كلنا قُرَّاء
إن اكتساب عادة القراءة يعني أن تقيم لنفسك ملاذًا بعيدًا عن مآسي الحياة.
لقد تعلمت أنه لا يمكنك أن تكره كتابًا ما حتى تجربه! فلتفعل ذلك.
لقد نضجتُ كثيرًا خلال أول عامين لي في مهنة التدريس، لكني ظللت في حاجة لتعلم كثير من الأمور كي أكون معلمة متجاوبة. فما كنت أعتقد أن طلابي بحاجة إليه كل أسبوع عندما أكتب خطط الدروس الخاصة بي لم يكن مهمًّا بقدر كيفية استجابتي لاحتياجاتهم عندما كانوا يعبِّرون لي عنها.
وفي أول يوم من عامِي الثالث في التدريس، وبعد أن ألقيتُ محاضرة طويلة على طلاب فصلي الجديد بشأن قواعد الفصل ومتطلبات الواجبات المنزلية وإجراءات استخدام الخزانات ودورات المياه؛ توقفتُ لأسألهم إن كانت لديهم أي أسئلة، فرفع صبي يده محدقًا في حائط الكتب الذي يمثل مكتبة الفصل، والموجود بأحد جوانب القاعة، وسألني قائلًا: «متى يمكننا استعارة الكتب؟» فاجأني سؤاله؛ فلم أنظر لنفسي من قبل قط كمعلمة تسمح أو لا تسمح لطلابها بالقراءة، فهل كان هناك وقت سحري غير محدد يُسمَح فيه للطلاب بالقراءة؟ حسنًا، لا يوجد. فما كان مني إلا أن طرفت بعيني بضع مرات وقلت دون تفكير على نحو أدهش الطلاب وأدهشني أنا نفسي: «الآن، سنستعير الكتب الآن.»
قام التلاميذ عن مقاعدهم في تردد؛ فبعد الاستماع إلى محاضرتي عن القواعد على مدار الخمس عشرة دقيقة الماضية، أعتقد أنهم اندهشوا من سماحي لهم بلمس كتبي دون مزيد من الخُطَب الحادة اللهجة. يمكنني تصوُّر الأفكار التي جالت بخواطرهم: «ماذا؟! ألن تتحدث عن بقع الجيلي وثني الصفحات؟» «ألن تهددنا بالتوبيخ الشديد في حالة وَضْعِنا الكتب في غير مواضعها الصحيحة؟» «لقد قضت ثلاث دقائق في إخبارنا عن كيفية ذهابنا لدورة المياه، ثم ستسمح لنا بهذه البساطة بقراءة هذه الكتب بحُرية؟» راح عدد قليل من الطلاب المبادرين يتصفحون الكتب. وعندما رأيت إحدى الفتيات تختار كتاب شارون كريتش — عن رحلة اكتشاف الذات — «رحلة عبر حياة أخرى»، سألتها إن كانت قد قرأتْه من قبل. وكانت قد قرأته بالفعل، فوجهتها إلى كتاب أحدث لكريتش، وهو كتاب «الرحال»، فتجمعت حولي مجموعة من الطلاب.
علت أصوات الطلاب طلبًا لترشيحاتٍ للكتب، وأخذوا يسألونني إن كنت قد قرأت الكتب القيِّمة التي صار كثيرون منهم يمسكون بها آنذاك في أيديهم. فرفعت فوق رأسي نسخة من أحد كتبي المفضلة — وهو رواية كورنيليا فونكه الساحرة «سيد اللصوص»، التي تدور أحداثها حول أيتام يعيشون في شوارع مدينة البندقية — وسألتهم قائلةً: «هل قرأ أحدكم هذه الرواية؟ لقد أحببتها.» فرفع صبيَّان — كانا يبحثان في قسم كتب الفانتازيا بالمكتبة — أيديهما. فتساءلتُ: «اثنان، اثنان فقط؟ هذا لا يكفي!» وتوجهت إلى خزاناتي حيث احتفظت بصناديق تحوي مجموعات الكتب الخاصة بي التي يرجع كثير منها لأيام الوحدات الدراسية التي تُفرَض على الفصل بأكمله. وسحبت صندوقًا ورفعت الغطاء عنه، ووزَّعْتُ عليهم نسخ رواية «سيد اللصوص». وعندما أوشكَت الكتب في ذلك الصندوق على النفاد، فتحتُ صناديقَ أخرى اشتملت على رواية جيري سبينِلي «ستار جيرل»، ورواية جوردون كورمان «لعبة الكُنى بالصف السادس»، و«رؤية من أيام السبت» أيضًا.
انتزع الطلاب الكتب، وأخذوا يقدمون الترشيحات بعضهم إلى بعض وَإليَّ، وأخذتُ أتحدث مع أحد الأطفال عن الكتب، ثم مع طفل آخر، ثم طفل ثالث. عثرتُ على بعض بطاقات الفهرسة، ثم طلبت من الطلاب تدوين أسمائهم وعناوين الكتب التي استعاروها. بدا فصلي أشبه ببورصة غريبة من نوعها والطلاب يلوحون بالبطاقات ويصيحون بعناوين الكتب. ولا يزال جيس، الذي كان طالبًا في ذلك الفصل، يتذكر تلك التجربة؛ إذ قال لي مؤخرًا: «لقد خرجت ذلك اليوم بثلاثة كتب، ولا تزال هذه الكتب على قائمة كتبي المفضلة.» آنذاك، لم يكن جيس قارئًا متحمسًا، لكنه اندمج في موجة الحماس التي انتابت زملاءه وانتابتني.
منذ ذلك اليوم المشهود حين قررتُ الاستماع إلى ما يحتاج إليه طلابي، وعدم إخبارهم بما أعتقد أنهم بحاجة إلى سماعه، اعتدتُ دائمًا بدء أي عام دراسي بهذه النوبة من الحماس للكتب. ومن خلال جعل اختيار الكتب ومشاركة الكتب المفضلة السابقة أول نشاط يقوم به الفصل المدرسيُّ، أؤكد لطلابي على الأهمية التي ستشغلها القراءة على مدار العام، وأوضح لهم كذلك أنني واسعة المعرفة بالكتب، وأنني أقدِّر تجاربهم وتفضيلاتهم السابقة فيما يتعلق بالقراءة. ويُشكِّل جنون الكتب بعد ذلك الاتجاه العام للفصل الذي أُدرِّس له؛ فجميع الطلاب يقرءون يوميًّا على مدار العام.
في هذه الأيام الأولى من العام الدراسي، لا أعظُ طلابي مطلقًا بشأن حاجتهم للقراءة، ولا أتحدث معهم مطلقًا عن أن كثيرين منهم لا يحبون القراءة، أو يواجهون صعوبات مع مهارات القراءة، أو لا يرون أن القراءة ذات مغزًى لهم على المستوى الشخصي؛ فلو أنني أقررت بأهمية هذه الأعذار، لَسَمَحْتُ لها بأن تصبح أسبابًا لعدم القراءة من جانب الطلاب. هكذا يختار الطلابُ الكتبَ في اليوم الأول من العام الدراسي، ويقرءون. وإذا لم يُثِرِ الكتاب الذي اختاروه في تلك النوبة الأولى من جنون الكتب اهتمامَهم، يتركونه ويختارون كتابًا آخر. لكن اختيار عدم القراءة لا يكون محلًّا للنقاش مطلقًا؛ فهو ببساطة ليس خيارًا مطروحًا. وعلى الرغم من عدم تصريحي بذلك مباشرةً لطلابي، فإن تكليفي لهم بالقراءة والحماس الذي أُظهره للكتب يرسل رسالة قوية. إنني أرغب في أن يعرف الطلاب أنني أرى في كلٍّ منهم قارئًا. إن جميع الطلاب في الفصل قرَّاء، صحيح أنهم على مستويات مختلفة من الاستعداد والاهتمام، لكنهم قرَّاء في النهاية. يجب أن أُومِن بأن طلابي قرَّاء — أو سيكونون كذلك — كي يتمكنوا هم بدورهم من الإيمان بذلك. وفكرة عدم تمكنهم من القراءة أو عدم رغبتهم فيها ليست مطروحة على الإطلاق.
يبدأ تبنِّي الطلاب للقارئ الموجود بداخل كلٍّ منهم باختيارهم للكتب التي سيقرءونها بأنفسهم. وهذه الحرية ليست هدفًا مستقبليًّا ربما يحققه الطلاب بنهاية العام الدراسي، وإنما هو الإنجاز الأول لنا في الفصل المدرسيِّ. لكن ما السبب وراء أهمية هذا الاختيار؟ إن إتاحة الفرصة للطلاب لاختيار الكتب التي سيقرءونها بأنفسهم تمكِّنهم وتشجِّعهم. ويَزيد الاختيارُ أيضًا من ثقتهم بأنفسهم، ويحترم اهتماماتهم، ويعزز من موقفهم الإيجابي تجاه القراءة من خلال تقدير القارئ ومَنْحه مستوًى معينًا من التحكم؛ فالقرَّاء الذين يفتقرون لسلطة الاختيار بأنفسهم يفتقرون إلى الحماس.
(١) أنواع القرَّاء
يأتي الطلاب إلى فصولنا المدرسية محمَّلين بشتى أنواع الخبرات في القراءة، وكثيرٌ منها غير إيجابي. وبانتقال الطلاب إلى المدرسة الإعدادية، تكون لديهم صورة عن أنفسهم؛ إما قرَّاءً وإما غير قرَّاء. فيرى الطلاب الذين لا يقرءون أن القراءة موهبة لا يتمتعون بها، وليست مهارة يمكن اكتسابها. أما نحن، فنصنِّف الطلاب وفقًا لنجاحهم في اختبارات القراءة القياسية وحافزهم الشخصي للقراءة؛ بحيث يُصَنَّف الطلاب الذين لا يستوفون الحد الأدنى من المعايير في أداء الاختبار تحت فئة «القرَّاء المتعثرين». أما الطلاب الذين لا يقرءون الكتب خارج المدرسة أو يحتاجون إلى تحفيز كبير ليقرءوا كتابًا، فنصنِّفهم تحت فئة «القرَّاء الراغمين». وليكن الله في عون الطلاب الذين يُصنَّفون في هاتين الفئتين.
إلا أنني في حاجة إلى طرح تعبيرات أكثر تشجيعًا لتصنيف طلابي بدلًا من التعبيرَين السلبيَّين الشائعَين «متعثرِين» و«راغمِين»؛ فأين الأمل في تلك المصطلحات؟ إنني أُفضل استخدام لغة إيجابية لتعريف القرَّاء في فصولي. حين أنظر إلى فصلي المدرسي، أرى ستين قارئًا مختلفًا لكلٍّ منهم تفضيلاته وقدراته الفردية في القراءة، لكنني أميِّز دائمًا ثلاثة اتجاهات من هؤلاء القرَّاء؛ ألا وهم: القرَّاء الناشئون، والقرَّاء الخاملون، والقرَّاء السريُّون.
(١-١) القرَّاء الناشئون
إن فئة الطلاب الذين أسميهم «القرَّاء الناشئين» يُشار إليهم عادة ﺑ «القرَّاء المتعثرين». ولأسباب كثيرة — منها تجارب القراءة غير الكافية أو صعوبات التعلم — تقل كفاءة هؤلاء الطلاب في القراءة عن الكفاءة المتوقعة منهم في الصف الدراسي المُسجلين فيه، ويعانون من صعوبة في فهمِ ما يقرءونه في كل جانب من جوانب حياتهم. وبوصول القرَّاء الناشئين إلى صفوف المستوى المتوسط، تكون الغالبية العظمى منهم قد تلقت برامجَ تَدَخُّل ودروسًا خصوصية في القراءة لسنوات عديدة. يحصل هؤلاء الطلاب على درجات منخفضة في الاختبارات القياسية، ويفشل بعضهم في تقييمٍ واحد على الأقل من تقييمات الولاية. هؤلاء الطلاب لا يَرَوْن في أنفسهم القدرة على أن يصيروا قرَّاءً ماهرين، ويبدأ اليأس في التسلل إلى نفوسهم (ونفوس أولياء أمورهم)، وربما يفكرون في أنهم لن يتمكنوا مطلقًا من الوصول إلى درجة الكفاءة في القراءة.
لماذا يستمر الطلاب الناشئون في المعاناة على الرغم من كل جهود التدخل التي تُبذَل في هذا الصدد؟ حسنًا، ربما يكون السبب الرئيسي في ذلك هو مقدارَ ما يقرؤه هؤلاء الطلاب فعليًّا. يوضح ريتشارد ألينجتون — خبير سياسات القراءة، في كتابه «أمور مهمة للقرَّاء المتعثرين» — أنه عندما درس متطلبات القراءة في المادة الأولى من قانون التعليم الابتدائي والثانوي الأمريكي وبرامج التعليم الخاص، اكتشف أن الطلاب في بيئات التعليم العلاجي يقرءون بنسبة أقل من أقرانهم في فصول القراءة العادية بحوالي ٧٥ في المائة تقريبًا. وبغضِّ النظر عن مقدار التعليم الذي يتلقاه الطلاب حول كيفية تفسير المفردات أو تحسين الفهم أو زيادة الطلاقة لديهم، فإنهم إذا لم يطبِّقوا ما تعلموه في سياق تجارب القراءة الواقعية إلا نادرًا، فسيفشلون في التحسن قدر الإمكان.
تترتب على قِلَّةِ قدرِ ما يقرؤه طلاب التعليم العلاجي عواقب وخيمة بالنسبة إلى القرَّاء الناشئين؛ فالطلاب الذين لا يقرءون بانتظام يزدادون ضعفًا في القراءة عامًا تلو الآخر. وفي الوقت نفسه، تزداد الكفاءة في القراءة لدى أقرانهم ممن يقرءون أكثر؛ مما يسفر عن خلق فجوة في التحصيل تزداد اتساعًا باستمرار. تدل هذه الفجوة التي يطلِق عليها كيث ستانوفيتش «أثر متَّى» — مشيرًا في ذلك إلى تلك الفقرة من الكتاب المقدس (متَّى ١٣: ١٢) التي تُفسَّر عادةً ﺑ «الأثرياء يزدادون ثراءً والفقراء يزدادون فقرًا» — على أنه بغض النظر عن التدخل، يجب أن يقضي القرَّاء الناشئون قدرًا كبيرًا من وقتهم التعليمي في القراءة الفعلية لكي يَصِلوا إلى درجة الكفاءة في القراءة.
إن السبب وراء ما أشعر به من أمل تجاه الأطفال الذين يتخلفون عن أقرانهم، ووصفي لهم بالقرَّاء الناشئين بدلًا من المتعثرين؛ هو أن هؤلاء الطلاب لديهم القدرة على أن يصبحوا قرَّاءً بارعين. ربما يتأخرون قليلًا عن أقرانهم على مقياس تطور القراءة، لكنهم يظلون على نفس الطريق. إن ما يحتاجون إليه هو الدعم في مرحلة التطور التي يخوضونها، والفرصة لكي يشعروا بالنجاح كقرَّاءٍ بدلًا من شعورهم بالفشل في القراءة. أيضًا، هم في حاجة إلى القراءة كثيرًا؛ فقد رأيت مرارًا وتكرارًا أن الجرعات المكثفة من القراءة المستقلة المقترنة بتدريس واضح لاستراتيجيات القراءة تحوِّل أفرادًا غير قارئين إلى قرَّاء.
كيلسي
أول مرة رأيت فيها اسم كيلسي كان مذكورًا على «اللائحة»؛ لائحة الطلاب الذين رسبوا في تقييم الولاية ثلاث مرات، لكنهم نُقِلوا إلى الصف السادس رغم ذلك؛ على فرض أن المزيج المناسب من التدخل التعليمي الخصوصي والدعم القوي لهم في القراءة سيمكِّنهم من اللحاق بأقرانهم. لم تكن كيلسي قارئة متعثرة فحسب، وإنما كانت منهزمة أيضًا. كانت كيلسي تخشى الرسوب في تقييم الولاية مجددًا، والإبقاء عليها لإعادة الصف السادس. كانت والدتها تمنحها الدعم، لكنها لم تكن تعرف ما ينبغي عليها فعله أيضًا. كانت تقرأ كثيرًا لكيلسي وتقرأ معها، وكانت تقضي ساعاتٍ طوالًا على مائدة غرفة الطعام لتعمل مع كيلسي على حل المواد التدريبية على الاختبارات القياسية من كتُب التدريبات المدرسية التي أرسلها معلمو كيلسي إلى المنزل، وظلت مهتمة ومشغولة بحياة كيلسي المدرسية. لكن لم تساعد جهودها في تحسين قدرة كيلسي على القراءة إلى الدرجة التي كانت تأملها.
على الرغم من أن كيلسي كانت قادرة على تدوين قائمة مذهلة من استراتيجيات غزو عالم القراءة في أي اختبار قياسي، فإنها كانت تفتقر إلى الخبرة في قراءة الكتب بنفسها لأنها كانت تقضي معظم وقتها أثناء دروس تعلُّم القراءة في التدرب على حل الاختبارات واستراتيجيات الفهم؛ ومن ثم لم تسنح لها كثير من الفرص لتطبيق أو ممارسة ما تَعلَّمَته على كتبٍ حقيقية. كان من الجليِّ أن وصفة الإنقاذ التي تتألف من التعليم الخصوصي، والتدريب على الاختبارات، والدعم الأسري بالتساوي — التي تُقدَّم عادةً للقرَّاء الناشئين — لم تكن تجدي نفعًا مع كيلسي. كانت كيلسي متخلفة كثيرًا عن بقية الطلاب في فصلها، ومن دون تعويض هذا الفارق الشاسع في القراءة، لم يكن الأمل كبيرًا في لحاقها بزملائها. وعندما أدركت كيلسي أنني أتوقع منها القراءة كثيرًا في فصلي، اعترفت لِي بأنها لا تعرف كيف تختار كتابًا مناسبًا لها أو مثيرًا لاهتمامها، وبأنها تواجه صعوبة في قراءة الكتب التي يقرؤها زملاؤها في الفصل؛ لأن تلك الكتب صعبة عليها للغاية.
ولمَّا كنت أعلم بحب كيلسي للحيوانات، خاصةً الخيول، وجهتها نحو كتب سلسلتَي «سفينة الحيوانات» و«هارتلاند»، المكتوبتَين بلغة تناسب طلاب الصفين الثالث أو الرابع الدراسي؛ لأنني كنت أعلم أن كيلسي كان بإمكانها قراءة هذه الكتب بسهولة، وتكوين خبرة إيجابية عن الكتب بوجه عام. ومع تطوير كيلسي لخبرتها في القراءة، ازدادت ثقتها وأخذت تقرأ كتابًا تلو الآخر. ومع مواصلتها القراءة، ازدادت درجة صعوبة وتعقيد الكتب التي كانت تختارها على نحو طبيعي، وصارت كيلسي قارئة أكثر تمكنًا. لقد أحرزت تقدُّمًا مذهلًا، وأصبح مستواها في القراءة يقارب مستوى الصف الدراسي الذي تنتسب إليه بحلول نهاية العام الدراسي. وأهم من ذلك أنها اكتشفت حبها للكتب، ورأت في نفسها قارئة جيدة لأول مرة. كانت كيلسي تحصل على خدمات تدخُّل تعليمي في القراءة من اختصاصيِّ القراءة بالمدرسة على مدار العام، كما كان الحال دائمًا، وتذهب إلى دروس خصوصية بعد المدرسة، كما كان الحال دائمًا، وتستذكر بمساعدة والدتها في المنزل، كما كان الحال دائمًا؛ لكنها في ذلك العام، كانت تقرأ كل يوم أيضًا.
وفي الربيع، لمحتُ كيلسي ووالدتَها في رَدْهَة المدرسة بعد انتهاء اليوم الدراسي، فركضتُ نحوهما لأزفَّ إليهما الخبر السار، قائلة: «لقد نجحتْ كيلسي في تقييم تكساس للمعرفة والمهارات الخاص بالقراءة بتفوق!» فما كان من والدة كيلسي إلا أن انهمرت دموعها، وتعلَّقَت بي كيلسي وهي تبكي فرحًا، وهي تقول لي: «شكرًا لكِ، شكرًا لكِ!» شعرتُ بالتأثُّر بدوري؛ فيا له من أمر مؤسف أن تحتاج كيلسي إلى التصديق الذي قدمتْه لها درجةُ ذلك الاختبار لتُثبت أنها قارئة جيدة! فلقد قَرَأَت — على أي حال — اثنين وأربعين كتابًا ذلك العام. كان ربط كيلسي بالكتب وحثُّها على القراءة كثيرًا العنصرَين الناقصين في وصفة الإنقاذ المُتَّبَعَة معها. لم تخضع كيلسي لبرنامج تدخُّل للقراءة منذ ذلك الحين، وفي الصف الثامن حصلت على تقدير دراسي جدير بالإشادة في اختبار الولاية. ولم تتوقف عن القراءة قط.
(١-٢) القرَّاء الخاملون
نظرًا لمتطلبات الاختبارات القياسية في عالم يحكمه قانون «تجنب تخلُّف أي طفل»، ولذلك الدافع للحرص على بلوغ جميع الطلاب الحدَّ الأدنى من التحصيل في القراءة؛ يحصل القرَّاء الخاملون على مقدارٍ غير متكافئ من الموارد في أي مدرسة. فبينما يركز المعلمون جهودهم التعليمية على الطلاب المعرَّضين لخطر الرسوب في تقييمات الولاية أو في الفصول، ثمة مجموعة كاملة من القرَّاء لا يُلقى لها بالًا. لكني أرى أن الأعداد الهائلة من القرَّاء، الذين ينتقلون بين فصولنا دون حافز للقراءة أو اهتمام بها، لا يقلون إثارةً للقلق عن القرَّاء الناشئين؛ بيد أن فكرةَ إن كان هؤلاء الطلاب يقرءون أم لا ليست محل اهتمام في كثير من الأحيان ما داموا يجتازون اختبار الولاية كل عام.
هؤلاء القرَّاء الراغمون — أو الخاملون إذا أردنا تعريفهم على نحو أكثر إيجابية — هم الطلاب الذين يقرءون ليجتازوا فصولهم أو لينجحوا في اختبارات الولاية، لكنهم لا يتبنون القراءة مطلقًا بوصفها مسعًى جديرًا بالاهتمام خارج المدرسة. هؤلاء الطلاب يقرءون الكتب المقررة عليهم، ويحلون التدريبات المكلفين بها، لكنهم يهجرون الكتب تمامًا عند حلول عطلات نهاية الأسبوع والإجازات الصيفية حين لا يضطرون للقراءة مرة أخرى. إن القراءة في نظرهم عمل، وليست متعة. ودون وجود دعم لاهتمامات هؤلاء الطلاب في القراءة ودون وجود نماذج يحتذون بها تحضهم على القراءة، فإنهم لا يكتشفون مطلقًا أن القراءة ممتعة.
إنَّ ما يمنع القرَّاءَ الخاملين من أن يصيروا قرَّاءً حماسيين ليس ضعفَ مهارات القراءة لديهم أو إصابتهم بعجز يعوق قدرتهم على القراءة؛ ففي النهاية، أغلبية مَن يتخرجون في المدرسة لا يكون مستواهم في القراءة متراجعًا للحد الذي يمنعهم من تدبر أمورهم في الحياة. لماذا إذنْ يختار كثيرٌ من الأشخاص الذين يمكنهم القراءة ألا يقرءوا؟ أعتقد أن القرَّاء الخاملين قد يصبحون قرَّاء متحمسين إذا أوضح لهم شخصٌ ما أن القراءة مثيرة حقًّا للاهتمام.
إنني أُومِن بأن كل قارئٍ خاملٍ يخفي داخله قارئًا، في مكانٍ ما، لكنهم بحاجة فقط للظروف الموائمة لكي يطلقوا العِنَان لهذا القارئ الموجود بداخلهم؛ وهي الظروف نفسها التي يحتاج إليها القرَّاء الناشئون: قضاء ساعات طويلة في القراءة، والحرية في اختيارِ ما يقرءونه بأنفسهم، وبيئة الفصل الدراسي التي تقدِّر القراءة المستقلة. يحب الأطفال القصص، التي تفتح لهم أبوابًا يفرون عبرها إلى عوالم مجهولة ويعيشون فيها حيوات الشخصيات التي يقرءونها بصورة غير مباشرة، وارتباطُ الأطفال بقصص ألعاب الفيديو والمسلسلات التليفزيونية يؤكد ذلك.
ما يفتقر إليه الطلاب هو الخبرات التي توضح لهم أن الكتب لها السحر ذاته الذي تتسم به ألعاب الفيديو والمسلسلات التليفزيونية؛ إذ إن الفرصة لم تُتَح لهم قط لاكتشاف العوالم التي تضمها الكتب بين طياتها. ونظرًا لأن كثيرًا من خيارات القراءة الخاصة بالطلاب يُمْليها عليهم معلموهم، لا يعرف هؤلاء الطلاب مطلقًا كيفية اختيار الكتب بأنفسهم؛ فكيف يمكنهم تشكيل هويتهم الذاتية كقرَّاء إذا لم تُتَح لهم الفرصة لاكتشاف ما يحبونه؟ فإذا كنت طالبًا وكان فصلك الدراسي بأكمله يقرأ كتابًا واحدًا (وهي ممارسة شائعة)، فماذا ستفعل إذا لم يعجبك ذلك الكتاب؟ كيف سيشكل هذا الكتاب غيرُ المثير للاهتمام نظرتَك للكتب بوجه عام؟ إن المعلمين بحرمانهم الطلابَ من فرصتهم في اختيار الكتب التي يقرءونها بأنفسهم كأنهم يعطونهم سمكةً عامًا تلو الآخر، لكنهم لا يعلمونهم مطلقًا الاقترابَ من الماء، فضلًا عن اصطياد السمك بأنفسهم.
وبما أن الطلاب الخاملين قرَّاء جيدون بما يكفي، وقادرون على التكيُّف مع أنشطة القراءة في الفصل المدرسي النموذجي، فإنهم لا يحظون بقدر كبير من اهتمام المعلمين، لكنهم يجب أن يحظوا بهذا الاهتمام؛ فالطلاب الذين لا يقرءون — حتى وإن كانوا قادرين على إنجاز مهام القراءة في المدرسة — معرضون لخطر التخلُّف عن الطلاب الذين يقرءون أكثر منهم. فعلى أي حال، ينبهنا مارك توين إلى أن «الإنسان الذي لا يقرأ كتبًا عظيمة ليس أفضل حالًا ممن لا يستطيع قراءتها.» إنني أجد في بداية كل عام دراسيٍّ أن القرَّاء الخاملين يشكلون أكبر قطاع من القرَّاء في الفصول التي أدرِّس لها.
هوب
تُعَد هوب نموذجًا لما يبدو عليه القارئ الخامل عند انتقاله لأحد فصولنا المدرسية؛ فعلى الرغم من نجاح هوب في واجباتها المدرسية وتفوقها في تقييمات الولاية كل عام، فإنها لم تكن ترى نفسها قارئةً، وكانت ترى أن كتبًا قليلة هي التي تستحق القراءة. وضعتُ في يديها كتابًا تلو الآخر على أمل أن تجد بينها ما تحبه. كانت هوب تَقْبل ما أقدمه لها من باب تأدية الواجب في البداية؛ فقرأتْ بعض الكتب، بينما أعادت كتبًا أخرى إلى الرف. لكنها — شيئًا فشيئًا — بدأت تعثر على الكتب التي تعبر عن شخصيتها الانتقائية، فانجذبت نحو الكتب التي تدور أحداثها في أماكن غريبة وتتضمن عناصر خيالية، مثل «المعطي» لِلويس لاوري، و«كورالين» لنيل جِيمان. وعندما بدأت هوب تعبِّر عن تفضيلاتها لأنواع معينة من الكتب، كانت قد صارت لديَّ بذور المعلومات التي ساعدتني في إرشاد هذه الفتاة إلى مزيد من الكتب. إنني مولعة بالفانتازيا، والخيال العلمي، والأدب الشعبي (الخرافات والأساطير والقصص الخيالية)، وقد توثَّقَت علاقتي بهوب بفضل حبنا المشترك للأساطير اليونانية على وجه التحديد، واقترحتُ عليها كتبًا كنت أعلم أنها ستستمتع بقراءتها. وكلما زاد عدد الكتب التي رشحتها لها وأعجبتها، ازداد اعتمادها عليَّ في اقتراح الكتب عليها.
ما كانت هوب بحاجة إليه هو فرصة لتصفُّح كثيرٍ من الكتب كل يوم، وفرصة للقراءة على نطاق واسع. وأتذكر الآن — كلما رأيتها جالسةً في رواق المدرسة في انتظار السيارة التي ستقلها إلى المنزل، وقد دفنتْ رأسها في أحد الكتب منهمكةً في قراءته — كم كانت هوب راغبة عن القراءة. ولا تزال هوب إلى الآن زائرة مستديمة لمكتبتي، على الرغم من تركها فصلي منذ فترة طويلة.
(١-٣) القرَّاء السريون
القرَّاء السرِّيُّون هم قرَّاء موهوبون، لكنهم يرون أن الكتب التي يُطلَب منهم قراءتها في المدرسة لا تمُتُّ بأي صلة للكتب التي يفضلون قراءتها وحدهم. وكل ما يرغب به هؤلاء الطلاب هو أن يقرءوا وأن ينصرف عنهم المعلمون ويتركوهم وشأنهم. وقد كنت أنتمي لهذه الفئة من القرَّاء في المدرسة الثانوية. فبينما قضت معلمتي ستة أسابيع في إرغام الفصل على قراءة رواية «الحرف القرمزي» لناثانيال هاوثورن — التي انتهيت من قراءتها في أسبوع واحد — قضيت ذلك الوقت بالعيش في الأجواء المرعبة لرواية ستيفن كينج «سالِمز لوت»، والسفر إلى بولينيزيا مع رواية «هاواي» لجيمس ميتشنر. ونظرًا للاتفاق غير الكتابي بيني وبين معلمتي، تجاهلَت هي شعوري بالملل مما تدرِّسه للفصل، وأبقيت أنا فمي مغلقًا ورأسي مطأطَأً أقرأ كتابي، الذي خبأته داخل مكتبي في الفصل. وشعرت بالفخر بيني وبين نفسي لحصولي على درجة «ممتاز» في الاختبار النهائي حول رواية «هاكلبري فين»، على الرغم من عدم استكمالي قراءة الثلث الأخير من ذلك الكتاب؛ فقد استفاضت المعلمة في شرح حبكة الرواية وتأويلها لها لفترة طويلة للغاية، لدرجة أني أدركت ما ستطرحه علينا من أسئلة حولها في الاختبار حتى من دون أن أقرأ الكتاب.
وفي حين يسارع المعلمون لدعم الطلاب الذين لا يزالون ينمون مهاراتهم في القراءة، ويتساءلون عما يمكنهم فعله لتحفيز القرَّاء الخاملين الذين لا يحبون القراءة؛ يشكِّل القراء السريُّون مجموعة ثانوية تسقط احتياجاتها من حسابات المعلمين. وهؤلاء الأطفال هم أولئك الذين يأتون إلى فصولنا قرَّاءً نهمين. إن فرصة تصفح كميات ضخمة من الكتب، وانتقاء ما يبدو مثيرًا للاهتمام من بينها، والحصول على وقت للقراءة لساعات في المدرسة هي حلم كل قارئ سريٍّ، إلا أن القرَّاء السريُّون يضطرون لتقبل فكرة أنهم لن يحصلوا على هذه الحرية في معظم الفصول التي يَدْرسون فيها عامًا تلو الآخر. يتمتع هؤلاء الطلاب بقدرات عالية وأذواق رفيعة المستوى في القراءة، حتى إن عددًا قليلًا من المعلمين هم من يضعون خطط تدريس قائمة على احتياجات هؤلاء الطلاب؛ إذ يفضِّل المعلمون وضع منهج يدعم معظم الطلاب الآخرين الذين يقرءون بنفس مستوى الصف الذي يدرسون فيه أو دونه.
راندي
يمثل بعض القرَّاء السريِّين النجوم اللامعة والبراقة في فصول القراءة، فهُم الذين يَعرف عنهم الطلابُ الآخرون أنهم قرَّاء، وهم الذين يؤكدون للمعلمين على نجاح بعضٍ من جوانب منهجيتهم التدريسية بالضرورة؛ نظرًا لتفوقهم في التقييمات التي يجريها هؤلاء المعلمون. ولا شك أن هؤلاء الطلاب كانوا سيُبْلُون حسنًا في هذه التقييمات من اليوم الأول في الدراسة. على الجانب الآخر، يمكن أن يكون القرَّاء السريُّون مثل راندي، الذي فشل في فصلي وفقًا لمعظم مقاييس النجاح المدرسية (كنت لا أزال آنذاك مقيَّدة بتوقعات الآخرين مني في التدريس). اعتاد راندي حمل مجلد ضخم، على غلافه صورة تنين. علمت أنه قارئ، لكنه لم يهتم على الإطلاق بأداء التكليفات المدرسية، وكل ما كان يرغب به هو القراءة. ونظرًا لأن درجاته كانت منخفضة للغاية، اقتضت الإرشادات التوجيهية في المدرسة أن أضمه إلى مجموعة التقوية الخاصة التي كنت أدرِّس لها بعد الدوام المدرسي، على الرغم من معرفة كِلَيْنا بأنه ليس بحاجة إليها. وبينما كنت أنا ووالدته وزملائي من المعلمين الآخرين نعقد اجتماعات لا حصر لها ذلك العام لكي نناقش ما سنفعله مع راندي، كان هو يجلس في الردهة ويقرأ في سعادة.
وكما هو متوقَّع نظرًا لقراءته المستمرة، حصل راندي على نسبة تفوق ٩٥ بالمائة في اختبار القراءة الخاص بالولاية، ونُقِل إلى الصف السابع. وأنا على ثقة بأنه في مكانٍ ما الآن يقرأ كتابًا من أربعمائة صفحة، ولا يهتم مطلقًا بفصل القراءة الذي يُدرَّس له. لقد خذلتُ راندي! وهل من معلم لا تطارده ذكرى طفل خذله يومًا ما؟ لَكَمْ أتمنى لو كان باستطاعتي أن أكون معلمة ذلك الفتى مجددًا كي أوضح له أنني أدركت الأمر الآن! سوف أسمح له بقراءة كتب التنانين طوال العام، ولن أحاول أبدًا إجباره على الالتزام بأهداف القراءة المؤقتة التي وضعتها له، وسأبحث عن طرق لاستخدام الكتب التي يقرؤها بالفعل لتحقيق أهدافي التعليمية، مثلما أفعل الآن.
يقرأ راندي كل يوم، تمسكًا منه بنظرته حول ما تعنيه القراءة له وعزوفًا منه عن المساومة مع أي قوًى خارجية مثل المعلمين الذين ينتهكون قيم القراءة الجوهرية لديه. كان من المفترض أن يكون ذلك كافيًا لِي؛ فَراندي نموذج للقارئ الحقيقي، وما بذلتُه من جهود لإجباره على الامتثال لأهدافي القصيرة الأجل المتعلقة بقراءته — بينما كان هو بالفعل في طريقه نحو تشكيل هويته كقارئ على مدى الحياة — كانت بلا جدوى. إن القرَّاء السريِّين الذين يمتثلون أو لا يمتثلون لمفهوم المعلم حول القراءة ينبغي ألا يضطروا للانتظار لوقت الغداء أو إجازة الصيف أو التخرج لكي تبدأ حياتهم القرائية.
ليس عليَّ الآن سوى أن أُلقي نظرة واحدة على فصلي المدرسيِّ كي أرى إلى أيِّ مدًى وصل بي هذا التغيير في التوجه. فما إن تقبلت فكرة أن هدفي الأساسي كان غرس العادات الحياتية للقرَّاء في نفوس جميع طلابي — تلك العادات التي يتمتع بها بعض الطلاب بالفعل مثل راندي — حتى صار هناك توافق أخيرًا بين مهنتي في التعليم ووجهة نظري في الحياة بشأنِ ما يجب أن تكون عليه القراءة في نظر القرَّاء. تمتد هذه الرؤية إلى ما هو أبعد من الطلاب الجالسين في فصل القراءة، وتشمل هويات القرَّاء التي يملكها الطلاب بالفعل عند دخولهم إلى فصلي. ثقَّفَ أليكس — وهو مثال على هؤلاء القرَّاء السريين — نفسَه على مدار أعوام عن طريق القراءة سرًّا في الفصل المدرسي. ونظرًا لما كان يتمتع به من حرية في قراءةِ ما يريده، عبَّر عن أن فصلنا هو «جنة القراءة». واستمر في قراءة الكتب التي كان يخبئها داخل مكتبه طوال العام، على الرغم من أنه لم يكن مضطرًّا لذلك؛ فكنت أمزح معه كلما فعل ذلك بقولي إنه يدين لي بحقوق الملكية لأنني مَن اخترعت هذه الخدعة قبل ذلك الحين بثلاثين عامًا.
(٢) اختبار المعلم
عندما أخبرتِنا بأنكِ تتوقعين منا قراءة ٤٠ كتابًا هذا العام، أول ما خطر ببالي هو: «إنها مجنونة!» كنت أكره القراءة أكثر من كرهي لسلاطة البطاطس التي تعدها العمَّة إلينور (وصدقيني، هذا الشيء كريه للغاية). وأعتقد أن أحد أسباب هذا الكره للقراءة هو أن الكتب الوحيدة التي قرأتها العام الماضي هي الكتب التي فَرضتْ علينا المدرسة قراءتها. كنا نملأ الكثير من أوراق التدريبات بمقالات نقدية ومفردات لكل فصل من فصول هذه الكتب.
إنهم لا يثقون بي كثيرًا؛ فإذا لم أكن سأختبرهم في كل كتاب وأراقب كل ما يفعلونه في أثناء قراءتهم، فكيف لِي أن أتحكم في تعلمهم القراءة؟ إن المدرسة — من وجهة نظرهم — تتمثل في تقديم أداء يرقى لتوقعات المعلمين، وأداء العمل الذي يطلبه هؤلاء المعلمون.
أتذكر تلك اللحظة جيدًا؛ كان أول يوم ألتقي فيه بمعلمة الفصل. دخلت إلى فصل آداب اللغة والدراسات الاجتماعية، فكان كل ما رأيته هو الكتب. ثم جاءت السيدة ميلر، لتخبرنا بأنه ينبغي علينا قراءة ٤٠ كتابًا، فكان أول شيء خطر ببالي في تلك اللحظة هو «تقارير الكتب».
(٣) ظروف التعلُّم
-
«الانغماس»: يجب أن يُحاط الطلاب بكل أنواع الكتب، وأن يُمنَحوا الفرصة للقراءة يوميًّا. ويجب أن تكون المحادثات عن القراءة — أي ما يقرؤه الطلاب والاستفادة التي يحصلون عليها من الكتب — حدثًا مستمرًّا. في فصلي المدرسي، تُتاح للطلاب مئات الكتب من جميع الألوان الأدبية وكل مستويات القراءة، بالإضافة إلى ما يحصلون عليه من تشجيع للقراءة على نطاق واسع.
-
«الشروح»: يحتاج الطلاب إلى شروح وافية عن بنية النصوص وسماتها، وكيفية استخدام النصوص لتحقيق أهداف التعلم المختلفة، وكيفية الوصول للمعلومات المتضمنة فيها. لذا، فإنني أُدرِّس يوميًّا دروس القراءة باستخدام نصوص واقعية، مثل الكتب والمقالات والكتب المدرسية، مع إعداد كل درس بناءً على المهارات التي يحتاج إليها القرَّاء حقًّا لتنمية إتقانهم للقراءة.
-
«التوقعات»: يرتقي الطلاب إلى مستوى توقعات المعلم؛ لذا، فإنني أتوقع من طلابي أن يقرءوا يوميًّا، وأن يقرءوا كمية كبيرة من الكتب. وليس لديَّ توقعات عالية المستوى بشأن القراءة فحسب، وإنما بشأن نجاح الطلاب أيضًا، فلستُ أُشعرهم، سواء على نحو صريح أو ضمنيٍّ، بأنني أشك في قدرتهم على إنجاز أي مهمة قراءة.
-
«المسئولية»: يجب أن يقوم الطلاب ببعض الخيارات بأنفسهم على الأقل في أثناء سعيهم لبلوغ أهداف التعلم. يوضح كامبورن قائلًا: «إن الطلاب الذين يفقدون القدرة على الاختيار يصبحون مغلوبين على أمرهم.» لذا، فإنني أحدِّد لطلابي تكليفات بقراءة عدد معين من الكتب في كل لون أدبي، لكنني أمنحهم حرية اختيار الكتب التي سيقرءونها لتنفيذ هذه التكليفات.
-
«التطبيق»: يحتاج الطلاب إلى الوقت اللازم لممارسة ما يتعلمونه في سياقِ مواقف واقعية؛ لذا، فإن كل درس أدرِّسه لهم يصبُّ في قراءاتهم في النهاية؛ فيُمنَح الطلاب الوقت اللازم يوميًّا لتطبيق المهارات التي يكتسبونها على كتبهم، والقراءات المتعلقة بنطاق محتوًى معين، والواجبات البحثية.
-
«المقاربات»: يحتاج الطلاب إلى الحصول على التشجيع فيما يتعلق بالمهارات والمعرفة التي يتمتعون بها بالفعل، وينبغي أيضًا السماح لهم بارتكاب الأخطاء في أثناء سعيهم نحو التفوق. لذا، فإنني أساعد الطلاب في العثور على الكتب المناسبة لمستوياتهم في القراءة، حتى وإن كانت لا تتناسب مع المستوى المتوقع في الصف الذي ينتسبون إليه، والاحتفاء علنًا بإنجازات كل قارئ في أثناء تقدُّمه نحو امتلاك قدرة أكثر نضجًا على القراءة.
-
«الاستجابة»: يحتاج الطلاب إلى تقييم مباشر لا ينطوي على أي تهديدات بشأن ما يُحرزونه من تقدم. لذا، من خلال عقد الاجتماعات باستمرار مع الطلاب، وتكليفهم بكتابة رسائل رد عن الكتب التي يقرءونها، ومناقشتهم فيما يقرءونه يوميًّا؛ أمنحهم التشجيع والتوجيه والتصديق على تطورهم في القراءة.
-
«جذب الاهتمام»: حتى في ظل توافُر كل الظروف الأخرى، يُعَد جذب الاهتمام العاملَ الأهم في التعلم، ويجب توافُره في الفصل المدرسي الناجح. فيجب أن تكون القراءة مسعًى:
-
«يحمل قيمة شخصية للطلاب»: هل يجد الطلاب سببًا للقراءة بعيدًا عن الحاجة لفعل ذلك من أجل المدرسة؟ هل يجد الطلاب أي متعة في القراءة؟ أم إنها ليست سوى مهمة عمل في نظرهم؟
-
«يرى الطلاب أنهم قادرون على تحقيقه»: هل يرى الطلاب أنفسَهم قرَّاءً أم لا؟ هل يشعر الطلاب بالإحباط بسبب فشلهم في القراءة في الماضي؟ هل يرَوْن أنفسهم قادرين على تعلم القراءة ببراعة؟
-
«يخلو من أي شعور بالتوتر»: هل القراءة مثقلة بكثير جدًّا من متطلبات الأداء لدرجة أنها ترتبط في عقول الطلاب بكونها مادة معضلة؛ ومن ثَمَّ ترتبط بالشعور بالتوتر؟ هل تَعرَّض الطلاب للعقاب من قبل لعدم أدائهم تكليفات القراءة في المدرسة؟
-
«أعده شخص يحبه الطلاب ويحترمونه ويثقون فيه ويرغبون بالسير على خطاه»: هل يقدِّم المعلم نموذجًا يُحتذَى به من حيث عادات القراءة في حياته؟ هل يحترم الطلابُ المعلمَ باعتباره شخصًا واسع المعرفة بالقراءة؟ هل أَوْضَحَ المعلم للطلاب إيمانه بأنهم يتمتعون بالقدرة الكافية لاتخاذ بعض القرارات المتعلقة بالتعلم؟
-
لم أَعُد أقضي معظم وقت التخطيط الخاص بي في إعداد وحدات الروايات الرائعة، وإنما أركز جهودي بدلًا من ذلك على تهيئة بيئة فصل مدرسي تجذب الطلاب، بناءً على ظروف التعلم التي حددها كامبورن. إن بإمكاننا أن نقضي ساعات في تحديدِ ما ينبغي أن يعرفه الطلاب وما ينبغي أن يكونوا قادرين على فعله؛ حيث نجهز منهجية التدريس بحرص وعناية لتحقيق النتائج المرجوة، لكن دون أن نضع في الاعتبار حق الطلاب في مكان جذاب وجدير بالثقة وخالٍ من المخاطر يتعلمون فيه، سيظل — دائمًا — هناك قصور فيما نُدَرِّسُه. يجب أن يؤمن الطلاب بقدرتهم على القراءة، وبأن القراءة جديرة بتعلم كيفية إتقانها. يجب أن نبني مجتمعًا يحتضن كل طالبٍ، ويقدِّم القبول والتشجيع بغض النظر عن مستوى الطلاب في القراءة.