السيد عبد الله نديم
قد لخصنا ترجمة المرحوم السيد عبد الله نديم من سيرةٍ مطولةٍ بقلم حضرة صديقه الوفي أحمد أفندي سمير:
نشأته الأولى
هو عبد الله بن مصباح بن إبراهيم، وينتهي نسبه إلى إدريس الأكبر من أسباط الحسن بن علي. وُلد بالإسكندرية سنة ١٢٦١ﻫ/١٨٣٤م، فحفظ القرآن الكريم قبل أن يبلغ التاسعة، وكان أبوه وسطًا في اليسار، فلما رأى ذكاءه ونجابته أدخله مدرسة جامع الشيخ إبراهيم باشا فقرأ على أكابر الأشياخ، فأتقن فقه الشافعي والأصول والمنطق وعلوم الأدب اللسانية وهو في سن المراهقة، فأخذ من ذلك الحين يقول الشعر الرقيق والنثر المسجوع المحكم، فما لبث أن سارت الأمثال ببدائع آدابه، وتسابَق بلغاء الكتَّاب والشعراء إلى مطارحته، وكانت الكتابة إلى ذلك العهد قاصرة على السجع فتوخى المترجم فيها أساليب جديدة في الإنشاء، فاق فيها المتقدمين وأعجز المتأخرين، تشهد بذلك رسائله الأدبية ومؤلفاته التي تبلغ نحو مائة مؤلفٍ في فنونٍ مختلفة، فُقد أكثرها سرقةً أو اغتصابًا أو حرقًا أو إغراقًا في مياه النيل — كما سيأتي تفصيله.
ولم تكن وفرة الأعمال عائقة له عن التحصيل؛ فقد كان يغتنم نوبة فراغه من العمل فيتردد إلى الجامع الأزهر، يطالع مع بعض رفاق شبيبته الدروس التي كانوا يشتغلون بها، وأخَص هؤلاء الرفاق العلَّامة الشيخ حمزة فتح الله المفتش الأول للغة العربية بنظارة المعارف المصرية.
ثم طرأ ما أوجب انفصاله عن الخدمة، فاتصل بكثيرٍ من المقربين والعظماء، فكانت له معهم مجالس مشهودة حضرها أفاضل الشعراء والمنشئين، وناظروه وطارحوه نظمًا ونثرًا، فظهر عليهم جميعًا.
ثم قصد المنصورة ترويحًا للنفس، ورأى أن التجارة خير رياضةٍ له فأنشأ هنالك متجرًا، فراجت سوق بضاعته رواج آدابه، ولكن كرمه تغلب على رأس المال والربح ففقدهما جميعًا، وكان بيته ومتجره كعبة يحج إليها رجال الأدب، وكانوا يتحدثون بمعجز رسائله ومحرراته نظمًا ونثرًا.
نشأته السياسية
ثم عاد إلى الإسكندرية أوائل سنة ١٨٧٩م، وهنالك أخذت شمس حياته السياسية تبدو، فكان أول سعيه في هذا السبيل أن اجتمع بصديقيه المخلصين محمد أفندي أمين باشكاتب محكمة أسيوط الأهلية، ومحمود واصف أفندي أحد جامعي كتاب سلافة النديم ومحرر جريدة العدل، وكانا وقتئذٍ من مؤسسي جمعية مصر الفتاة؛ فكان الأول نائب رئيسها، والثاني كاتم أسرارها، فتعرف ليلة اجتماعه بهما بالمأسوف عليهما أديب أفندي إسحاق وسليم أفندي النقاش، صاحبَي جريدتي مصر والتجارة، وتعرف بكثيرٍ من أعضاء هذه الجمعية، وشرع في بث أفكاره بما كان ينشره في تينك الجريدتين، ثم رأى أن جمعية مصر الفتاة سرية يُخشى عليها من الحكومة، فأقنع صديقيه المشار إليهما بالانفصال عنها، فانفصلا وتبعهما كثير من أعضائها، ثم ذاكرهما في إنشاء جمعية علنية تسعى فيما يعود على الوطن وأهله بالمنفعة الحقيقية، فاستصوبا رأيه. وشرع منذ ذلك الحين في تأليف قلوب أهل الثغر، علمًا بأن المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، فتألَّفت الجمعية الخيرية الإسلامية في آخر ولاية المغفور له إسماعيل باشا، والقلوب واجفة والأفكار مضطربة، وقد خرست الألسنة وغُلَّت الأيدي إلى الأعناق، حتى دنت ساعة الفرج بولاية المرحوم محمد توفيق باشا، فقُرَّت العيون وهدأت الأفكار، فقام المترجم يُثبِّت دعائم دعوته، ويبث في الأذهان فوائد الاجتماع بلسان طلق، فبرزت الجمعية الخيرية بمساعيه في ثوب الائتلاف، وتسارع أعيان الثغر ووجهاؤه للانتظام في سلكها، وكانت هي أول جمعيةٍ إسلاميةٍ أُسست في القُطر المصري، وكانت ترمي إلى غرضٍ واحد، هو تربية الناشئة وبث روح المعارف فيهم لترقية الأفكار وتطهير الأخلاق من دنس الجهالة.
فأنشأت هذه الجمعية مدرسة لتعليم الأيتام وأبناء الفقراء مجانًا، فسعى المترجم جهده حتى أكسبها عناية أمير البلاد، فجعلها تحت رئاسة ولي عهده ووريث تاجه إذ ذاك، وهو خديونا الحالي — أطال الله عمره — فكان ذلك أدعى لنشاط رجالها وزيادة اهتمامهم، فسعَوْا في توسيع دائرة المدرسة، واستحضروا لها فضلاء المعلمين من العرب والإفرنج، وأقاموا المترجم مديرًا لها، فوضع لها أساسًا مُحكمًا، وعلَّم فيها الإنشاء وعلوم الأدب، فنمت وزهت حتى زاد عدد الطلاب فيها على الثلاثمائة في زمنٍ وجيز، ورتبت لها نظارة المعارف ٢٥٠ جنيهًا كل عام.
فلما رأى المترجم أن غرسه قد كاد يُثمر استرحم المغفور له الخديوي السابق أن يُنعم على الجمعية بالمدرسة البحرية؛ لاتساعها وجودة موقعها، فأجابه إلى ما طلب.
ولقد بلغت هذه المدرسة من الشهرة وبُعد الصيت على قِصر المدة ما لم يبلغه غيرها في أزمانٍ متطاولة، ونالت من الْتفات المرحوم توفيق باشا ونجليه الكريمين، سمو الخديوي الحالي ودولة شقيقه، ما رفع قدرها ونشَّطها وزادها زهوًا ونماءً، مع ما كان يبذله صاحب الترجمة من العناية في عقد الحفلات العامة في بهرة المدرسة، يحضرها كبار القوم وسراتهم، فيسمعون المطرب والمغرب منه ومن تلامذته، ثم ينصرفون ولا حديث لهم إلا ترداد ما سمعوه من العبارات الآخذة بمجامع القلوب.
وفي تلك الأثناء مثَّل المترجم بالإسكندرية حالة البلاد، وكيف يكون الوصول إلى الشهامة والمروءة بروايتيه المشهورتين باسمَي «الوطن» و«العرب»؛ مثَّلهما هو وتلامذته في ملهى زيزينيا بحضرة ساكن الجنان الخديوي السابق، فكان لهما في نفسه من حُسن الوقع ما بعثه على أن يدفع من ماله الخاص مائة جنيهٍ مساعدةً للجمعية، ولكن الحسد جرَّ بعض ذوي النفوذ إلى الإيقاع بالنديم، ففُصل عن الجمعية وأُقيل من إدارتها.
وكان قبل ذلك قد ترك الكتابة الأدبية واشتغل بالتحرير السياسي على الأسلوب الحديث بلا سجعٍ ولا تقفية، فكان يحرر في جريدتي «المحروسة» و«العصر الجديد»، اللتين صُرِّحَ للمرحوم سليم أفندي النقاش بإصدارهما عقيب إلغاء «التجارة ومصر»، وإبعاد المرحوم أديب أفندي إسحاق إلى خارج مصر، فجاء فيهما بالمعجب والمطرب.
وما زال كذلك حتى استدعى صاحبهما من بيروت الكاتبين الفاضلين سليم أفندي عباس والمرحوم فضل الله أفندي الخوري، فترك لهما أمر هاتين الجريدتين، وأنشأ «التنكيب والتبكيت»، وهي جريدة أسبوعية ظاهرها هزل وباطنها جد، فأودعها ما لم يسبقه أحد من كُتَّاب العرب إليه.
ثم استبدلها ﺑ «الطائف» على ما قضت به المناسبات الزمانية قبيل الثورة العرابية، وكانت «الطائف» سياسية محضة، بلغت من الشهرة ما لم تبلغه جريدة قبلها من التأثير على الأذهان، ثم اغتصبها منه أمراء الجند أثناء الثورة، ولم يدَعوا له منها غير الاسم، فكانوا ينشئون فيها ما يشاءون دون أن يَقدر على رد واحدٍ منهم، حتى انطفأت جمرة تلك الثورة فاختفى.
أما قيامه بنصرة الحزب الوطني فسببه أنه لاقى من معاملة الحكومة له ولغيره ما يدل على تفضيلها الأجنبي لخدمتها على الوطني، واتفق ظهور نيران الثورة، فأصابت منه هوًى في الفؤاد فتمكنت؛ لأنه سمع رجالًا تنادي بطلب الإصلاح، وتعقد الاجتماعات العلنية مجاهرة بمقاصدها في أهم الصحف، حتى اتفقت الآراء على أن في مصر حزبًا وطنيًّا لا همَّ له إلا انتشال البلاد من وهدة الخراب، فكانت رسل الحزب العسكري تتردد على المترجم، ورؤساؤه يكرمونه ويعظمونه، فما زالوا به حتى انضم إليهم، فوَسَمُوه بخطيب الحزب الوطني، واتخذوا جريدته مجالًا لأقلام كثيرين منهم، ومظهرًا لأفكارهم، ولكنه كان يتأفَّف سرًّا من وقوعه في تلك الورطة، فإذا خلا بأحدٍ من أخصائه أظهر له حقيقة ما يُضمر، وأنبأه بمصير تلك الحال.
ولم يمضِ بضعة أسابيع حتى هاجت القاهرة وماجت؛ إذ أنبأها البرق بضرب الإنكليز للإسكندرية في ١١ يوليو سنة ١٨٨٢م، وانتشاب الحرب بينهم وبين عرابي، فقام المترجم مع محمود باشا سامي البارودي وغيره من رؤساء الجند المتخلفين إلى الإسكندرية، فوجدوا الجيش المصري يتأهب لمغادرتها إلى كفر الدوار بعد أن صارت معالمها دوارس، فباتا (هو وسامي) في منزل المترجم، فلما كانت ما يسمُّونه بواقعة التل الكبير في ١٥ من شهر سبتمبر سنة ١٨٨٢م وقت السحر فرَّ عرابي وأخوه وعلي الروبي، وتبعهم المترجم، فجاءوا القاهرة في الساعة الرابعة بعد الظهر، وساروا توًّا إلى قصر النيل مركز نظارة الحربية إذ ذاك، فتألَّف وفد ليسيروا إلى الإسكندرية يلتمسون العفو من الخديوي، والنديم في جملتهم ولكنه لم يصل الإسكندرية، بل عاد من كفر الدوار واختفى من ذلك الحين. فقضى عشر سنواتٍ مختفيًا في مديرية الغربية بين ميت الغرقا والعتوه والجيزة وغيرها، فيتنكر تارة بزي الدراويش، وطورًا بزي المغاربة أو غيرهم، والحكومة تبث العيون والأرصاد للقبض عليه وهو أقرب إليها من حبل الوريد، فلما أعيتها الحيلة جعلت لمن ينبئها بمكانه مكافأة مقدارها ألف جنيه، وكان العارفون بمكانه كثيرين، ولكنهم حافظوا على ولائه فأخفَوْه مكرمًا معززًا حتى قُبض عليه في شهر نوفمبر سنة ١٨٩١م أواخر ولاية المرحوم توفيق باشا، فجيء به إلى طنطا حيث حُبس أيامًا. وسُئل عن موجب اختفائه، فأوضحه بما لا يخرج عما تقدم، فعفا الجناب الخديوي عنه ولكنه أمر بإبعاده إلى حيث يشاء من البلاد غير المصرية، فاختار يافا من ثغور فلسطين، فسافر إليها بإكرام، وأقام هناك مدة ثم أزمع السياحة في تلك البلاد المقدسة، فخرج من يافا في مارس سنة ١٨٩٢م مع صديقٍ له إلى جبل الطور المسمى جبل جارزيم، وزار مقام العزيز هناك، وقبور كثيرين من الأنبياء، ومرَّ بأماكن كثيرةٍ من جملتها نابلس ومدينة الخليل وبيت لحم والمسجد الأقصى، ثم عادا إلى يافا.
وفي تلك السنة (١٨٩٢م) تولى الأريكة الخديوية سمو العزيز عباس باشا الثاني، فعفا عن المترجم، فعاد من يافا إلى القاهرة، وظل مترددًا بينها وبين الإسكندرية أكثر من شهر، ثم اتخذ الأولى موطنًا، وأنشأ بها مجلته العلمية الأدبية التهذيبية «الأستاذ»، فنالت من الشهرة والانتشار في شهورٍ ما لم تنله سواها بأعوام، وكان لها تأثير شديد في أفكار الأمة على اختلاف نِحَلها.
ثم ألغيت لأسباب يعلمها كل متدبر؛ لأن العهد بها غير بعيد، وكُلِّف المترجم بالخروج من مصر، فغادرها ثانية إلى يافا، ودفعت له الحكومة المصرية أربعمائة جنيهٍ يعتد بها لسفره، ورتبت له ٢٥ جنيهًا كل شهر، على شرط أن لا يكتب شيئًا في الجرائد يختص بسياسة مصر، فلبث أربعة أشهر في يافا، ثم أعيد منها بإرادةٍ سلطانية، فرجع إلى الإسكندرية وأقام فيها أيامًا، قابل في خلالها صاحب الدولة الغازي مختار باشا المندوب السلطاني العالي، فساعده هذا على المسير إلى الآستانة فسافر إليها، وصدرت الإرادة السلطانية بتعيينه مفتشًا للمطبوعات بالباب العالي، وترتيب ٤٥ جنيهًا مجيديًّا له كل شهرٍ فوق ما كان يتقاضاه من الحكومة المصرية، وكان ينفقها كلها في سُبُل الخيرات والبر بالأهل والأقارب والأصدقاء.
وقد نال لدى المقام السلطاني الحظوة الكبرى، وتعرَّف بكثيرٍ من الوزراء وأرباب المظاهر العلمية، ولكنه اختص بالملازمة والمودة الإمام العلَّامة الفيلسوف السيد جمال الدين الأفغاني، فاتصلت بينهما أسباب الألفة، وتمكَّنت منهما روابط الاتحاد حسًّا ومعنًى، وقد بلغ تعلق السيد جمال الدين به وجميل اعتقاده فيه أنه أصبح وأمسى يعجب بقوة حجته في المناظرة والجدل، وسرعة بديهيته في التحضير، حتى صرَّح في عدة مجالس بأنه ما رأى مثل النديم طول حياته في توقُّد الذهن، وصفاء القريحة، وشدة العارضة، ووضوح الدليل، ووضع الألفاظ وضعًا محكمًا بإزاء معانيها إن خطب أو كتب.
وقد كان يودُّ الرجوع إلى مصر ليقضيَ بها بقية أيامه، فلم تتِح المنية ذلك؛ فداهمته بمخالبها فقضى بداء السل الرئوي في ١١ أكتوبر سنة ١٨٩٦م، فأمر جلالة السلطان أن يحتفل بمشهده على نفقة الجيب الشاهاني الخاص، فسار أمام نعشه فرقتان من الجيش، وفرقة من الشرطة، وتلامذة المكتب السلطاني، وعدة من الوجوه والكبراء والعلماء يتقدمهم السيد جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد ظافر شيخ السلطان، والسيد عبد الرحمن الجزولي، حتى دفنوه في باشكطاش، ولقد مات المترجم ولم يورِّث أهله إلا الحزن والعناء؛ لأنه كان يقبض مرتبه من مصر والآستانة، فلا يمضي عليه بضعة أيام حتى يفرغ من توزيعه على الأقارب والأباعد دون نفسه.
أما أخلاقه فإنه كان برًّا بوالديه وذوي قرابته وقصَّاده ولو لم يكن يعرفهم، فما أقرض أحدًا شيئًا وطالبه به، ولا رد يومًا سائلًا، ولا خضع لعظيمٍ قط، وإنما كان يلين ويتواضع لصغار الناس وأوساطهم، وكان ذكيًّا فطنًا قوي الحافظة، فصيحًا جريئًا، شاعرًا مطبوعًا وكاتبًا ناثرًا.
مؤلفاته وكتاباته
ومن مؤلفاته الكثيرة ديوان شعرٍ يشتمل على نحو أربعة آلاف بيتٍ نظمها وشبابه باسم الثغر طلق المحيا، وديوان آخر في نحو ثلاثة آلاف بيت، وروايتا «الوطن والعرب»، ورسائل أدبية مسجوعة لم تصل أيدي جامعي السلافة منها إلا إلى أربع عشرة رسالة بعد السعي الكثير ومكابدة العناء الجزيل، وكان ويكون (وهو الذي طبع بعضه في الأستاذ)، وواحد وعشرون كتابًا في فنونٍ مختلفة، قطع لأجلها أيام حرب الاختفاء رقاب الفراغ بسيوف الأقلام؛ منها ديوان شعرٍ يحتوي على ما يقارب عشرة آلاف بيت، وهو الآن محجور عليه في الآستانة، ومنها النخلة في الرحلة، والاحتفاء في الاختفاء، والشرك في المشترك، وكتاب في المترادفات، وآخر في اللغة سمَّاه موحد الفصول وجامع الأصول، والفرائد في العقائد، واللآلئ والدرر في فواتح السور، والبديع في مدح الشفيع، وأمثال العرب، وغير ذلك.
وقد فُقد كثير من مؤلفاته ومنظوماته حرقًا أو ضياعًا أو اغتيالًا، على أن شقيقه عبد الفتاح أفندي نديم وصديقه محمود أفندي واصف قد عُنيا في جمع ما تيسَّر من ذلك في كتاب سمياه «سلافة النديم في منتخبات السيد عبد الله نديم»، وطبعاه، فمن أراد الاطلاع على ما كتبه النديم أو نظَمه أو خطبه فعليه بالسلافة.