحتها البيضاء، تعالوا ودعوني يا بني أمي! قبلوا جبهتي بشفاه مبتسمة،
قبلوا شفتي بأجفانكم وقبلوا أجفاني بشفاهكم، قربوا الأطفال إلى فراشي ودعوهم يلامسوا
عنقي
بأصابعهم الوردية الناعمة، قربوا الشيوخ ليباركوا جبهتي بأيديهم الذابلة المتجمدة، دعوا
بنات الحي يقتربن وينظرن خيال الله في عيني، ويسمعن صدى الأبدية متسارعة مع أنفاسي.
الانفصال: ها قد بلغت قمة الجبل فسبحت روحي في فضاء
الحرية والانعتاق، قد صرت بعيدًا بعيدًا يا بني أمي فانحجبت عن بصيرتي جبهات الطلول وراء
الضباب، وغمرت خلايا الأودية ببحر السكون، وامَّحت السبل والممرات بأكف النسيان، وتوارت
المروج والغابات والعقبات وراء أشباح بيضاء كغيوم الربيع، وصفراء كشعاع الشمس، وحمراء
كوشاح
المساء، قد تضعضعت أغاني أمواج البحر، واضمحلَّت ترنيمة السواقي في الحقول، وسكنت الأصوات
المتصاعدة من جوانب الاجتماع، فلم أعُد أسمع سوى أنشودة الخلود متألفة مع أميال
الروح.
الراحة: اخلعوا نسيج الكتان عن جسدي وكفنوني بأوراق
الفل والزنبق، انتشلوا بقاياي من تابوتي العاج ومددوها على وسائد من زهر البرتقال والليمون،
لا تندبوني يا بني أمي بل أنشدوا أغنية الشباب والغبطة، لا تذرفي الدموع يا ابنة الحقول
بل
ترنمي بموشحات أيام الحصاد والعصير، لا تغمروا صدري بالتأوُّه والتنهيد بل ارسموا عليه
بأصابعكم رمز المحبة ووسم الفرح، لا تزعجوا راحة الأثير بالتعزيم والتكهين بل دعوا قلوبهم
تتهلل معي بتسبيحة البقاء والخلود، لا تلبسوا السواد حزنًا عليَّ بل تردُّوا بالبياض
فرحًا
معي، ولا تتكلموا عن ذهابي بالغصات بل أغمضوا عيونكم تروني بينكم الآن وغدًا وبعده، مددوني
على أغصان مورقة، وارفعوني على الأكتاف وسيروا بي ببطء إلى الْبَرِّيَّةِ الخالية، لا
تحملوني إلى الجبانة لأن الزحام يزعج راحتي، وقضقضة العظام والجماجم تسلب سكينة رقادي،
احملوني إلى غابة السرو واحفروا لي قبرًا في تلك البقعة حيث ينبت البنفسج بجوار الشقيق،
احفروا قبرًا عميقًا كي لا تجرف السيول عظامي إلى الوادي، احفروا قبرًا وسيعًا لكي تجيء
أشباح الليل وتجلس بجانبي، اخلعوا هذه الثواب ودلوني عاريًا إلى قلب الأرض. مددوني ببطء
وهدوء على صدر أمي. اغمروني بالتراب الناعم وألقوا مع كل حفنة قبضة من بذور السوسان
والياسمين والنسرين فتنبت على قبري ممتصة عناصر جسدي، وتنمو ناشرة في الهواء رائحة قلبي،
وتتعالى رافعة في وجه الشمس سرائر راحتي، وتتمايل مع النسيم مذكرة عابر الطريق بماضي
أميالي
وأحلامي، اتركوني الآن يا بني أمي، اتركوني وحدي أسير بأقدام خرساء مثلما تسير السكينة
في
الأودية الخالية، دعوني وحدي وتفرقوا عني بهدوء مثلما تتفرق أزاهر اللوز والتفاح عندما
تنثرها أنفاس نيسان، ارجعوا إلى منازلكم فتجدوا هناك ما لم يستطيع الموت أن يأخذه مني
ومنكم، اتركوا هذا المكان، فالذي تطلبونه صار بعيدًا بعيدًا عن هذا العالم.