الشيخ إبراهيم اليازجي
وكانت الصحافة البيروتية في أوائل نهضتها، ومن جرائدها يومئذٍ «النجاح»، فعُهد إليه بتحريرها سنة ١٨٧٢م، فظهر اقتداره على الإنشاء العصري مما لم يعهد الناس مثله في المرحوم أبيه، فضلًا عن تمكُّنه من قواعد اللغة ومعاني ألفاظها، وكان المرسلون الأميركان لما أرادوا نقل التوراة إلى اللسان العربي في أواسط القرن الماضي استعانوا في تنقيح مسوداتها وضبط عبارتها من حيث اللغة والإعراب بالمرحومين الشيخ ناصيف والمعلم بطرس البستاني، ثم بالشيخ يوسف الأسير، ولكنهم التزموا الترجمة الحرفية، ولم يبيحوا للمصححين التصرُّف بالأسلوب؛ فجاءت عبارة ترجمتهم ضعيفة. ثم عمد الآباء اليسوعيون إلى ترجمة الكتاب المقدس ترجمة كاثوليكية، فاستعانوا بالشيخ إبراهيم، وفوَّضوا إليه تنقيح العبارة من حيث الإنشاء، فضلًا عن الضبط النحوي واللغوي، فقضى في ذلك، وفي تصحيح كتبٍ أخرى، تسع سنين، وقد درس اللغة العبرانية على نفسه لتطبيق عبارة التعريب على الأصل؛ فجاءت ترجمة اليسوعيين أصح ترجمات التوراة العربية لغة، وأفصحها عبارة، وأجزلها أسلوبًا. ويصدق ذلك على الخصوص في العهد القديم، أما العهد الجديد فقد أخبرنا (رحمه الله) أنهم لم يطلقوا يده في تنقيحه كما يشاء، وكان في أثناء ذلك وبعده يُعلِّم المعانيَ والبيان وآداب اللغة في المدرسة البطريركية، فتخرَّج عليه جماعة من أذكياء الشبان، اشتُهر بعضهم بالصحافة، وبعضهم بالتجارة أو الإدارة، وتمم بعض ما تركه والده غير كاملٍ من المؤلفات أو الشروح؛ وأشهرها ديوان المتنبي، وكان والده قد علَّق على بعض أبيات المتنبي شرحًا موجزًا، فعكف هو على إتمامه سنة ١٨٨٢م، فأتمه في أربع سنوات شرحًا، وطبعه، وهو مشهور بضبطه وما ألحقه به من النقد الشعري.
وكانت الصحافة السورية قد نمت، وظهرت مجلة الجنان، ثم مجلة المقتطف، وتحدث بهما وبما استفادوه منهما، فأحب الشيخ الرجوع إلى الصحافة العلمية، وكان الدكتور بوسط الجراح الشهير قد أنشأ في بيروت مجلة طبية سمَّاها «الطبيب»، فاتحد الشيخ مع صديقيه المرحوم الدكتور بشارة زلزل والدكتور خليل سعادة نزيل القاهرة وأصدروا الطبيب معًا سنة ١٨٨٤م، نشر فيه الشيخ — فضلًا عما كان يكتبه زميلاه من المقالات الطبية والعلمية — مقالاتٍ لغويةً وأدبيةً إنشاؤها من الطبقة الأولى، وحجب الطبيب عن قرائه في السنة التالية، ثم استأنف إصداره الدكتور إسكندر بك البارودي، ولا يزال يصدر في بيروت حتى الآن.
جناب الفاضل الشيخ حبيب اليازجي:
لما علم جناب الخديوي العالي بتعظيم رزء اللغة العربية وآدابها لانتقال العلَّامة الشيخ إبراهيم اليازجي من هذه الديار الفانية إلى الدار الباقية، أظهر مزيد أسفه على انقضاء تلك الحياة الطيبة الحافلة بجلائل الخدم للعلوم العربية في القطرين مصر والشام، وأمرني سموه الفخيم أن أُبلغ جنابكم وسائر أعضاء الأسرة اليازجية تعزيته السامية، وإني أشترك مع قراء العربية في تقديم واجب التعزية إلى حضراتكم.
والفقيد (رحمه الله) حائز على الوسام العثماني من جلالة السلطان، وعلى نوط العلوم والفنون من جلالة ملك أسوج ونروج، وانتدبته كلٌّ من الجمعية الفلكية في باريس وفي أنفرس والجمعية الفلكية الجوية في السلفادور أن ينتظم في عضويتها.
أخلاقه وصفاته
كان رَبْع القامة، نحيف البنية، عصبي المزاج، حاد البصر، ذكي الفؤاد، سريع الخاطر، حاضر الذهن، لطيف المحاضرة، حلو المفاكهة، لا يُملُّ مجلسه، يطرب للنكتة الأدبية ويضحك لها، وكان مع ذلك شديد الحرص على كرامته، لا يحتمل مسَّها في جدٍّ أو هزلٍ تلميحًا ولا تصريحًا، وكان سريع الانتباه لما يتخلل أحاديث المجالس من الإشارات الأدبية، وكان متعففًا بطعامه وشرابه، ولولا ذلك ما صبر على معاناة صناعة القلم بضعة وأربعين عامًا مع نحافة بنيته. وقضى أعوامه الأخيرة يقتصر في عشائه على كأسٍ من اللبن خوف التثقيل على معدته، وإنما العمدة في الغذاء على أكلة الغداء، ولم يكن نهمًا، وأما في الصباح فيتناول طعامًا خفيفًا ويعكف على العمل، فإذا تغدى الظهر شرب قهوته ودخن شيشته ونام، ثم ينهض ويقضي بقية النهار في الراحة، أو في عملٍ لا يُتعبه، ويخرج لترويح النفس في بعض الأندية يلاعب بعض معارفه بالنرد على سبيل التسلية، أو يقضي ذلك الوقت بالمباسطة والمفاكهة، فإذا آن العشاء عاد إلى منزله فيتناول اللبن ويستأنف العمل، وكان مولعًا بتدخين الشيشة في أثناء الكتابة، كما كان والده مولعًا بالقهوة وتدخين التبغ في ذلك الحين.
وكان عفيف النفس، كثير الإباء، ظاهر الأنفة إلى حد الترفُّع؛ ولا سيما فيما يتعلق بالارتزاق، يعدُّ مجاملة الناس في سبيل الكسب تملقًا، وكلما قلَّ ماله زادت أنفته وعظم إباؤه، وكثيرًا ما أراد أصدقاؤه إقناعه أن سنة الارتزاق تقضي بمجاملة الناس والتقرُّب من كبارهم بالحسنى، فربما أطاع ناصحه برهة ثم يعرض له خاطر فيعود إلى الإباء، ولولا ذلك لعاش في سعةٍ وراحة، ولكن القناعة كانت من أكبر أسباب سعادته.
على أنه كان يشتغل بالقلم التماسًا لتلك اللذة التي كثيرًا ما أغوت أصحاب القرائح واستنزفت قواهم؛ فعاشوا فقراء وماتوا أعلَّاء. ولو أراد الشيخ مجرد الارتزاق لكان له مما فُطر عليه من دقة الصناعة اليدوية خير سبيل، بل لم يكن يعدم منصبًا في بعض مصالح الحكومة، وقد نُدب أن يكون قائمقام على مدينة زحلة من لبنان سنة ١٨٨٢م فلم يقبل.
ومن إبائه وكرم أخلاقه أنه كان صادقًا في معاملته على اختلاف وجوهها، لا يحلف ولا يخلف، أمينًا فيما ينقله أو يقتبسه من الآراء أو الأقوال، ينسب الفضل إلى صاحبه، وكان عكس ذلك فيما يفعله هو مع الآخرين من تصحيح مقالةٍ أو تنقيح عبارة، فإنه كان شديد الإنكار لذلك، ولكن ديباجته كانت تنمُّ عليه؛ لظهور أسلوبه من خلال السطور.
وكان برًّا بأبيه، وقد خدم اسمه وزاد في شهرته بما أتمه من آثاره أو شرحه من كتبه، فأنفق في سبيل ذلك جانبًا كبيرًا من وقته، وأتم شرح المتنبي، أو هو شرحه كله، فنسب الشرح إلى والده، واستبقى لنفسه فضل التتميم.
قرائحه ومواهبه
على أن تأنقه ظهر أولًا في خط يده؛ فكان جميل الخط من حداثته، وظل خطه جميلًا إلى آخر أيامه، وقاعدته فارسية، والذين يقرءون رسالةً بخطه لا يكون إعجابهم بجمال ذلك الخط أقل من إعجابهم ببلاغة أسلوبه، ومن هذا القبيل تأنُّقه في التصوير باليد، حتى صوَّر نفسه عن المرآة صورة ناطقة، رأيناها معلقة في منزله، وأهم ما نجم من ثمار هذه القريحة اصطناع الحروف الحديثة التي سنذكرها في جملة آثاره.
إنشاؤه
ومن قرائحه اقتداره الغريب على الإنشاء المرسل مع سلامة ذوقه في انتقاء الألفاظ، وأسلوب عبارته جمع بين المتانة والبلاغة والسهولة، يشبه أسلوب ابن المقفع شبهًا إجماليًّا، ولكنه من أكثر وجوهه خاص بالشيخ، على أن إنشاء ابن المقفع لم يصل إلينا كما كتبه صاحبه، ولكنه جاءنا بعد أن هذبته أقلام المنشئين ونقحته قرائح اللغويين زهاء اثني عشر قرنًا، أما الشيخ فلم يمس عبارته سواه، ناهيك بما يعترض الكاتب اليوم من المعاني الجديدة التي لم يعرفها القدماء وليس في المعجمات لفظ يدل عليها، مما يقف عثرة في طريق المنشئين.
أما فقيدنا اليازجي فكان يتخطى هذه العقبات على أهون سبيل، فجاءت عبارته خالية من غريب اللفظ ووحشي التركيب، وقد يأتي باللفظ الغريب فيضعه موضعًا يجعله مألوفًا؛ فلا يمجُّه السمع ولا ينكره الفهم، فكان أسلوبه بليغًا بلا تقعُّرٍ أو تعقيد، سهلًا بلا ضعف أو ركاكة، متسلسلًا متناسبًا متناسقًا، يطابق ما قدمناه من توخيه التأنق والإتقان في كل شيء، ورغبته في الإتقان حملته على التأني في نشر ما يكتبه، فكان لا يرسل المقالة إلى المطبعة إلا بعد تنقيحها وتهذيبها، ثم يكتبها بحرفٍ واضحٍ جليٍّ كأنه سلاسل الذهب؛ حذرًا من الوقوع في الخطأ؛ فآل ذلك إلى إبطائه في إخراج بنات أفكاره، وقلَّل مقدار ما كان يُرجى الحصول عليه من ثمار علمه ودرسه.
ومما حمله على المبالغة في التأني، أنه كان شديد الوطأة في انتقاد ما يعرض له من الغلط اللغوي فيما يقرؤه من الصحف أو الكتب، وذلك طبيعي فيمنيخصص بحثه في فرعٍ من فروع العلم يستقصيه ويدرس دقائقه، فيكثر ما يقع عليه نظره من الغلط فيما يكتبه سواه في ذلك الفرع، فلا يصبر على السكوت عنه؛ ولا سيما إذا كان عصبي المزاج مطبوعًا على التأنق والإتقان مثل فقيدنا؛ فالانحراف عن الصواب كان يؤلمه، ولا يشفي ألمه غير النقد، ويمتاز نقده بشدة اللهجة، وبما يتخلله من قوارص الكلم، لا يراعي في ذلك صداقة ولا عهدًا. وسبب تلك الشدة — على الغالب — غيرته على اللغة وإخلاصه في خدمتها، فلما كتب «أغلاط المولدين» لم يستثنِ والده ولا نفسه؛ لأنه كان يرى الغلط اللغوي أو النحوي من أكبر السيئات، ويرى السلامة منهما من أكبر الحسنات؛ ولذلك كان يُثني على شعر ابن الفارض، ويعجب بشعر المتنبي على الخصوص؛ لقلة ذلك الغلط فيهما، وربما احتقر شعر شاعر مطبوع أو مقالة عالم كبير إذا رأى فيها غلطًا لغويًّا أو نحويًّا. فكان يبالغ في تنقيح ما يكتبه ويتأنق في إتقانه خوفًا من الانتقاد، ولعله تنبه لذلك على الخصوص منذ أخذ في الدفاع عن والده لمَّا انتقده الشيخ أحمد فارس وشدد النكير عليه. وكان الشيخ إبراهيم في إبان شبابه، فأجاد في الدفاع، وتعوَّد الحذر من الخطأ بالمراجعة والتنقيح من ذلك الحين، فاعتبر مع سعة علمه بمفردات اللغة وجزالة أسلوبه كم تكون لغته صحيحة وعبارته بليغة فصيحة، حتى أصبح استعماله حجة وإنشاؤه قاعدة، فلا عجب إذا دعوناه حجة اللغة وإمام الإنشاء، وأكثر ما يكتبه مرسل سهل، وإذا سجع فلا تجد في تسجيعه تكلفًا، وإليك أمثلة من ذلك، وهو من قبيل الشعر المنثور:
واعتبر ذلك في الأرض وما يؤلف أديمها من الجواهر، ويشتمل عليه جوها من العناصر، وما يعيش عليها من النبات القائم في الصحراء، والحيوان السارح على وجه العراء، والسابح في لجتي الماء والهواء، تجد هناك سلسلة يتصل أعلاها بأسفلها، ويتحول بعضها إلى بعضٍ حتى يرتد آخرها إلى أولها، بل ترى الأرض نفسها عرضة للطبيعة تغزوها بالسيول الجوارف، والرياح النواسف، والأمواج التي تهاجم ثغورها، والزلازل التي تصدع صخورها، متعاقبة عليها ما تعاقب الليل والنهار، إلى أن يأتي يوم تنحل فيه الجبال وترسب في درك البحار، ثم لا تزال المياه تسحل وجه الأرض حتى لا يبقى فيه أمت ولا انحناء، وحتى يغمرها الماء من كل ناحيةٍ وقد عاد سطحها مستويًا تحت الماء كاستواء سطح الماء، فعادت كما كانت في أول خلقها، ماءٌ غامر، وكون بائر، قد خلا من عالمي البر والهواء، ولم يبقَ فيه من ذوات الحياة إلا عالم الماء.
هذا إذا لم تصب الأرض قبل ذلك بالهرم، وينضب ماؤها بعد خمود ما في باطنها من الضرم، ولم تتشرب هواءها فلا يتنفسه بعد ذلك نبات ولا حيوان، ولا يجد ذو جناح ما يعتمد عليه جناحه في الطيران، على حد ما تم من مثل ذلك في القمر، حتى لم يبقَ فيه وشل لمرتاد، وحتى تجرد من ثوب هوائه أو كاد، وحتى أصبح قفرًا هامدًا لا ينبت عليه شجر، ولا يتنفس فيه دابة ولا بشر، بل لو بقي هواء الأرض وهو خالٍ من بخار الماء لجمَّد البرد سطحها تجميدًا، وانقبض الأحياءُ من وجهه حيث يقع شعاع الشمس عمودًا، ثم لا يزال بساطهم يزداد ضيقًا على توالي الحقب، إلى أن تموت آخر عشيرةٍ منهم بالبرد والسغب، فتدفنها الثلوج حيث لا تنكشف رممها إلا يوم التلاقي، وتخط يد القضاء على أديم الأرض سبحان الحي الباقي.
وهذه إذا لم تهرب فتنقلب نارها بردًا، ولكنه برد بغير سلام، فتهيم السيارات والأقمار من حولها في فضاءٍ من الزمهرير والظلام، ويومئذٍ لا يبزغ الصباح، فيذهب آفاق المشرق ولا يقبل المساء فيخيم على أرجائه بجيشه المطبق، ولا يكون إذ ذاك كسوف ولا خسوف، ولا تبدو القبة الزرقاء بلونها المألوف، ولكنها تلتحف السواد حدادًا على عالمها بالأمس، وقد التفَّ بكفن من الثلج فآوته منها إلى مثل ظلمة الرمس، ويومئذٍ تتجمد البحار فلا يكون ثمة موج يتنفس، ولا سحاب يتبجس، ولا سيل يتدفق ولا جدول يترقرق، وتركد حركة الهواء، فلا تهب شمال ولا صَبا، ولا تجري نسمة على الوهاد والربى، وأنَّى والشمس مصدر الحركة في العوالم، وقوام الحياة لكل قائم، فإذا هب الريح فالشمس هي التي تهب، وإذا دبت النعم فالشمس هي التي تدب، فإذا انتشر الغمام فهي التي تنتشر، وإذا انهمرت الغيوث فهي التي تنهمر؛ ألا وهي الشمس التي تجري في الأنهار، وهي التي تغرد في الأطيار، وهي التي تُزهر في الرياض، وهي التي يُسمع حفيفها في الغياض. وعلى الجملة، فالشمس هي روح الكائنات وفؤادها، وإذا ماتت الأفئدة فمحال أن تعيش أجسادها.
بل هو مثال الرونق والجمال، وآية الأبهة والإجلال، إذا برز من الأفق فانهزمت من وجهه جيوش الظلماء، وانفرجت الكواكب لمرِّه في عرض السماء، فأقبل يتنقل بينها وهو يمير عزة وخيلاء، فسمت إليه الأبصار إعجابًا وإكبارًا، وانصرفت إليه ابتهاجًا واستبشارًا، وانطلقت إليه النفوس نشاطًا وارتياحًا، واتسعت به الصدور انبساطًا وانشراحًا، وخلا إليه العاشق يتذكر وجه حبيبه، ولها به المحزون فسلا عن حبيبه ونسيبه، وآوى إليه المسهد فكان سميره في سهده، واتخذه المسافر رفيقًا فذهل به عن مخاوف سفره ومشقة جهده، وجلس إليه الشرب يتعاطَوْن مثل الشمس في مثله، وتساير بإزائه المتعاشقان يستبصران بنوره ويستتران بظله، وقد تخلل شعاعه نسج النسيم، حتى اتحد اتحاد الماء بسلافة النديم، فكان ألطف ما مر ببصر في ألين ما التحف بشر، فأسجل الشاهد أن لياله أصفى الأوقات، وأنه الجالي لأكدار النهار كما تجلى كدورة الظلمات.
لا بل هو مبعث الوحشة ومحرك الأشجان، ومثير هواجس الصدر وبلابل الجنان. إذا طلع في ليله وقد سكتت الأصوات، وسكنت الحركات ولم يبقَ إلا تموُّج الهواء باختلاف الأصوات الصوامت، وخفيف النسائم بين ورق الشجر المتخافت، فأرسل نوره الضعيف سابحًا في أنحاء الفضاء، مترقرقًا على وجه الغبراء، تظهر من تحته الوهاد المنبسطة في العراء، والقمم الشاخصة في الهواء، لا يمشي فيها حيوان ولا تسمع نأمة إنسان؛ فوقف المتأمل أمام مشهد ذلك الجمود وقد ملكت عليه مشاعره حتى توهَّم نفسه أنه بمعزل عن الوجود، فتخيل ما حوله من الأرض مجاهل خالية أو أطلالًا بالية، بل تخيل الأرض كأنها يوم خُلقت فهي أدغال وتنائف، وتصوَّر نفسه آدمها وقد وقف فيها بين الدهش والمخاوف؛ فخيمت فوقه وحشة العزلة، وأحاطت بنفسه هيبة الوحدة، وانبعثت الأشجان في صدره فتفرع لمناجاتها، وهاجت الذكر في نفسه فغاص بين تياراتها، وتوارد عليه من الخواطر ما حبَّب إليه اللحاق بعالم الفناء، ثم استهواه ما يرى من جمال الطبيعة فثابت إليه الرغبة في البقاء؛ فتمنى لو اتخذ سببًا إلى هذا العالم الماثل فوق رأسه، أو تعلق بما تدلَّى إليه من أشعة نبراسه، فربما تخيل أن هناك حدائق غلباء، ومدائن غناء، وقصورًا شاهقة، وأنهارًا دافقة، وأقوامًا يمرحون في نعيم، ويرتعون في خصب مقيم، وما تمت لو يعلم إلا كونٌ جامد، وقفر هامد، وسكوت سائد، وحطام خلق بائد، لا يخطر هنالك غادٍ ولا رائح، ولا يسمع صوت باغم ولا صادح ولا يسبح طائر في السماء، ولا يدب حيوان على العراء، ولا يخضرُّ وادٍ ولا أكمة، ولا تحسب أذيالها نسمة، ولا ينتشر سحاب ولا ضباب، ولا يترقرق ماء ولا سراب، ولكن جملة ما هنالك طلل داثر، وعالم من عوالم الدهر الغابر، بل جنازة يطاف بها حول الأرض، وإن لم تحملها المناكب، وقد صلت عليها السيارات فترحمت عليها الكواكب.
من تأمل كرور الأدهار، وتعاقُب الليل والنهار، ورأى الثواني تجرُّ الأيام، والأيام تجرُّ الأعوام، والناس يذهبون بين ذلك أفواجًا، ويمرون فرادى وأزواجًا، ورأى أن هذه الحركة التي نرى بها الشمس تطلع من المشرق، ثم نراها تغيب في المغرب، يتخللها من حركات دقائق الكون ما يمثل دبيب عوامل الفناء، حتى لا يرد كل منظور إلى عالم الهباء، وقف حائرًا دهشًا يتأمل في الكائنات وفي نفسه، وقد اختلط عليه الوجود بالعدم حتى كاد يتهم شواهد حسه، ثم نظر فتمثل وراءه ماضيًا تغيب أوائله في ظلمات الأزل، وأمامه آتيًا تتصل أواخره بحواشي الأبد، وهو بينهما كنفاخة قذفها التيار فوق أديم البحر، فما كاد يقع عليها ضوء الشمس حتى عادت إليه فغاصت فيه آخر الدهر؛ فملكه من الرهب ما ارتعشت له أعضاؤه، ومن الإشفاق ما جمدت له دماؤه، ثم تمنَّى لو تخلَّص من هذا الوجود المشوَّه، وأيقن أن الكون ضرب من الزور المموه؛ إنما هي صور تتبدل، وأشكال تتحول، وهي المادة إلى أن تنحل الأرض وينتثر نظام السيارات والأقمار، وتتبدد ذرات الشمس في الفضاء، فيُمحى رسمها من صحيفة الأدهار.
ودعنا القرن التاسع عشر كما يودِّع المرء يومه عند انقضائه، وقد تذكر ما لقي بين صباحه ومسائه، وما تقلَّب عليه من حالَي كدره وصفائه، ثم استشف من خلال ليله المقبل وميض صباح الغد باسمًا عن ثغور الآمال، مبشرًا بما فاته في يومه من الغبطة ونعمة البال؛ فبات يعد نفسه المواعيد، ويرى كل بعيد من الأوطار أقرب إليه من حبل الوريد. وقد ذهل أكثرنا عن أنه يودع شطرًا من دهره، وقد يكون من بعضنا أطيب شطرَي عمره، فإذا الْتفَت إلى خلفه رأى خيال نشأته وشبابه، وتمثلت له أوقات لذته ومجالس أترابه، والصفحة التي ارتسم عليها تاريخ ميلاده، ودوَّن فيه تذكار أبهج أعياده؛ فحن إلى أيامه السوابق، حنين المحب المفارق، وقد حيل بينه وبينها وطويت عليها صحيفة الفناء، وختم عليها بطابع الأبد فهي هناك إلى يوم اللقاء.
شعره
وقد رأيت أنه نظم الشعر في شبابه وقعد عنه في كهولته، على أن شاعريته ظاهرة فيما ظهر من شعره، وبين منظوماته ما جرى على ألسنة القوم مجرى الأمثال مع رغبته في كتمانه؛ إذ جمعه في كتاب بخط يده وضنَّ على الناس بنشره، وهو لا يزال باقيًا كما تركه؛ ومن أشهر شعره قصيدته السينية التي مطلعها:
وأختها التي مطلعها:
والقصيدتان مهيجتان، اقتضتهما بعض الأحوال السياسية في سوريا من التحريض على النهوض. ولعل الفقيد حمل على نظمها بإشارة جماعة أو أمر رجل كبير، فجاء نظمهما بليغًا.
ومن قوله في النسيب والغزل:
ومن قوله في الحكم:
ومن قوله في الحكم أيضًا:
ومن قوله في الرثاء:
ومما جرى مجرى الأمثال، ويصح أن يكتب بماء الذهب، بيتان قالهما في معرض ردٍّ على أحمد فارس الشدياق لمَّا انتقد كتب والده وشدَّد الطعن عليه، فقال الشيخ إبراهيم:
ومن نظمه ليكتب على عود:
ومن نكاته الشعرية:
وكانت له قريحة في الرياضيات واطلاع واسع في علم الفلك، اتصلت بسببه مخابرات بينه وبين بعض كبار الفلكيين الفرنساويين، واشتغل في حل المشكلة الرياضية المشهورة، وهي قسمة الدائرة إلى سبعة أقسام، وتوصَّل قبل وفاته ببضع سنين إلى حلٍّ يقرب من الصواب كثيرًا، بعث به إلى أكاديمية العلم في باريس، ولا نعلم ما صار إليه أمره. وكان عارفًا اللغة الفرنساوية، وله إلمام بالعبرية والسريانية، ومشاركة حسنة في العلوم الطبيعية.
أعماله وآثاره
نظرًا لما قدمناه من طبعه في التأنق والإتقان، وتوخِّيه التأنيَ والتدقيق، فقد جاءت ثمار قرائحه أقل مقدارًا مما كان يُرجى من مثله — كما قدمنا — فضلًا عن انصراف ذهنه في شبابه إلى الاشتغال بالحفر والرسم، على أنه خدم اللغة العربية من هذا الطريق خدمةً ذات بالٍ باصطناع حروف العربية في بيروت؛ وذلك أن الطباعة بالحروف الإفرنجية لم تكد تظهر بأوروبا بأواسط القرن الخامس عشر حتى اهتم أصحابها هناك باصطناع الحروف العربية، فاصطنعوا حروفًا طبعوا بها كتبًا بالبندقية وروما وباريس ولندرا وأكسفورد وغيرها، ولكلٍّ منها تقريبًا شكل خاص وإن تشابهت على الإجمال. ثم ظهرت الطباعة العربية في الآستانة، وحرفها يعرف بالحرف الإسلامبولي، ويشبه القاعدة التي تقرؤها في هذه الصفحة.
وفي أوائل القرن الثامن عشر ظهرت الطباعة في سوريا نقلًا عن حروفٍ رومية، ثم جاء المرسلون الأميركان إلى سوريا في أوائل القرن الماضي، ولهم مطبعة عربية في مالطة أسسوها سنة ١٨٢٢م، وحروفها من حروف مطابع لندن، وطبعوا بها كتابًا بعناية المرحوم الشيخ أحمد فارس، ثم نقلوها إلى بيروت سنة ١٨٣٤م، وبعد انتقالها بأربع سنين اهتم مديرها يومئذٍ المرحوم عالي سميث باصطناع حروفٍ جديدة، فاستخدم أحد كتبة الآستانة، فكتب له حروفًا جميلة سبكها في لايبسك، وهي الحروف الأميركانية المشهورة.
ولكن القاعدة الأميركانية على جمالها ورونقها كانت كثيرة النفقة في اصطناعها لكثرة أشكالها، والقاعدة الإسلامبولية تفضُلها من هذا القبيل، لكنها تقل عنها من جهاتٍ أخرى؛ فعُني الشيخ صاحب الترجمة سنة ١٨٨٦م بصنع قاعدةٍ جديدةٍ يجمع بها حسنات الحرفين، وهي القاعدة المعروفة بحرف سركيس؛ لأنها تسبك في مسبك خليل أفندي سركيس، صاحب لسان الحال في بيروت. وهي القاعدة الشائعة الآن في أكثر المطابع العربية في سوريا ومصر وأميركا. واصطناع هذه الحروف يحتاج إلى دقةٍ ومهارةٍ لا يعرف مقدارهما إلا من يعاني هذه الصناعة؛ لأن الحرف لا يتمثل للطبع إلا بعد أن يُحفر على قضيبٍ من الفولاذ حفرًا دقيقًا، ويقال له باصطلاح الطباعة «الأب»، ثم يُضرب على النحاس ضربًا حتى يُطبع غائرًا في النحاس، ويسمونه حينئذٍ «الأم»، وعلى هذه الأم يصبون الرصاص فيخرج الحرف المعروف في المطابع … فالشيخ كان يصطنع الأب من الفولاذ ويضربه على الأم النحاسية، واصطنع هذا الحرف عدة أقيسة. ولما جاء القاهرة صنع حرفًا على قياس متوسط بين الحروف الكبرى والصغرى يُعرف بحرف «بنط ٢٠»، وقد اتخذته مسابك القاهرة واصطنعوا له قوالب، وشاع استعماله في مطابعها، وبه طبعنا هذه الترجمة.
وأدخل في الطباعة العربية بعد قدومه مصر صورًا للحركات الإفرنجية، يحتاج إليها المعرِّبون في التعبير عن الحركات الخاصة بها التي لا مقابل لها في العربية، ولمَّا أرادت الحكومة المصرية صنع حروف مطبعة بولاق سنة ١٩٠٣م على قاعدة مختصرة مفيدة كانت الأبصار متجهة إلى الشيخ؛ لأنه أقدر من يستطيع ذلك بالدقة والرونق، ولو فوضت إليه هذا العمل لأحسنت صنعًا، واستثمرت قريحته ثمرًا نافعا للغة العربية على الإجمال.
أما آداب اللغة العربية فقد خدمها الشيخ خِدَمًا ذات بالٍ بما ألَّفه أو نقَّحه أو انتقده أو وضعه في المصطلحات الجديدة، وإليك البيان:
فمؤلفاته أكبرها «الضياء»، وقد ظهر منه ثمانية مجلدات، وفيها مقالات في مواضيع شتى، من جملتها مقالات ضافية في انتقادات لغوية يحسن أن يعاد طبعها على حدةٍ خدمةً لهذا اللسان، وهي: (١) اللغة والعصر. (٢) لغة الجرائد، فقد انتقد بها ما هو شائع في الصحف السيارة من الغلط اللغوي. (٣) مقالة في التعريب، بيَّن بها شروط التعريب وتاريخ ذلك من صدر الإسلام. (٤) أغلاط العرب القدماء. (٥) اللغة العامية واللغة الفصحى. (٦) أصل اللغات السامية. (٧) نقد لسان العرب، وهو بحث طويل انتقد به الطبعة المتداولة من معجم لسان العرب. (٨) أغلاط المولدين، بيَّن فيها ما وقع للمولدين من الغلط اللغوي في صدر الإسلام إلى الآن، وفي جملة ذلك ما وقع للمرحوم والده، ثم ذكر ما وقع هو نفسه فيه من الخطأ في بعض المواضع. فهذه المقالات وغيرها من الأبحاث اللغوية كمقالتيه في المجاز والنبر في اللفظ العربي، وغيرهما مما ظهر في البيان والطبيب، لو جُمعت لزاد مجموعها على مائتي صفحة، وفي الضياء مقالات فلكية في القمر وحركاته، والزهرة والمريخ والشمس والمشتري، وقياس الأجرام السماوية، وما وراء نبتون، وتكوُّن العالم الشمسي، وسعف الشمس، وغيرها مما يدخل في مائة صفحة أو مائتين. ومن مؤلفاته التي ظهرت كتاب «نجعة الرائد» في المترادف والمتوارد من ألفاظ اللغة العربية وتراكيبها، في مجلدين.
وكان (رحمه الله) قد شرع من سنوات عديدة في وضع معجم للغة العربية، يشتمل على المأنوس من كلام العرب الأولين، وعلى ما طرأ من موضوعات المولدين والمحدثين، مقتصرًا على الفصيح دون المولد، والمحدث في الاصطلاح، وسمَّاه «الفرائد الحسان من قلائد اللسان»، وقد شغلته العوائق عن إتمامه، وكنا نحسب موادَّه مجموعة كلها أو بعضها، فإذا هي تعاليق على حواشي الكتب وبعض المذكرات في أوراق متفرقة، لا يستطيع جمعها أو تأليفها سواه، فذهب الأمل بظهور ذلك الكتاب المفيد.
أما ما صححه من الكتب، فأهمها ترجمة التوراة اليسوعية التي تقدم ذكرها، وفيها خدمة كبرى في ضبط لغة المسيحيين لاكتساب الملكة الصحيحة بمطالعتها من صغرهم. ومما صححه وهذَّب عبارته تاريخ بابل وآشور تأليف جميل أفندي مدور، ونفح الأزهار في منتخبات الأشعار ودليل الهائم في صناعة الناثر والناظم للمرحوم شاكر البتلوني، وعقود الدور في شرح شواهد المختصر للمعلم شاهين عطية، ورسالة الغفران؛ غير ما صححه أو اختصره أو شرحه من كتب المرحوم والده؛ كمختصر نار القري، ومختصر الجمانة لمطالع السعد ومطالع الجوهر الفرد، والعرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب، وغيرها.
ومن آثار علمه أنه انتقى ألفاظًا اصطلاحية لما حدث من المعاني العلمية بنقل العلوم الحديثة إلى اللغة العربية بما عُرف به من سلامة الذوق في اختيار الألفاظ، وهاك أمثلة من ذلك مرتبة على أحرف الهجاء مع أصولها الفرنساوية:
الأربة | Cravate | الشمبنزي | Chimpanzé |
الاستعهاد | Assurance | الشحنة | Police |
الأسرب | Plombagine | الشعار | Armoiries |
الأنبوبيات | Bacilles | الشعرية | Brosse |
البائنة | Dot | الضلع | Fuseau |
البيئة | Milieu | الطارئة | Colonie |
التألق | Phosphorescence | الطبرخي | Cutta-Percha |
التليد | Acclimatation | الطلاء | Vernis |
الجناح | Balcon | الكفاف | Cadre |
الحاكي | Phonograph | اللهاة | Valve |
الحساء | Soupe | اللولب | Vis |
الحسر | Myopie | المأساة | Tragédie |
الحوذي | Cocher | المتمعجات | Vibrions |
الدراجة | Bicyclete | المجلة | Révue |
الدريئة | Écran | المحبب | Granit |
الذريرات | Microcoque | المصلد | Imperméable |
الراجبيات | Bactèries | المقصف | Buffet |
الرثية | Rhumatisme | المصقلة | Guillotine |
الرعاد | Torpille | المنضحة | Douche |
السفع | Tache (du soleil) | النابض | Ressort |
الشاري | Poratonnerie |
ومن هذا القبيل وضعه «النوام» لمرض النوم الذي حدث في أفريقيا مؤخرًا، و«المداد» القلم الحبر المشهور، وغير ذلك مما يصعب حصره.