خليل خوري
تمهيد في النهضة العلمية الحديثة ونصارى الشام
نريد بالنهضة العلمية الحديثة الانتقال الذي أصاب آداب اللغة العربية في القرن الماضي على أثر اختلاطنا بأهل التمدُّن الحديث، واقتباسنا علومهم المبنية على المشاهدة والاختبار، واقتفائنا آثارهم في إنشاء المطابع والجرائد وغيرها من عوامل التمدُّن، وكان العلم قبل هذه النهضة لا يزال على النمط القديم الذي بُني على أنقاض التمدُّن اليوناني والفارسي منذ نيِّفٍ وألف سنة، فكان معولهم في الطب على ابن سينا والزهراوي، وفي الحيوان على الجاحظ والدميري، وفي الكيمياء على جابر والرازي، وفي النبات على ابن البيطار، وقس على ذلك سائر العلوم الطبيعية والرياضية. على أنهم قلَّما كانوا يشتغلون بهذه العلوم، وإنما كان معولهم في الأجيال الوسطى على العلوم اللسانية؛ كالصرف والنحو والشعر، وبعض العلوم الأدبية؛ وكان ذلك قاصرًا تقريبًا على المسلمين — ولا سيما من حيث الشعر واللغة جريًا على سنة الاستمرار. ولما جاءنا التمدن الحديث، وقد حمله إلينا نصارى الغرب، كان نصارى الشام أسبق إلى اقتباسه من المسلمين.
وإذا أعملنا الفكرة في تاريخ هذه النهضة في الشام على الخصوص رأيناها مرت في نموها على ثلاثة أطوار: الأول يبدأ بدخول إبراهيم باشا الشام سنة ١٨٣٢م، وينتهي بحادثة سنة ١٨٦٠م؛ لأن إبراهيم حمل معه غرض أبيه من التقريب بين الطوائف المختلفة ليجتمع العرب تحت لوائه وينصروه في تأييد دولته، والتفت إلى نصارى الشام على الخصوص لقيام بعض رجالهم في نصرته، وكانت مصر قد سبقت سائر المشرق إلى إنشاء المدارس على النمط الحديث ولا سيما الطب. وكان مع إبراهيم جماعة من الأطباء المتخرجين في مدرسة الطب المصرية، وأراد مثل ذلك للسوريين فأجاز لهم إرسال عددٍ من أبنائهم إلى مدرسة الطب المصرية يتعلمون فيها على نفقة حكومتها — جعل ذلك قاعدة متبعة لم تبطل إلا من عهد قريب.
لم تطل إقامة إبراهيم في الشام فخرج منها سنة ١٨٤٠م وخلف في نفوس أهلها احترامًا للعائلة الخديوية، ورغبة في وادي النيل، وشوقًا إلى علومه، فأَمَّه كثيرون تلقَّوْا فيه الطب وغيره، وعادوا إلى بلادهم ينشرون ثمار رقيهم بين أهليهم وذويهم؛ فحدثت في نفوس القوم نهضة رافقها قدوم بعض جالية الإفرنج من المبشِّرين، وترغيب الناس في تعليم أبنائها مجانًا، فنبغ من نصارى الشام غير واحدٍ من الأدباء والشعراء كاليازجي الكبير، وكرامة، ومراش، وحسون، ودلال، وبعضهم اشتغل بالعلوم العصرية كالدكتور مشاقة بالشام، وآخرون بالتاريخ كطنوس الشدياق، ونبغ في هذا الطور أيضًا مارون النقاش واضع علم التمثيل في اللغة العربية.
ويبدأ الطور الثاني بالحوادث المشئومة التي أصابت بلاد الشام سنة ١٨٦٠م، فاهتزت جوانبها وانتقل المصابون من أهلها إلى بيروت، وداخلت فرنسا في شئونها، ووجدت سائر الأمم وسيلة لإنفاذ المبشرين، فابتنَوا المدارس الكبرى، وألفوا الجمعيات، وطبعوا الكتب في العلوم الحديثة وغيرها؛ فنشأت طائفة من الأطباء والعلماء والكُتَّاب أنشَئُوا الصحف وألَّفوا الكتب أو نقلوها أو لخصوها، وأصبحت بيروت مبعث العلوم العصرية ومنشأ رجال الصحافة وكُتَّاب الأدب والسياسة. وفي هذا الطور نبغ مؤسسو هذه النهضة، وفيهم أشهر كُتَّاب الشام وشعرائها في القرن الماضي، كالبستاني واليازجي والشدياق وأديب ونقاش وشميل وتقلا ونوفل ومشاقة وخوري وغيرهم، وأكثرهم من المسيحيين اللبنانيين. ووافق ذلك قيام إسماعيل على عرش الخديوية المصرية، وقد رغب الناس في النزوح إلى مصر، ونشط أهل الأدب، فنزح إليها جماعة منهم أنشَئُوا فيها الصحف ومثَّلوا الروايات وألَّفوا الكتب ونظموا الشعر. وينقضي هذا الطور بالانقلاب السياسي الذي أصاب مصر على أثر الحوادث العرابية.
والطور الثالث يبدأ بالاحتلال الإنكليزي بمصر لتكاثر الوفود من أدباء السوريين في أثنائه إلى وادي النيل للعمل بالأدب أو التجارة أو خدمة الحكومة أو الزراعة أو غيرها، وكان لهم شأن كبير في الحركة العلمية والمالية والصحافية، وكانت الهجرة في أول الأمر قاصرة على المسيحيين، ثم تطرقت إلى المسلمين، فهاجر منهم جماعة من الكُتَّاب والعلماء لأسباب لا محل لها هنا؛ فكأن الشام في الطور الثالث من نهضتها قد تقهقرت إلى الوراء، أو أنها وقفت حيث كانت. ويمتاز هذا الطور في بيروت بنبوغ طائفة من أدباء المسلمين اشتغلوا بالصحافة والعلوم الحديثة، فضلًا عن الأدب والشعر.
فالنهضة العلمية في الشام مرت على ثلاثة أطوار، يبدأ كلٌّ منها بفتح أو ثورة ولا نزال في الطور الثالث.
خليل الخوري
وأفضت مصر إلى سعيد باشا سنة ١٨٥٤م، وشخص إلى الشام سنة ١٨٥٩م، وأقام في بيروت ثلاثة أيام، فاحتفل به وجهاؤها، وكان إذا مشى في الطرقات نثر الذهب على الناس، فأحبوه ورغبوا في بلده، ولا يُقْدِم على ذلك غير الأديب الهمام، فشخص صاحب الترجمة إلى مصر، وكان ينظم الشعر من صباه، فنظم قصيدتين رفعهما إلى سعيد باشا، وحظي بمقابلته فأعجبه أدبه وذكاؤه، فعهد إليه أن يؤلف كتابًا في تاريخ مصر، فعاد إلى سوريا والحرب الأهلية ناشبة أظفارها، وقد جرت المذابح في دمشق وحاصبيا ودير القمر وغيرها، وألَّف الباب العالي لجنة دولية، مندوبها العثماني فؤاد باشا الشهير، فاحتاج إلى رجل يحسن التفاهم بينه وبين الناس فوقع اختياره على صاحب الترجمة، فتعيَّن في معيته، وكان رفيقه في مهمته، ولما رجع فؤاد ظل خليل بمعية قبولي باشا إلى الفراغ من تلك المهمة.
وكان في أثناء ذلك يشتغل بتأليف تاريخ مصر، ففرغ منه سنة ١٨٦٤م، وقد صارت الخديوية إلى إسماعيل باشا، فحمل الكتاب إليه فأجازه بألفي جنيه، ولم نقف على ذلك الكتاب ولا سمعنا به قبل البحث عن ترجمة هذا الفقيد. وعاد خليل إلى سوريا وقد أصبح موضع إعجاب رجال الدولة، فجعلت الحكومة جريدته رسمية لنشر أوامرها وأخبارها. ولما أُنشئت مطبعة سورية وجريدتها عهدت إليه بإدارتها، وأوعزت إليه حكومة لبنان على عهد فرنكو باشا أن يصدر جريدته باللغتين العربية والفرنساوية، وبذلت في مقابل ذلك ثلاثة آلاف قرش كل شهر، وعهدت إليه الحكومة العثمانية بتفتيش المدارس غير المسلمة في سوريا، وعينته مديرًا للمطبوعات فيها، وهي توالي عليه الإنعام بالرتب والنياشين، ثم عيَّنته سنة ١٨٨٠م مديرًا للأمور الأجنبية في ولاية سوريا، وظل في هذا المنصب حتى أُحيل على المعاش قُبيل وفاته.
وكان له شقيق أديب اسمه سليم، فيه نشاط أخيه وذكاؤه، فاشترك مع سميه المرحوم سليم شحادة في تأليف معجم مطول في التاريخ والجغرافية — لو تم لكان أحسن ذخيرة لآداب اللغة العربية — سمَّيَاه آثار الأدهار. فتُوفِّي سليم الخوري سنة ١٨٧٥م، ولم يصدر من الكتاب إلا بضعة أجزاء، فتوقف العمل. وكانت تلك الوفاة صدمة قوية على صاحب الترجمة، وخسارة كبيرة على اللغة العربية.
صفاته وأعماله
كان (رحمه الله) طويل القامة، حيوي المزاج، قوي البنية، أبيض اللون، أشهل العينين، أسود الشعر، بشوشًا مع هيبةٍ ووقار، وكان دمث الأخلاق، حسن المحاضرة، رقيق الجانب، ميالًا إلى البساطة، بعيدًا عن الأبهة والبهرجة، رحب الصدر، متوقد الذهن، سريع الخاطر، رقيق الإحساس، وتظهر رقة شعوره على الخصوص في شعره الغزلي، وكان وجيهًا، حسن الوفادة، بيته منزل الولاة والوزراء، يرتاحون فيه من عناء الأسفار، وله صداقة مع رجال الدولة، وكلمته نافذة عندهم، ونال الأوسمة والنياشين من معظم دول أوروبا، فضلًا عن رتب الدولة العلية ونياشينها.
وجمع إلى الوجاهة والسياسة الأدب والشعر، فرافق هذه النهضة من أوَّلها، وكان له شأن في أكثر عواملها؛ فقد رأيت أنه مؤسس الصحافة السورية، وقد أنشأ مطبعة نشر فيها عدة كتب. وهو من مؤسسي الشعر المصري، وكان شاعرًا مطبوعًا يميل بشعره إلى السهولة والرشاقة، وقد نظم الشعر في صباه وشبابه وكهولته وشيخوخته، وله عدة دواوين مطبوعة أكثرها في الغزل والمديح والتهنئة والرثاء، وأكثر مدحه للسلاطين ورجال الدولة؛ ولذلك سمَّوه شاعر الدولة، وكان لطريقته بالشعر العصري وقْع حسن لدى المستشرق رينو الفرنساوي، فنقل مثالًا منها إلى اللغة الفرنساوية نشره في المجلة الآسيوية الفرنساوية وفي الديبا وغيرهما. وذكره لامارتين الفرنساوي الشهير في مؤلفاته، وأثنى عليه وأظهر إعجابه به، وكانت بينهما صداقة ومراسلة، على أنه كان صديقًا لكثيرين من أدباء معاصريه من شعراء الترك والفرس والعرب، وأشهر دواوينه «زهر الربى» و«العصر الجديد» و«السمير الأمين» و«الشاديات» «والفتحات»، وكلها مطبوعة وتحتوي على ما نظمه إلى سنة ١٨٨٤م، أما منظوماته بعد ذلك فهي مجموعة في ديوان كبير لم يُطبع، ويمتاز عن سائر الشعراء أنه لم يستجدِ بشعره قط، ولولا ضيق المقام لأتينا بأمثلة من منظومه، وأحسنه في النسيب.
وله — فضلًا عن الشعر — كتب ومقالات في مواضيع شتى، أكثرها منشور في جريدته، ومنها رواية «النعمان»، و«حنظلة» المشهورة، وهي التي نظمها بعد ذلك المرحوم الشيخ خليل اليازجي وسمَّاها «المروءة والوفاء»، وترجمها إلى الفرنساوية ميشيل بك سرسق. وله رواية اجتماعية أخلاقية نشرها في الحديقة اسمها «وي إذن لست بإفرنجي»، وترجم عن التركية كتاب تكملة العبر لصبحي باشا، وهو تتمة تاريخ ابن خلدون، وطبعه. وتولى إدارة ترجمة الدستور التي قام بها المرحوم نوفل نوفل، وطبع مجلَّدَيْهِ الأول والثاني، ونشر عدة كتب مفيدة، وله خطب كثيرة بعضها غير مطبوع، وكان منشطًا للمشروعات الأدبية الخيرية من الجمعيات أو المدارس أو الصحف أو غيرها.
ولصاحب الترجمة حادثة غريبة في زواجه يندر اتفاقها؛ وذلك أنه أحب في شبابه نحو سنة ١٨٦٠م سيدة فاضلة من آل بسترس، اسمها كاتبة ابنة موسى بسترس، وكانت من العلم والأدب على جانبٍ عظيم، وقد حال أهلها دون اقترانهما، وزفت كاتبة إلى وجيه من آل نوفل، ثم تُوفِّيت وله منها ابنتان، فتزوج خليل إحداهما «ظافر» سنة ١٨٨٧م، ولم تعِشْ معه إلا سنة — رحمهما الله.