الشيخ ناصيف اليازجي
ترجمته
هو الشاعر المطبوع، واللغوي المدقِّق، والنحوي المحقِّق، أحد أركان النهضة اللغوية في بلاد الشام، ابن عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط بن سعد اليازجي، اللبناني المولد، الحمصي الأصل، هاجر جدُّه سعد المذكور من حمص مع جماعة من ذويه نحو سنة ١٦٩٠م؛ لحَيْفٍ لحقهم في تلك الديار، فتوطَّن أناس منهم في ساحل لبنان في الجهة المعروفة بالغرب، وآخرون في وادي التيم، وتفرَّق بعضهم في مواطن أخرى، ولا تزال بقية أسرتهم في حمص ونواحيها، وهم عشيرة كبيرة مِن ذوي الوجاهة واليسار.
وكان مولدُ صاحب الترجمة في قرية كفر شيما، من قُرى الساحل المذكور، في ٢٥ مارس سنة ١٨٠٠م، وكانت وسائلُ التعليم إذ ذاك محصورة في جماعة الإكليروس، فتلقَّى القراءة البسيطة على يدي القس متَّى من قرية بيت شباب، وكان والدُهُ من الأطباء المشهورين في وقته على مذهب ابن سيناء، وكان مع ذلك أديبًا شاعرًا، إلا أنه كان قلَّما يتعاطى النَّظْم؛ لقلة الدواعي إليه إذ ذاك، ومن شعره أبيات قرظ بها ديوان الخوري حنانيا المنير أحد شعراء ذلك العصر، لم يحفظ منها إلا بيتان رواهما لنا حضرة حفيده اللغوي الشهير الشيخ إبراهيم اليازجي صاحب مجلة الضياء، وقد اعتمدنا عليه في تحقيق أكثر ما أثبتناه في هذه الترجمة؛ أما البيتان فهما قوله في مطلع ذلك التقريظ:
فنشأ ولده على الميل إلى الأدب والشعر، وأقبل على الدرس والمطالعة بنفسه، وتصفَّح ما تصل إليه يدُهُ من كتب النحو واللغة ودواوين الشعراء، ونَظَم الشعر وهو في العاشرة من عمره، ومن نظمه في الصبا قولُهُ:
ومن ذلك قوله أيضًا:
ولمَّا لم تكن الكتب لذلك العهد ميسورة — لقلة المطبوع منها — إذ لم يكن في البلاد السورية ولا المصرية إلا مطابع نادرة قلَّما كانت تشتغل بطبع الكتب العلمية؛ كان جُلَّ معتمده على كتب يستعيرُها من بعض الأديار والمكاتب القديمة، فمنها ما يقرأُها مرة فيحفظ زبدتها، ومنها ما ينسخها بخطه، ولا يزال كثير من تلك الكتب باقيًا إلى اليوم محفوظًا عند أُسرته، وهي جميلةُ الخط على القاعدة الفارسية، وبعضها يبلغ عدة مئاتٍ من الصفحات.
وقد بلغ من كل علم من علوم العربية لُبابه، ودرس أشهر مصنفاته، وله في جميعها تآليفُ مشهورةٌ، هي اليوم عمدة التدريس في أكثر المدارس المسيحية، وله ثلاثة دواوين شعرية تعدُّ من عيون الشعر، كثيرٌ منها محفوظٌ على الألسنة؛ ولا سيما الأبيات الحكمية منها، وهي في شعره أكثرُ مِن أن تُحصى.
وله المقامات المشهورة باسم مجمع البحرين، وهي ستون مقامة أودعها من فنون الإنشاء وصناعات البديع ومن غريب اللغة وألفاظها المنتقاة وأمثال العرب والآيات الشريفة؛ ما دلَّ على طُول باعه وغزارة محفوظه، وذلك فضلًا عما أودعها من المسائل العلمية في كل فن، وما ضمَّن شرحها من تواريخ العرب وأنسابهم ووقائعهم.
وكانت تتوارد إليه ركائب الزائرين من كل صقع وفيهم العلماء والوزراء، وفي جملة من زاره منهم محمد عزت باشا أحد قواد الجنود السلطانية، فمدحه بأبيات ارتجالية، يقول في مطلعها:
ومنها يقول:
وأقبل أكابر الشعراء من جميع الأنحاء العربية على مراسلته، ومدحوه بما دلَّ على وفور فضله وعلوِّ كعبه في الشعر والأدب، ومما قال فيه الشيخ عبد الباقي العمري البغدادي، حين وقف على النبذة الأولى من ديوانه:
وهي قصيدة طويلة يقول منها:
وقرَّظ هذه النبذة أيضًا الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري بقصيدة مطلعها:
ومن هذه القصيدة يقول:
ومما قال فيه الشيخ إبراهيم الأحدب الطرابلسي:
وكفى بهذا القدر شاهدًا على منزلته في عيون جلَّة العلماء من أهل عصره، وهي أول مرة مُدِح فيها مسيحي بمثل هذا الكلام، وأجمع مثل هذه الطبقة على إطرائه وتفضيله، ومن رام الوقوف على سائر أقوالهم فيه فليطالع ذلك في مجموعة هذه المراسلات المسماة بفاكهة الندماء.
ثم إنه ما زال عاكفًا على التعليم والتصنيف والنظم والنثر حتى أصيب بمرض عضال سنة ١٨٦٩م، فانفلج فالجًا نصفيًّا عطَّل شطره الأيسر، فلزم داره، ولكنه ما برح ينظم الشعر ويتلقَّى السائلين والمستفيدين، إلى أن فاجأه القدر بوفاة بِكره المرحوم الشيخ حبيب، فوقع ذلك الحادث عليه وقوع الصاعقة، ولم يعِش بعد ذلك إلا أربعين يومًا، وكان قد بدأ بنظم قصيدة يرثيه بها، ثم غلب عليه الحزن حتى لم يعد يملك عنان قريحته؛ ومما نظم في هذه القصيدة قوله:
وهي آخر ما نظمه، وبعد أيام عاودته السكتة الدماغية فمات فجأة، وكانت وفاته في ٨ شباط (فبراير) سنة ١٨٧١م بعدما لزمه الداء ما يقرب من سنتين، فعظم خطبه عند كل من عرف فضله أو سمع بذكره، وكان له مأتم حافل شهده الكبراء والعظماء من بيروت ولبنان، ومشى في جنازته ما ينيف عن عشرة آلاف نفس.
ووُلد له ١٢ ولدًا ورثوا ذكاءه وسرعة خاطره، ولم يخلفه منهم في خدمة اللغة وآدابها إلا الشيخ إبراهيم صاحب الضياء.
صفاته
وكان (رحمه الله) معتدل القامة فوق الربعة، أسمر اللون حنطيه، أسود الشعر، أجش الصوت، مهيبًا، وقورًا، شهمًا، كاملًا، متواضعًا، متأنيًا في حديثه، قليل الضحك، عفيف اللسان، لم تُسمع له كلمةٌ بذيئةٌ قط؛ لا في حديثه ولا في كتابته، ولم يهجُ أحدًا ولا هجاه أحدٌ في زمانه، غير بيتين قالهما على سبيل الفكاهة في بخيل؛ وهما:
وكان إذا ذُكر أحد أمامه بسوء أطرق وأغضى كأنه لا يسمع، وكان ودودًا مخلصًا، سريع الفهم، قوي الذاكرة، متسع المدارك، إذا حدَّث أخذ بمجامع القلوب لكثرة رواياته ونكاته، وكان يروي القصة بتواريخها وأسماء أصحابها وأسماء بلدانهم، ولم يكن على شيء من التأنق في اللفظ، ولكن حديثه كان كأبسط أهل وقته.
ومن غريب ذاكرته أنه كان إذا نظم الشعر لا يكتبه بيتًا بيتًا، ولكنه كان ينظم الأبيات ثم يكتبها، حتى إنه في مدة اعتلاله نظم مرة ثمانية عشر بيتًا ثم أملاها دفعة واحدة، وقد ألَّف إحدى مقاماته، وهي المقامة اليمامية، على ظهر الفرس، وكان مسافرًا بأهل بيته من بيروت إلى بحمدون سنة ١٨٥٣ بقصد الاصطياف، فلمَّا انتهى إليها أخذ قرطاسًا فعلقها، وكان يحفظ القرآن بتمامه، ويعي من الشعر شيئًا كثيرًا؛ ولا سيما شعر المتنبي؛ لشدة إعجابه به، وكان يقول: كأن المتنبي يمشي في الجو وسائر الشعراء يمشون على الأرض.
شعره
أمَّا شعره فهو النهاية في السلاسة والانسجام وحسن اختيار الألفاظ والتراكيب، فضلًا عمَّا له من المعاني المبتكرة، والإكثار من الحكمة، وضرب الأمثال، ومع قلة رغبته في الغزل فإن الغزل القليل الذي له في منتهى الرقة، مثل قوله:
وقوله:
وقوله:
وقوله:
وقوله — وهو مما نظمه في صباه:
ومن نظمه في المديح قصيدة مدح بها أسعد باشا قائد جيش البلاد العربية، قال فيها:
وله في الحِكَم شيء كثير، منه قصيدة جرت أبياتها مجرى الأمثال، مطلعها:
ومنها:
ومنها:
وله من قصيدة:
وله في صناعة التاريخ الشعري اليد الطولى والتفنُّن الغريب، ولم يحدث حادث هام في أواسط القرن الماضي يستحق حفظ تاريخ حدوثه إلا نَظَمَ الشيخ اليازجي أبياتًا في تاريخه، ومن أشهر ما نظمه في هذا الباب بيتان قالهما في فتح عكاء، يتضمنان ٢٨ تاريخًا، وبيتان آخران نظمهما في السلطان عبد العزيز، وله من هذا القبيل قصيدة هنَّأ بها إبراهيم باشا المصري بفتح عكا، ضمَّن كل بيت منها تاريخين لسنة ١٢٤٨ﻫ، يقول في مطلعها:
ومع التزامه التاريخ فيها لا ترى تكلُّفًا في تركيبها مطلقًا.
ومن مديحها قوله:
وله قصيدة من هذا النوع في مدح السلطان عبد العزيز، وقد أمر له بالإنفاق على طبع بعض كتبه من الخزينة الخاصة، مطلعها:
ومن مخترعاته في فن النظم عاطل العاطل؛ وهو أن تكون أحرف الكلمة خالية من النقط، وإذا تهجأت اسم الحروف كان هجاؤه أيضًا خاليًا من النقط، وهذه الأحرف ثمانية فقط؛ وهي الحاء والدال والراء والصاد والطاء واللام والهاء والواو، وقد نظم من هذا الجناس أربعة أبيات في مقاماته مجمع البحرين، وهي هذه:
وقد نظم من جناس ما لا يستحيل بالانعكاس أربعة عشر بيتًا، وهي أيضًا في مقاماته، ولم يُسمع بهذا المقدار لشاعر قبله، ونظم بيتين طردهما مديح وعكسهما هجاء، وهذا من مبتكراته، وهما في المقامات أيضًا، وله فيها غير ذلك من الفنون مما نستغني عن سرده بشهرتها.
مؤلفاته
وأما مؤلفاته — سوى ما تقدَّم ذكره من دواوينه ومقاماته — فمعظمها من الكتب المدرسية لتلقي العلوم الأدبية، وقد سلك فيها؛ ولا سيما في الصرف والنحو، مسلكًا تدريجيًّا يناسب حالة الطالب في كل سن؛ فمنها المختصر الذي لا اختصار بعده؛ كالرسالة المسماة بالجوهر الفرد، وقد جمع فيها الصرف والنحو في ست صفحات؛ ومنها المطوَّل الذي أتى فيه على أشهر أقوال المصنفين في هذين العلمين، مع الإحاطة بجميع قواعدهما، وتعليل أحكامها؛ كالأرجوزتين اللتين سمَّى إحداهما الجُمانة في علم الصرف، والأخرى جوف الفرا في علم النحو، تشتملان على ما يزيد عن ألف وخمسمائة بيت، وكل واحدة منهما مشروحة بقلمه شرحًا مستوفيًا، وله بين ذلك تآليف أُخر منها بالنثر، وهي فصل الخطاب في الصرف والنحو أيضًا، وهو جامع لأصول هذين العلمين، وقد وقع إجماع المدرسين على أنه أفضل متن وُضع فيهما، وقد جمع فيه بين الإحاطة والاختصار، حتى لا يمكن أن يُحذف منه كلمة ولا يُزاد عليه كلمة.
وفي طبقته وعلى أسلوبه عقد الجمان في علم البيان، ونقطة الدائرة في العروض والقوافي، وقطب الصناعة في المنطق، وهذه الكتب الأربعة مشروحة بقلمه.
ومن ذلك أرجوزتان مختصرتان في الصرف والنحو، مشروحتان بقلمه أيضًا، سمَّى الأولى لمحة الطرف في أصول الصرف، والثانية الباب في أصول الإعراب، ومختصر آخرُ في النحو سمَّاه طوق الحمامة، وهو نثر. وله في البيان أرجوزة مختصرة سمَّاها الطراز المعلم، وأرجوزة أُخرى في النطق سماها التذكرة، وشرح كلًّا منهما شرحًا موجزًا، وله أرجوزة مطوَّلة في فن العروض والقافية، وهذه شرحها ولده المرحوم الشيخ حبيب، وهذه التآليف كلها مطبوعة.
ومن مؤلفاته التي لم تُطبع، رسالة في التوجيهات النحوية، سمَّاها عمود الصبح، انتهى فيها إلى المفعول فيه، ولم يُفسح له في الأجل لإتمامها، وأرجوزة مختصرة في الطب القديم سمَّاها الحجر الكريم، وشرحها بقلمه، ومعجم في أعضاء الإنسان والصفات التي على أفعل سمَّاه بجمع الشتات في الأسماء والصفات، وشرح لبديعيته سمَّاه القطوف الدانية، استوفى فيه جميع الجناسات والأنواع البديعية.
وكان قد شرع في وضع شرح لديوان المتنبي، وكان يعلِّق عليه الحين بعد الحين بما يعن له من التفاسير؛ ولا سيما للأبيات الغامضة، فأتمَّه من بعده ولده الشيخ إبراهيم وسماه العرف الطيب في ديوان أبي الطيب، وقد طُبع هذا الشرح سنة ١٨٨٢م.