محمد علي باشا الحكيم
وكان راتب السيد محمد علي عند سفرته هذه مائة وخمسين قرشًا، فأوصى بخمسين منها لوالدته وأبقى لنفسه مائة، فدخل مدرسة باريس الطبية، وبذل غاية جهده في تحصيل علومها، فنال حظًّا وافرًا من سائر علوم الطب والجراحة، وشهد له أساتذته بالامتياز على سائر رفاقه مع أنه كان أصغرهم سنًّا، وما زالوا في تلك المدرسة حتى أتموا دروسهم وقدموا امتحاناتهم الشفاهية، ولم يبقَ عليهم إلا الامتحان الخطي، وهو عبارة عن تأليف رسالة في الطب يقترحها عليهم الأساتذة، فوردت عليهم الأوامر بالعودة إلى مصر، فعادوا فإذا بذلك الأمر قد صدر لهم سهوًا بغير علم العزيز، فأمر بعودتهم إلى باريس لإتمام الامتحان ونيل الشهادة الطبية، فعادوا إليها فامتحنوهم خطًّا، فألَّف المترجم رسالة طبية في الرمد الصديدي المصري، وقعت وقعًا حسنًا لدى أساتذته، فمنحوه الشهادة وعاد إلى مصر سنة ١٢٥٣ﻫ، وكانت شهرته قد سبقته إليها فتعيَّن حال وصوله باش جراح، وأستاذًا للعمليات الجراحية الكبرى والصغرى والتشريح الجراحي، وأنعم عليه محمد علي باشا إذ ذاك برتبة صاغقول أغاسي، ولم تمضِ مدة حتى نال رتبة بكباشي.
فلما كانت ولاية المغفور له عباس باشا الأول حصلت بينه وبين بعض أطباء المستشفى الأوروبي منافسة، فأمر بنقله إلى ثمن قوصون من أثمان القاهرة ليتولى التطبيب فيه على نفقة الحكومة، وكان قد ذاع صيته بين الناس، فتحوَّل المرضى من مستشفى قصر العيني إلى ثمن قوصون، وزاد اشتهاره بالفنون الطبية، وخصوصًا الجراحة، وما زال يطبب في ذلك الثمن خمس سنين متوالية، فأنعم عليه برتبة قائمقام، وتعيَّن رئيسًا لأطباء الآلايات السعيدية. ولكنه لم يمكث في ذلك المنصب إلا قليلًا، فاعتزل المناصب ولزم منزله سنة، ثم تعيَّن رئيسًا لجرَّاحي قصر العيني، وأستاذًا للجراحة، ووكيلًا للمستشفى والمدرسة الطبية، فقام بمهام أعماله حق القيام، فأنعم عليه برتبة أميرالاي، وكان ذلك في عهد المغفور له سعيد باشا؛ فقرَّبه منه وجعله حكيمه الخاص، وأدخله في معيته مع بقائه في مناصبه المشار إليها، ثم أحسن إليه برتبة المتمايز، فلما سافر سعيد باشا إلى أوروبا سار صاحب الترجمة في معيته.
ومما يهمني ذكره ليطَّلع عليه أبناء وطني أنه بلغني من بعض الأحباش أن الفقيد — تغمده الله برحمته ورضوانه — قد أقيم له قبر بالحبشة ببلدةٍ تُسمَّى جراع، ما بين عدوى وأسمرة، إلا أنها أقرب إلى هذه من تلك، وقد شيدوا فوق القبر قبة عظيمة يزوره فيها الأحباش على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم، ويقيمون له الدعوات، وليس ذلك إلا تعظيمًا له وتخليدًا لذكره، مع علمهم بأنه كان في مدة حياته سفاكًا لدمائهم، راغبًا في سلب أملاكهم، وإن يكن في ذلك مأمورًا لا آمرًا، وهي خدمة يستحق عليها أهل الحبشة الشكر والثناء لقيامهم بواجبٍ قصر عنه أبناء جنسه، وخصوصًا الذين ارتشفوا من بحر علومه.
وكان (رحمه الله) حائزًا للنيشان المجيدي من الرتبة الثالثة، ناله مكافأة لما بذله من الجهد وأظهره من الشهامة في حوادث الهواء الأصفر سنة ١٨٦٥م، وله في الطب مؤلفات حسنة، منها كتاب في العمليات الجراحية الكبرى، وضعه في اللغة العربية في مجلدين، وسمَّاه «غاية الفلاح في أعمال الجرَّاح»، وكتاب في الجراحة أيضًا في ثلاثة أجزاء، وباشر تأليف قانون في الطب، وقانون في الألفاظ الشرعية والمصطلحات السياسية، ولم يمهله الأجل لإتمامها.
وكان محبًّا لوطنه، راغبًا في ترقية شأنه، عاملًا على بث العلوم والمعارف بين أبنائه، غيورًا على الفقراء، طويل الأناة في معالجتهم، لا يلتمس على ذلك أجرًا، ومما يذكره له العارفون أن معظم أساتذة الطب ومن تولى رئاسة المدرسة الطبية بعده هم من تلامذته، وقد سمعنا الثناء عليه من جماعة كبيرة من الأطباء المصريين وغيرهم، وامتدحوا مهارته بنوع خاص في الفنون الجراحية. وقد أعقب أولادًا نجباء، عرفنا منهم الدكتور أحمد باشا حمدي.