سليم بسترس
إن عائلة بسترس من أشهر عائلات سوريا غنًى ووجاهة، وقد نبغ منهم جماعة اشتُهروا بالذكاء والإقدام والمهارة في الشئون التجارية، نذكر اليوم ترجمة أحدهم المرحوم سليم بسترس بن موسى بسترس من نوابغ أواسط القرن الماضي. ومما دعانا إلى نشر ترجمة هذا الرجل بنوع خاص أنه كان على غناه ووجاهته ميالًا إلى العلم، راغبًا في اكتسابه ونشره، وذلك نادر في بلادنا؛ فهو يجدر أن يكون مثالًا لأهل اليسار، وفيهم من يحسب العلم مهنة الفقراء، وإذا قيل لهم تعلَّموا قالوا وما ينفعنا العلم ونحن لا نحتاج إلى كسب — كأن العلم والغنى لا يتفقان. وهي أوهام تقادم عهدها وآن لنا أن ننزعها، وما من عاقل إلا وهو يعلم أن العلم زينة الغنى، ودعامة التمدن، وإكليل الملوك، بل هو نور العالم ودليل الإصلاح.
فنرجو أن تكون ترجمة سليم بسترس قدوة لهم حسنة، وإليك هي:
وكانت أحوال أوروبا في فتوته مجهولة لدى السواد الأعظم في سوريا، فسافر إليها سنة ١٨٥٥م، وجاب بعض ممالكها، وألَّف في رحلته كتابًا مفيدًا سمَّاه الرحلة السليمية، حرَّض فيه أبناء وطنه على طلب أسباب تقدُّم أوروبا، وضمَّنه كثيرًا من النصائح والحكم، ومما قاله في تقدُّم الأمم: «إنه يكون بالاتحاد والتعاضد والاجتهاد، وبتغيير عناصر التعصب، واتباع السنن العمومية؛ إذ هي مفتاح الترقي، وأن أفراد الرجال هم الذين يبثون الآراء الصحيحة بين الناس بكتاباتهم وكلامهم وقدوتهم.» وقد عرَّب عدة روايات قصد بها استصلاح العادات، وبث الآراء الصحيحة، والاحتفاظ بالآداب، جعلها أقاصيص يصبو الناس إلى مطالعتها.
وسنة ١٨٦٠م استوطن الإسكندرية قصد الاتجار، وسافر سنة ١٨٦٦م ثانية إلى أوروبا وأنشأ بيتًا تجاريًّا في ليفربول، ثم جاء بيروت سنة ١٨٦٩م لزيارة أهله وخلانه، ولما عاد إلى إنكلترا انتقل بيته التجاري إلى لندن. وسنة ١٨٧٢م قدم بيروت زائرًا، وفي أول أيلول (سبتمبر) سنة ١٨٧٤م زُفَّت إليه في مدينة لندن أدما ابنة ابن عمه حبيب جرجس بسترس، فرُزق منها ولدين؛ البكر إسكندر موسى عرابه القيصر إسكندر الثاني إمبراطور روسيا الأسبق، والثاني فلديمير عرابه القيصر إسكندر الثالث والد القيصر الحالي، وهي حظوة يُستدل بها على ما كان له من المكانة في البلاط الروسي.
وكان يهب جمعيات الإحسان الخيرية في سوريا وإنكلترا وغيرها من ممالك أوروبا، وكان عضوًا في جملة جمعيات؛ منها الملجأ ببطرسبرج، وجمعية القديس يوحنا الأورشليمي في لندن، فقلَّدته وسامها المخصوص، ومنحته لقرينته بعد وفاته، وقد أحرز شهرة حسنة في سوريا وبلاد الإنكليز.
كان صادقًا كريمًا، معروفًا بالفضل والنبل وسعة المعارف، فنال الوسام المجيدي العالي الشأن من العواطف الشاهانية، ومنحه إمبراطور روسيا وسام سنت آن (القديسة حنة) الثالث، ووسام الصليب الأحمر، ووسام سان ستانسلاس الثاني، وكانت وفاته بعلَّة القلب في مصيفه في فلكستن قرب لندن في ٣ شباط (فبراير) سنة ١٨٨٣م، وقد نُقلت جثته إلى بيروت، فدُفن فيها سنة ١٨٨٥م.
وقد عُني بعضهم في جمع مراثيه وأقوال الجرائد فيه وصور الرسائل العديدة التي كانت ترد عليه من وزراء الروس وحُجَّاب الإمبراطور الروسي، وطبعها في كتاب يُسمَّى صدى الحسرات، طُبع في بيروت في مطبعة القديس جاورجيوس سنة ١٨٨٥م — فلتراجع فيه — وله ديوان شعر اسمه أنيس الجليس.